موائد الإيمان (1): الصِّيام الحقيقيُّ

هي محاضرات للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، أُلقيت في أيَّام السَّبت خلال شهر رمضان المبارك 1440هـ، وقد تمَّ تفريغها من تسجيلات مرئيَّة، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبة للقارئ الكريم.

الصِّيام الحقيقيُّ
السَّلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
أُهنِّئكم بهذا الشَّهر الفضيل، شهر الله، شهر الرَّحمة، وشهر البَرَكة، سائلًا المولى القدير أنْ يجعله شهر أَمنٍ وأمان على كلِّ أمَّتنا الإسلاميَّة، وعلى كلِّ شعوبنا الإسلاميَّة، وعلى العالم.
الحديث اليوم عن الصِّيام الحقيقيِّ.

ما هو الصِّيام الحقيقيُّ؟
الصِّيام الذي يريده الله تعالى، والصِّيام الذي أرادته النُّصوص الدِّينيَّة، لا الصِّيام الذي نريده نحن!
قد نصوم صومًا لكنَّه ليس الصَّوم الذي يريده الله تعالى، وليس الصَّوم الذي تريده النُّصوص الدِّينيَّة.

إذًا، ما هو الصَّوم الحقيقيُّ؟
ما هو الصَّوم الذي يريده الله تعالى، وتريده النُّصوص الدِّينيَّة؟

شروط الصَّوم الحقيقيِّ

إنَّ الصَّوم الحقيقيَّ يحتاج إلى ثلاثة أنواع وأنماط من الشُّروط، فإذا توفَّرت هذه الأنواع من الشُّروط – في الصِّيام – كان صومًا حقيقيًّا كما أراد الله تعالى، وكما أرادت النُّصوص.
النَّمط الأوَّل: الشُّروط الفقهيَّة
النَّمط الثَّاني: الشُّروط الرُّوحيَّة
النَّمط الثَّالث: الشُّروط العمليَّة

إنَّ كلَّ صيام لا بدَّ وأنْ يتوافر على هذه الأنماط من الشُّروط.
توجد شروط فقهيَّة يذكرها الفقهاء في رسائلهم العمليَّة.
وهذه شروط للصِّيام، ولكن نسمِّيها شروطًا فقهيَّة.
ولا يكفي توفُّر هذه الشُّروط الفقهيَّة لتحقُّق الصِّيام الحقيقيِّ.
قد تتوفَّر كلُّ الشُّروط الفقهيَّة وبدقَّة إلَّا أنَّنا ومع ذلك لا نسمِّيه صومًا حقيقيًّا!!
فلا بدَّ من توفُّر شروط أخرى نسمِّيها شروطًا روحيَّة.
بل وقد تتوفَّر كلٌّ من الشُّروط الفقهيَّة وكذا الشُّروط الرُّوحيَّة، ومع ذلك لا نسمِّيه صومًا حقيقيًّا، وذلك إذا لم تتوفَّر الشُّروط العمليَّة!
إذًا، إنَّنا أمام منظومات من الشُّروط، وكلُّ منظومة تحقِّق جانبًا من الصِّيام، وإذا تكاملت هذه المنظومات الثَّلاث من الشُّروط تحقَّق الصِّيام الحقيقيُّ.

وسنتناول – بشكل مبسَّط – هذه الأنماط من الشُّروط.

النَّمط الأوَّل – من الشُّروط -: الشُّروط الفقهيَّة
وهي الشُّروط المعروفة في كتب الفقه، ويتحدَّث عنها الفقهاء، وهي:

شروط التَّكليف، كأنْ يكون الصَّائم بالغًا، عاقلًا.
وشروط صحَّة الصِّيام، كأنْ ينوي الصِّيام، وأنْ يتجنَّب مجموعة من الممنوعات تسمَّى المفطِّرات.

فإذا نوى الصِّيام قربة لله تعالى، وأصبح على غير جنابة، وامتنع عن المفطِّرات الفقهيَّة – العشرة، أو الأكثر، أو الأقل منها – التي يذكرها الفقهاء، فهنا يكون قد صام صومًا فقهيًّا، وأنَّ صومه من النَّاحية الفقهيَّة صحيح.

فإذا نوى الصِّيام – والنِّيَّة بالطَّبع حالة قلبيَّة وليست لفظيَّة بقوله: أصوم، بل هي حالة قلبيَّة، وقصد داخليٌّ، وباعث داخليٌّ -، وتجنُّب كلَّ المفطِّرات والمحظورات نسمِّيه صائمًا إلَّا أنَّ ذلك من النَّاحية الفقهيَّة فحسب!

أي هذا صائم فقهيًّا!
ووفق الضَّوابط الفقهيَّة، فهو صائم وفق الشُّروط – التي يتناولها العلماء – كشروط الصِّيام، وشروط النِّيَّة، واستمرار النِّيَّة، وتجنُّب المفطرات المذكورة في كتب الفقه.

إذا تحقَّق هذا الجانب من منظومة الشُّروط الفقهيَّة تحقَّق الصِّيام الفقهيُّ، فهو صائمٌ فقهيًّا، ويسمِّيه الفقهاء صائم.

إلَّا أنَّ هذا لا يكفي لتحقُّق الصِّيام الواقعيِّ عند الله سبحانه!

النَّمط الثَّاني – من الشُّروط -: الشُّروط الرُّوحيَّة
ولذا نحتاج إلى لون آخر من الشُّروط نسمِّيه الشُّروط الرُّوحيَّة.
إنَّ الشُّروط الرُّوحيَّة لا يذكرها الفقهاء، بل تذكرها كُتب الأخلاق.

الكتب التي تعالج القضايا الرُّوحيَّة.
الفقهاء لا يدرجون الشُّروط الرُّوحيَّة في كتبهم.
فمثلًا: طهارة القلب، لا تجد هذا الشَّرط مكتوبًا في كتب الفقهاء عندما تقرأ في الرَّسائل العمليَّة، مع أنَّ الصّيام الواقعيَّ يشترط فيه طهارة القلب!
ورد في خطبة النَّبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «…، فاسألوا الله ربَّكم بنيَّات صادقة، وقلوب طاهرة أنْ يوفِّقكم لصيامه، …». (جامع أحاديث الشِّيعة 9/20، البروجردي)
إذًا، لا يتوفَّق الإنسان للصِّيام إلَّا إذا طهَّر النِّيَّة، وطهَّر القلب.

هذان شرطان أساسان في صحَّة الصِّيام، ووجود الصِّيام الحقيقيِّ الذي يريده الله تعالى.

فإذا صمتُ وقلبي ملوَّث، ومملوء بالحقد، والشَّحناء، والبغضاء، فهذا ليس صيامًا حقيقيًّا، نعم، هو صيام من النَّاحية الفقهيَّة.

أمَّا من النَّاحية الرُّوحيَّة فليس صيامًا مادام قلبي مشحونًا بمجموعة ملوِّثات.

فإذا أردت أنْ أصوم صومًا روحيًّا يجب أنْ أُنقِّي النَّيَّة تنقية صادقة، وبإخلاص حقيقيٍّ، وطهارة قلب حقيقيَّة، وأتوافر على شروط – أسمِّها – روحيَّة.

فإذًا، إذا توافرت على الشُّروط الفقهيَّة فحسب، فقد صمت صومًا فقهيًّا.

وإذا توافرت على طهارة القلب، وطهارة النَّفس، وطهارة الضَّمير، فقد صمت صومًا روحيًّا.
ولا شكَّ أنَّ الصَّوم الرُّوحيَّ هو أرقى من الصَّوم الفقهيِّ!

وليس معنى ذلك أنَّ الصَّوم الرُّوحيَّ ليس مشروطًا فيه الصَّوم الفقهيَّ، حيثُّ إنَّ ذلك طبيعيٌّ.

إلَّا أنَّه حتَّى أرتقي أكثر، فمن اللَّازم أنْ أتوافر على شروط روحيَّة.

إنَّ الصَّوم الفقهيُّ لربما هو صوم أغلب العوام، حيث إنَّ أغلب النَّاس صومهم فقهيٌّ، وهو صوم البطن، وصوم الفَرْج.

إنَّ أكثر النَّاس صومهم فقهيٌّ، إلَّا أنَّ هناك نمطًا من النَّاس يرتقون إلى الصَّوم الرُّوحيِّ، حيث توجد طهارة، ويوجد نقاء، ويوجد صفاء داخليٌّ، فهذا نمط أرقى.

إذا توفَّرنا على الصَّوم الفقهيِّ، وتوافرنا على الصَّوم الرُّوحيِّ – صوم لا رياء فيه، ولا عجب فيه، وهو نقيٌّ – يبقى أنَّنا نحتاج إلى أنْ نتوافر على صوم بالشُّروط العمليَّة.

هل عندما أصوم صومًا فقهيًّا – وقلبي طاهر، ونقيٌّ، ولا أحمل الشَّحناء، ولديَّ نيَّة صادقة، وخالصة – فقد اكتمل الصَّوم؟!

بالطَّبع: لا!
لأنَّ الصَّوم الحقيقيَّ هو الذي يتحوَّل إلى صوم عمليٍّ.

النَّمط الثَّالث – من الشُّروط -: الشُّروط العمليَّة
ما معنى الصَّوم العمليُّ؟

الصَّوم العمليُّ هو الصَّوم الذي يستطيع أنْ يصنع منك إنسانًا نظيفًا متَّقيًا ورِعًا.

إنَّ الصَّوم إذا استطاع أنْ يهذِّب سلوكي، ويُنقِّي سلوكي، ويجعلني متَّقيًا، فالقرآن الكريم يقول: ﴿… كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. (سورة البقرة: الآية 183).
إذًا، يوجد هدف للصِّيام.
توجد رسالة.
توجد وظيفة.
فإذا لم يتحقَّق هذا الهدف للصَّيام، فلا أعتبر أنَّني قد صمت!

إنَّ الهدف من الصِّيام أنْ يصنع منِّي إنسانًا صائمًا، والإنسان الصَّائم هو الإنسان النَّظيف، حيث يصوم عن الهوى، وعن المعاصي، وعن الذُّنوب، وعن الموبقات.

إذا لم تصم جوارحي لم أصم الصَّوم الحقيقيَّ المتكامل.
لا بدَّ من صوم الجوارح.
لا بدَّ من التَّقوى.
لا بدَّ من الورع.
لا بدَّ من تجنُّب المعاصي.
فإنَّ كلَّ ذلك يحقِّق الصِّيام.
لذلك النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) منذ أنْ خطب خطبته الرَّمضانيَّة المعروفة – كما يذكرها الشَّيخ القمِّي في مفاتيح الجنان (الصَّفحة 283)– والتي أؤكِّد دائمًا على ضرورة أنْ تُقرأ قبل الشَّهر، وأثناء الشَّهر، في كلِّ أسبوع، فاقرؤوا خطبة النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فهي خطبة قصيرة، فأنت لربما تقرأ صفحات من أدعية مفاتيح الجنان، فهذه الخطبة تقع في صفحة ونصف، فاقرأها كما تقرأ الأدعية، واضبط معانيها، وحاول أنْ تطبِّق مضامينها.

هذه خطبة مهمَّة، تؤسِّس لصيام راقٍ، صيام يريده الله سبحانه وتعالى.
إنَّ النَّبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد أن انتهى من هذه الخطبة الرَّمضانيَّة التي يهيِّئ فيها عقول المسلمين، وقلوبهم، وأرواحهم لصيام حقيقيٍّ قام أمير المؤمنين (عليه السَّلام) – مع أنَّ الصَّحابة كانوا موجودين – «…، قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام)، فقمت، وقلتُ: يا رسول اللَّه، ما أفضل الأعمال في هذا الشَّهر؟

فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشَّهر الورع عن محارم اللَّه (عزَّ وجلَّ)». (الوافي 11/368، الفيض الكاشاني)
قام أمير المؤمنين (عليه السَّلام) سائلًا النَّبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): أنت ذَكرت لنا يا رسول الله مجموعة أعمال، حيث توجد صلاة، وتوجد تلاوة قرآن، وتوجد مبرَّات، وتوجد صدقات، وتوجد صلة رحم، ويوجد ما شاء الله ما شاء الله من أعمال عظيمة كإفطار صائمين!
إلَّا أنَّ َ أمير المؤمنين (عليه السَّلام) يسأل عن أفضل عمل في شهر رمضان!

ولربما عليٌّ (عليه السَّلام) يعلم بذلك، ولكن السُّؤال كان لتعليم المسلمين، للصَّحابة، حيث: «…، قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام)، فقمت، وقلتُ: يا رسول اللَّه، ما أفضل الأعمال في هذا الشَّهر؟

فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشَّهر الورع عن محارم اللَّه (عزَّ وجلَّ)»، هذا أفضل عمل!

معنى الورع عن محارم الله تعالى
ما معنى الورع عن محارم الله سبحانه وتعالى؟
معناه تجنُّب المعاصي!
العين لا ترتكب معصية!
الأُذُن لا ترتكب معصية!
اللِّسان لا يرتكبُ معصية!
اليد، والرِّجل وكلُّ جوارح الإنسان، والقلب – أيضا – لا ترتكب معصية.
مثل ذلك يُعدُّ تجنُّبًا للمعاصي، تجنُّبًا للمحارم.
الورع عن محارم الله تعالى يعني الأمور التي حرَّمها الله سبحانه.
يوجد منطقة محظورة لا يسمح للمسلم أنْ يقتحمها.

إذا استطاع الصِّيام، وشهر رمضان أنْ يصنعا عندي حواجز تمنعني من السُّقوط في حبائل الشَّيطان، وفي شباكه، فقد صمت صومًا حقيقيًّا، فهذا أفضل الأعمال، وهو: «الورع عن محارم الله».

إنَّ المعاصي والذُّنوب لها آثار خطيرة جدًّا – لن أتناول الآن آثار الذُّنوب الخطيرة، ولعلَّي في حديث قادم أتناول هذه الآثار -، هنا أؤكِّد أنَّ الصَّوم العمليَّ هو الصَّوم الذي يتحوَّل فيه الإنسان إلى إنسان نظيف مستقيم.

اسمعوا هذه الرِّواية التي يذكرها ثقة الإسلام الكلينيُّ في (الكافي)، وهي: «…، عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لجابر بن عبد الله: يا جابر، هذا شهر رمضان، مَن صام نهاره، وقام وِرْدًا من ليله، وعفَّ بطنه، وفَرْجُه، وكفَّ لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشَّهر.
فقال جابر: يا رسول الله، ما أحسن هذا الحديث!
فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): يا جابر، وما أشد هذه الشروط»! (الكافي 4/87، الشَّيخ الكليني)

إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حدَّث جابر بن عبد الله الأنصاري – أحد الصَّحابة المعروفين -، وحينما يتحدَّث النَّبيُّ مع صحابيٍّ فهو خطاب لكلِّ الصَّحابة، وهو خطاب لكلِّ المسلمين، في كلِّ زمان وفي كلِّ مكان، إذ أنَّ ذلك ليس حديثًا خاصًّا بجابر مع أنَّ الحديث موجَّه لجابر بن عبد الله الأنصاريِّ، وهذا أسلوب النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حيث يوجِّه – أحيانًا – أحاديث إلى أشخاص ما إلَّا أنَّه يريد إيصال الرِّسالة لكلِّ المسلمين في كلِّ زمان ومكان.

فالنَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يخاطب جابرًا: «يا جابر، هذا شهر رمضان»، فيذكِّر بذلك المسلمين بحلول شهر رمضان، «مَن صام نهاره»، أي: صام صومًا فقهيًّا بأن امتنع عن المفطَّرات الممنوعة، «وقام وِردًا من ليله»، أي: قام في اللَّيل صلَّى ركعات من صلاة اللَّيل.
صلاة اللَّيل لها قيمتها، وأهمِّيتها.
صلِّ ولو بعض الرَّكعات منها إذا لم تستطع أنْ تصلِّي كلَّ صلاة اللَّيل – وهي 11 ركعة – قُبيل طلوع الفجر.

خصِّص لك وقتًا – خاصَّة وأنَّ غالب النَّاس يسهرون إلى الفجر الآن – ولو نصف ساعة قبل الوقت؛ لتقف بين يدي الله تعالى متهجِّدًا، مُصلِّيًا بعض الرَّكعات.

إنَّ صلاة اللَّيل لها مكانة عظيمة – وقد يأتي الحديث عنها في وقت آخر -، ولها قيمة كبيرة جدًّا، ولا يوجد عمل يضاهيها، ولذا لا يوجد عمل إلَّا وذُكر له ثواب في القرآن الكريم إلَّا صلاة اللَّيل، فلم يذكر القرآن الكريم ثوابها لعظمتها، وعظمة ثوابها، حيث القرآن يقول: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (سورة السَّجدة: الآية 16) ، ويتابع – أيضًا -: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. (سورة السَّجدة: الآية 17).

فالقرآن الكريم: إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: أنا لم أحدِّثكم – الآن – عن الثَّواب الذي أعددته للمتهجِّدين بالأسحار.

لا تجد أيَّ عمل من أعمال البِّرِّ، وأعمال الخير إلَّا وقد ذَكر القرآن الكريم له ثوابًا، إلَّا صلاة اللَّيل: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. (سورة السَّجدة: الآية 17).

إذًا، صلاة اللَّيل عظيمة جدًّا، فلنقتنص بعض الوقت للإتيان بها، وإذا ما استطاع الإنسان أنْ يصلِّي صلاة اللَّيل في شهر رمضان لن يتوفَّق للإتيان بها في بقيَّة السَّنة!

إذًا، «يا جابر، هذا شهر رمضان، مَن صام نهاره، وقام وردًا من ليله، وعفَّ بطنه وفَرْجه».

أي: يوجد صوم عمليٌّ «عفَّ بطنه»، فلا يأكل حرامًا، ولا مشتبهًا بالحرام، وحريص جدًّا على أنْ يكون مأكله ومشربه طاهر حلال.
«وعفَّ بطنه، وفرجه، وكفَّ لسانه»، وهي عبارة عن:
صوم الجوارح.
صوم اللِّسان.
صوم العين.
هذا هو الصَّوم العمليُّ.
«وكفَّ لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشَّهر»، فالذي يصوم هذا الصَّوم بمضامينه الرُّوحيَّة، والعمليَّة، والفقهيَّة يخرج – هذا – من الذُّنوب كخروجه من الشَّهر، حيث: «خرج من ذنوبه كخروجه من الشَّهر».
«فقال جابر: يا رسول الله، ما أحسن هذا الحديث»!
إنَّ جابر مرتاح كثيرًا للحديث، إذ هو حديث جميل جدًّا، ومضامينه عالية، وتوجد فيه بشرى كبرى للصَّائمين، فقال: «يا رسول الله، ما أحسن هذا الحديثَ».

فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «يا جابر، وما أشدَّ هذه الشُّروط»!
حديث جميل، لكن شروطه صعبة!
إذًا، المطلوب يا أحبائي – ونحن لا زلنا على أعتاب الشَّهر -، أنْ نجلس مع أنفسنا، ونبرمج لصيامنا، بحيث نتوافر على صيام فيه كلُّ الشُّروط الفقهيَّة.
وفيه كلُّ الشُّروط الرُّوحيَّة.
وفيه كلُّ الشُّروط العمليَّة.
وللحديث تتمَّة إنْ شاء الله تعالى في الأسبوع القادم.

نسأل الله لكم الخير، والتَّسديد.
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين.

الأسئلة.
سيد محمد هادي الغريفي: أحسنتم سماحة السيد، نستقبل أسئلتكم أيها الأخوة.
السُّؤال الأوَّل – يقول -: يبدأ النَّاس في أوَّل شهر رمضان باندفاعة قويَّة في العبادة والطَّاعة، ولكنَّهم ينفرون في نهاية الشَّهر – العشر الأواخر -، فكيف نقوِّم الأمر؟

الجواب: لو استطعنا أنْ نمنهج صيامنا بحيث يتحوَّل إلى صيام فاعل للرُّوح؛ ستبقى النَّشوة الرُّوحيَّة.
مشكلتنا هي التَّحرُّك بنشاط إلَّا أنَّنا لا نتعب على صنع الدَّاخل!
النَّشاط العمليُّ يعني: إنَّنا نصلِّي.
نقرأ القرآن الكريم.
نقرأ أدعية.
نقرأ مناجاة.
نفطِّر صائمين، نقضي حوائج المحتاجين.
وهذه كلُّها أعمال عظيمة في شهر رمضان إلَّا أنَّنا لا نتعب على بناء الطَّاقة الرُّوحيَّة الدَّاخليَّة.
إنَّ استمرار الحيويَّة والنَّشاط هو بقوَّة الطَّاقة الدَّاخليَّة ألا وهي الطَّاقة الرُّوحيَّة.
لو أنَّنا نتعب منذ بداية الشَّهر – ولا يعني ذلك أنْ أقول لا نتعب على الصَّلوات، وعلى الدُّعاء – بشكل أكثر على برمجة الحالة الرُّوحيَّة في داخلنا، ذلك لأنَّنا كلما استطعنا أنْ نبرمج الحالة الرُّوحيَّة في داخلنا، وتقويتها، وشحنها بشكل أكثر بالوقود الرُّوحيِّ سيبقى النَّشاط!
لماذا يخفُّ النَّشاط؟
إذا تضاءلت الطَّاقة الرُّوحيَّة في داخلنا يتضاءل النَّشاط.
ولكن إذا استمرَّت الطَّاقة والشُّحنات الرُّوحيَّة في داخلنا، فإنَّ النَّشاط سيستمرُّ إلى آخر شهر رمضان، بل إلى بعد شهر رمضان، وذلك تبعًا إلى حجم الطَّاقة التي صنعناها في داخلنا، ولذلك اجعلونا نتعب على صنع الطَّاقة، وهذا من أعظم العبادات.
فلا تتصَّور أنَّك عندما تختم القرآن الكريم مرَّتين، أو ثلاث مرَّات، فسيكون ذلك ثوابه أكثر من جلسات الشَّحن الرُّوحيِّ، والبناء الرُّوحيِّ، والمحاسبة الدَّاخليَّة الرُّوحيَّة.
إنَّ جلسات الشَّحن الرُّوحيِّ لربما يكون ثوابها أكثر من الختمات القرآنيَّة، ومن الصَّلوات، ومن تفطير الصَّائمين، ولذا فبقدر ما نتعب على صناعة الوقود الدَّاخليِّ، فسوف يجعل الحيويَّة مستمرَّة.

كيف نصنع الطَّاقة الرُّوحيَّة في داخلنا؟
أمَّا كيف يمكننا أنْ نصنع هذه الطَّاقة الرُّوحيَّة في داخلنا؟، فهذا يحتاج إلى أحاديث كثيرة.
ويحتاج إلى قراءة كتب روحيَّة.
ويحتاج إلى توجيهات.
ويحتاج إلى تهيئة.
ويحتاج إلى تعبئة.
ويحتاج إلى رقابة.
فهذه ثلاث مكونات رئيسة في البناء الرُّوحيِّ.

مكونات البناء الروحي
أوَّلًا: مرحلة التنقية: وهي تطهير الداخل.
فمثلًا: إذا كان عندك كأسًا تريد أنْ تملأه بماء نقيٍّ إلَّا أنَّ هذا الكأس ملوَّثٌ فكلَّما صببت ماءً نقيًّا فيه – والحالة هذه -، فإنَّ الماء النَّقيَّ يتلوَّث!، ذلك لأنَّ الكأس ملوَّث، ولذا حتَّى تملأ الكَّاس بالماء النَّقيِّ، فيجب أنْ تنقِّي الكأس تنقية كاملة، ثم تملؤه بالماء النَّقيِّ.
وكذا القلب، حيث إنَّ القلب مثل الإناء، فحتَّى أملأ القلب بالطَّاقة الرُّوحيَّة، فيجب أنْ أنقِّيه.
أما كيف أنقِّي القلب؟ فهناك وسائل مذكورة في الكتب الرُّوحيَّة الأخلاقيَّة عن كيفيَّة تنقية القلب، وتطهيره.

ثانيًا: مرحلة الشَّحن
تأتي بعد ذلك مرحلة الشَّحن.
وهي مرحلة الشَّحن بعد التَّفريغ.
فبعد أنْ أنقِّيه أشحنه بالوهج الرُّوحيِّ، وبالطَّاقة الرُّوحيَّة.
ولكن كيف أمارس عمليَّة الشَّحن؟
هناك وسائل مذكورة في كتب الأخلاق، ولذا اقرؤوا كتب الأخلاق، إذ أنَّ ذلك هو جزء من عبادة هذا الشَّهر، وذلك بأخذ كتاب أخلاقيٍّ، وأخصِّص له ساعة في اليوم للقراءة فيه، فهو من أفضل العبادات في شهر رمضان المبارك.
اسألوا العلماء عن بعض كتب الأخلاق التي تقرؤونها، وخصِّصوا لكم نصف ساعة في اليوم للقراءة في كتاب أخلاقيٍّ، ذلك لأنَّ كتب الأخلاق تذكر كيف نمارس عمليَّة الشَّحن.
إذًا يوجد تفريغ وتنقية!
وكذلك يوجد شحن!
ثالثًا: مرحلة الرقابة
هل بمجرَّد تنقية الكأس، وشحنه بماء نظيف، قد انتهى الأمر؟
لا، بل أحتاج إلى رقابة، فلربما تجيئ جراثيم تملؤه من جديد، ولذا أحتاج إلى رقابة، وأحتاج إلى تحصين.
إذًا، تفريغ، وشحن، وتحصين!
هذه وسائل صُنع الطاقة الرُّوحيَّة.
فبقدر ما ننجح في صنع الطَّاقة الرُّوحيَّة سيستمرُّ النَّشاط الرُّوحيُّ عندنا إلى نهاية شهر رمضان المبارك، وإلى ما بعد شهر رمضان المبارك أيضًا.

السُّؤال الثَّاني:
هل بمجرَّد أنْ أخرج من البيت إلى السَّفر أفطر، أم لا بدَّ من أنْ أجتاز المسافة؟

الجواب: لا!
توجد منطقة يسمُّونها حدَّ التَّرخُّص.
فافرض أنَّك ساكن في المنامة، والمنامة لها حدود بحيث تسمَّى منطقة المنامة، فعندما تتجاوز هذه المنطقة – حدود المنامة -، وتقطع مسافة بحيث تختفي معالم البلد عندك، أو يختفي الأذان – حسب تعبير الفقهاء -، أو بتعبير أدق: بحيث أنَّك تختفي عن النَّاس، إذ لو يوجد أناس واقفون على حدود المنامة وأنت تمشي حتَّى اختفيت عنهم فلم تعد تراهم، وهم أيضًا قد اختفوا عنك بأن أصبحوا لا يرونك!
فالمعيار ليس البنايات، فاليوم صارت البنايات عملاقة، وليس المعيار الأذان – اليوم –، فقد صارت وسائلَ صوت توصل الأذان – وإنَّما المعيار هو الأذان الطَّبيعيِّ، والبناء الطَّبيعيِّ أيضًا، واختفاء المسافر -.

فإذا قطع الإنسان مسافة قد اختفت البلد عنه، ومعالم البلد، فهنا يقولون عنه: قد وصل إلى حدِّ التَّرخُّص، فلم يقطع مسافة، ولكن من هنا يبدأ القَصْر، ومن هنا يبدأ الإفطار.

فليس بمجرَّد أنْ تتحرَّك من بيتك تقوم بالإفطار.
ولا بمجرَّد أنْ تخرج من قريتك تقوم بعمليَّة الإفطار.
ولكن إذا وصلت إلى منطقة نسمِّيها منطقة حدِّ التَّرخُّص، تبدأ بالإفطار، وبالقَصر.
السُّؤال الثَّالث: مباركون بدخول الشَّهر الفضيل.
توجد ظاهرة في شهر رمضان الكريم بالبحرين – وقد لاحظتها منذ سنة 2010 م إلى هذا الشَّهر الفضيل من هذه السَّنة -، وهي: منذ أنْ يهلَّ الشَّهر المُبارك تبدأ التَّوتُّرات السِّياسيَّة، والتَّضليل الإعلاميِّ!

هذا العام قد ضغط التَّضليل الإعلاميِّ على سماحتكم!
إنَّنا نعرف من خلال منبركم الفضيل في هذا الشَّهر الفضيل أنَّ النُّفوس في شهر رمضان المبارك ترغب في التَّسامح، وفي التَّصالح حتى لو مجاملة!، إلَّا أنَّ في البحرين – وحسب ما ألاحظه – أنَّ بعض النُّفوس تنشط مثل العفاريت، فتنشر التَّباغض، والتَّنافر، وكلامَّ الغلِّ!
ماذا يجري لهذه النُّفوس في شهر رمضان – في البحرين -؟
ولماذا في شهر رمضان بالذَّات؟
فتفضَّل سماحتكم بالتَّوجيه الإسلاميِّ.
الجواب: إنَّني أتصوَّر أنَّه يوجد خلل في البناء الرُّوحيِّ عندنا.
فشهر رمضان المبارك من المفروض أنْ يصنع أرواحًا.
أنْ يصنع محبَّة.
أنْ يصنع صفاءً.
أنْ يصنع تقاربًا.
كلُّ ذلك سيتمُّ لو عشنا شهر رمضان الحقيقيَّ.
المشكلة عندنا أنَّ شهر رمضان المبارك أصبحت إعلامًا فقط!
إعلام مؤسَّسات!
إعلام دول!
إعلام أناس!
توجد بهرجات إعلاميَّة.
إنَّ البهرجات الإعلاميَّة تصنع ضجيجًا للشَّهر، وصدّى له، إلَّا أنَّها لا تصنع الشَّهر الفاعل.

إنَّنا محتاجون أنْ نتعب قليلًا على خطاب يمركز الوعي الحقيقيَّ للصِّيام، والمضامين الحقيقيَّة للصِّيام.
لو عشنا هذا الوعي الحقيقيَّ للصِّيام، وعشنا المضامين الحقيقيَّة للصِّيام، فلن ننزلق في المتاهات!
ولن نتقاذف.
ولن نتشاتم.
بل حتَّى الذي أختلف معه، ويختلف معي، لا توجد مبرِّرات لأنْ أقذفه، أو يقذفني.
من حقِّ النَّاس أنْ يختاروا قناعاتهم – وهذه مسألة طبيعيَّة -.
من حقِّي أنْ أختار قناعتي الدِّينيَّة.
أنْ أختار قناعاتي المذهبيَّة.
أنْ أختار قناعاتي الثَّقافيَّة.
أنْ أختار قناعاتي السِّياسيَّة وفق أسس علميَّة وموضوعيَّة، وليس وفق هوًى وشهوات.
إنَّ الذي يبني قناعاته على أساس الهوى والشَّهوات، فهذا البناء هو بناء هشٌّ.
أمَّا لو بنى قناعاته على أسس علميَّة، فقد يصيب أو يخطِئ، إذ ليس من الضَّرورة عندما أبني قناعاتي على أسس علميَّة أكون مصيبًا في بناء القناعات، إلَّا أنَّ المهمَّ هو أنَّ من حقِّ الإنسان أنْ يبني قناعاته وفق أسس علميَّة نظيفة نزيهة، كما أنَّ من حقِّ الآخر أنْ يبني قناعاته أيضًا.
فكما أنَّ من حقِّي أنْ أبني قناعاتي، فالآخر أيضًا من حقِّه أنْ يبني قناعاته.
وإذا اختلفنا، فلنتحاور، لا مشكلة في ذلك.
أنْ نتحاور حوارًا نظيفًا.
حوارًا نزيهًا.
إنَّ المقاذفات ليست حوارًا!
إنَّ المشاتمات ليست حوارًا!
ولطالما كنت أقول دائمًا – وأكرِّر -: إنَّ الذي يشتم، ويقذف ضعيف!
أعتبره ضعيفًا.
أعتبره مهزومًا.
إنَّ القويَّ لا يسبُّ، بل عنده قوَّة حُجَّة، وعنده قوَّة منطق، فلا يلجأ إلى السَّبِّ، ولا يلجأ إلى القذف.
إنَّ الذي يلجأ إلى السَّبِّ والقذف هم الضُّعفاء المهزومون.
عندما ترى فردًا يسبُّ، ويشتم، فاعرف أنَّه ضعيف ومهزوم،
ولذا لا يحتاج أن يُتعب الإنسان نفسه معه، فهو يُسقط نفسه بنفسه.
إذًا، إنَّا عندما نتقاذف فلا فهمنا شهر رمضان، ولا عشنا شهر رمضان.
فهؤلاء الذين يعيشون اللَّغط والجَدليَّات العقيمة، والتَّقاذفات لم يعيشوا حلاوة شهر رمضان.

هذه الحلاوة الروحيَّة الحقيقيَّة التي تجعلني أعيش حبًّا.
وأعيش تسامحًا.
وأعيش رحمةً.
وأعيش تواصلًا.
وأعيش أُخوَّة.
هذه هي حلاوة الشَّهر.
إنَّنا نتمنَّى – دائمًا – أنَّ شهر رمضان المبارك يستطيع أنْ يغذينا بالمفاهيم الجميلة، أمَّا إذا صار الشَّهر الفضيل ساحةً للتَّوتُّرات، وللتَّأزُّمات، وللخلافات، وللعداوات.
فقد دمَّرنا الشَّهر الكريم بذلك.
وذمَّرنا أهداف الشَّهر المبارك.
ودمَّرنا قِيمة الشَّهر المبارك.

فعلينا – وهذه مسؤوليَّة الخطاب الدِّينيِّ، والخطاب الإعلاميِّ الذي يوجِّه النَّاس، لأنَّه لربَّما لازلنا لم نقدر أنْ نتوَّفر على خطاب يستطيع أنْ يصنع وعي النَّاس، ويصنع أحاسيس النَّاس، ويصنع عواطف النَّاس – من خلال الخطاب الدِّينيِّ، والثَّقافيِّ، والإعلاميِّ أنْ نشترك جميعًا في صنع الشَّهر الذي يحتضن الجميع.
إنَّ شهر الله تعالى هو شهر القِيم، وشهر العطاء الرُّوحيِّ، والثَّقافيِّ، وكلِّ المفاهيم الخيِّرة.

إذًا، إذا وجدنا هذه السِّياقات – التي تتناقض كلَّ التَّناقض مع هذا الشَّهر – فهي لا تصدر إلَّا من الذين لا يؤمنون بأهداف هذا الشَّهر، أو لم يعيشوا أهداف هذا الشَّهر كما ينبغي.

السُّؤال الرَّابع:
هل الصَّوم الحقيقيُّ هو الصَّوم الذي يريده القرآن الكريم، مثلًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (سورة البقرة: الآية 183)، هل هو هذا الصَّوم؟

الجواب:
إنَّ الصَّوم الحقيقيَّ هو الصَّوم الذي يريده الله تعالى.
والذي يريده القرآن الكريم.
والذي تريده النُّصوص الواردة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وعن أهل البيت (عليهم السَّلام).
إنَّ القرآن الكريم عندما يتحدَّث عن العبادة، فإنَّه يتحدَّث عن التَّقوى.
يقرن العبادة بالتَّقوى، ويقرنها بالمعرفة.
فالصَّوم يحتاج إلى معرفة، «…، لا خير في عبادة لا فقه فيها، …». (الكافي 1/36، الشَّيخ الكليني).

إذًا، توجد شروط فقهيَّة.
إنَّ العبادة التي لا توجد فيها شروط فقهيَّة، فهي ليست عبادة، وهي باطلة!
وكذلك نحتاج إلى عبادة تصنع هدف العبادة ﴿… إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ …﴾. (سورة العنكبوت: الآية 45).
إذًا، القرآن الكريم يضع لنا هدفًا للعبادة، وهي التي تصنع الإنسان الذي يبتعد عن الفحشاء والمنكر.

كما تصنع الصَّائم الذي يكون متَّقيًا ﴿… لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. (سورة البقرة: الآية 183).
إذًا، عندما نقرأ النُّصوص الدِّينيَّة، ونصوص القرآن الكريم، ونصوص النَّبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ونصوص الأئمَّة (عليهم السَّلام) نجدها تحاول أنْ تنتج صيامًا حقيقيًّا متكاملًا.

السَّؤال الأخير – ونختم به -:
هناك جهات من المجتمعات الإسلاميَّة تعمل جاهدةً على جعل الصِّيام مفرَّغًا من تأثيراته الرُّوحيَّة والعمليَّة، فكيف تُصان المجتمعات من تلك التَّوجُّهات؟
الجواب: نحتاج إلى خطابات.
نحتاج إلى حديث.

نحتاج إلى دروس مستمرَّة.
بمعنى: نحتاج إلى تنشيط البرامج الدِّينيَّة.
فإذا استطعنا أنْ ننشِّط خطاب المسجد الواعي، واستطعنا أنْ ننشِّط خطاب المنبر الواعي والهادف، واستطعنا أنْ ننشِّط البرامج الدِّينيَّة الواعية والهادفة، فسنستطيع احتضان مساحة واسعة.

لا شكَّ أنَّنا يواجهنا إعلام، وتواجهنا تيارات تريد أنْ تسرق أجيالنا، وتسرق الهُويَّة الرُّوحيَّة، ولذا فمسؤوليَّتنا، ومسؤوليَّة كلِّ المواقع المخلصة للأمَّة والنَّاس، وللشُّعوب معنيَّة بأنْ تمارس دور تحصين الشُّعوب من أنْ تسقط أمام موجات الفساد الأخلاقيِّ، والفساد الرُّوحيِّ.

ومن الطَّبيعيِّ جدًّا حتى يُسقطوا الشُّعوب في الفساد الرُّوحيِّ، والفساد الأخلاقيِّ أنْ يفرِّغوا المضامين العباديَّة.

يقولون: دعوا النَّاس تصلِّي، ولكن فلتكن الصَّلاة صلاةً فارغة!
ويقولون: دعوا النَّاس بأنْ تصوم – ولا نحارب الصَّوم -، ولكن فليكن الصَّوم صومًا فارغًا!
ويقولون: دعوا النَّاس تقرأ القرآن الكريم، ولكن فلتكن قراءتهم للقرآن الكريم قراءة فارغة!

فبقدر ما يستطيعون أنْ يُفرِّغوا المضامين العباديَّة، لتصبح مضامين شكليَّة، فإنَّهم يقومون بذلك!

إذًا، نحن بحاجة إلى أنْ نواجه المشروع الذي يُفرِّغ مضامين العبادات بمشروع يملأ العبادات.
هذه مسؤوليَّة العالم.
هذه مسؤوليَّة الخطيب.
هذه مسؤوليَّة المثقَّف.
ليس مسؤوليَّة العالِم، والخطيب فحسب، بل مسؤوليَّة كلِّ مثقَّف، مؤمن مسلم واعٍ.

إنَّ مسؤوليَّة المؤمن أنْ يمارس دوره في أيِّ مساحة يقدر أنْ يتحرَّك فيها، بحيث يخلق وعيًا عند النَّاس بقيمة الصَّلاة، وقيمة الصَّوم، وقيمة شهر رمضان، وقيمة الحجِّ، وقيمة مواسم الزِّيارة.
إنَّنا بذلك نعطي قوَّة للأمَّة، وللنَّاس في المسار الإيمانيِّ السَّليم.

الوصلة: