حديث الجمعة 537: أزمة المصداقيَّة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.
أزمة المصداقيَّة
وبعد، فقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. (سورة الصَّف: الآية 2 – 3).
مِن أخطر الأزماتِ في حياة الإنسان (أزمة المِصْدَاقيَّة).
ماذا تعني أزمةُ المِصْدَاقيَّة؟
تعني: (أزمة التَّناقض بين القول والفعل).
تطبيقات عمليَّة لأزمة المصداقيَّة
دعونا نطرح بعض التَّطبيقات العمليَّة لهذه الأزمة:
التَّطبيق الأوَّل: أزمة الشِّعارات
أخطرُ أزماتِ هذا العصر (أزمة الشِّعارات)!
الشِّعارات التي لا تملك (مصداقيَّة).
وبتعبير أكثر صراحة: (الشِّعارات الكاذبة).
قد يُقال: لماذا أخطر أزمات هذا العصر هي (أزمة الشِّعارات)؟
لماذا لا تكون أخطر أزمات هذا العصر (أزمة السِّياسة)؟
لماذا لا تكون أخطر أزمات هذا العصر (أزمة الثَّقافة)؟
لماذا لا تكون أخطر أزمات هذا العصر (أزمة الاقتصاد)؟
لماذا لا تكون أخطر أزمات هذا العصر (أزمة الحقوق)؟
لماذا لا تكون أخطر أزمات هذا العصر (أزمة الأمن)؟
وأزمات هذا العصر الخطيرة كثيرةٌ، وكثيرةٌ جدًّا (أزمة الشِّعارات) هي الأخطر، لأنَّها تُمثِّل (أزمةَ قيمٍ)، و(أزمةَ أخلاقٍ).
من خلال هذه الأزمة تتشكَّل كلُّ الأزمات.
من خلال هذه الأزمة (أزمة الشِّعارات = أزمة القِيم، والأخلاق) تتشكَّل (أزمة السّياسة).
كم أربكتْ أوضاعَ الأوطانِ السِّياسيَّة (شعارات لا تملك مصداقيَّة)، شعارات كاذبة، وخادعة.
ربَّما تصدر هذه الشِّعارات من مواقع رسميَّة.
وربَّما تصدر هذه الشِّعارات من قوى سياسية موالية، أو معارضة.
وربَّما تصدر من جماهير.
وكلَّما غابت (المصداقيَّة) في الشِّعارات السّياسيَّة من أيِّ موقع صدرت، فإنَّها تؤسِّس لأزمات خطيرة.
وكلَّما توفَّرت (الشِّعارات السِّياسيَّة) على (المصداقيَّة) كان لها دورُها الكبيرُ في معالجة أزمات الأوطان.
وكذلك من خلال (أزمة الشِّعارات = أزمة القِيم، والأخلاق) تتشكَّل (أزمة الثَّقافة)، و(أزمة الاقتصاد)، و(أزمة الحقوق)، و(أزمة الأمن)، وبقيَّة الأزمات.
فشِعاراتُ ثقافة لا تملك مصداقيَّةً تؤزِّم أوضاع الثَّقافة.
وشِعارات اقتصاد لا تملك مصداقيَّةً تؤزِّمُ أوضاع الاقتصاد.
وشِعاراتُ حقوقٍ لا تملك مصداقيَّةً تؤزِّم أوضاع الحقوق.
وشِعاراتُ أمنٍ لا تملكُ مصداقيَّةً تؤزِّم أوضاع الأمن.
وهكذا بقيَّة الشِّعارات.
أمَّا حينما تكونُ الشِّعارات صادقةً كلَّ الصِّدق، وحكيمةً كلَّ الحكمة، وصائبةً كلَّ الصَّواب، فهي بكلِّ تأكيد تشكِّل (أدواتٍ حقيقية)؛ لإصلاح كلِّ الأوضاع، ولمعالجة كلِّ الأزمات، ولإنهاء كلِّ الإشكالات، والتَّعقيدات.
فمسؤوليَّة كلِّ المخلصين لأوطانهم أنْ يُؤسِّسُوا لشعاراتٍ تملك كلَّ المصداقيَّة.
التَّطبيق الثَّاني – من التَّطبيقات العمليَّة لأزمة المِصْدَاقيَّة -: أزمة الالتزام الدِّينيِّ
كم من النَّاس يتحدَّثون عن (التَّقوى، والصَّلاح) وهم في واقعهم العمليِّ أبعد ما يكونون عن التَّقوى، والصَّلاح!
هؤلاء من أجلى مصاديق قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. (سورة الصَّف: الآية 2 – 3).
هذا النَّمط من النَّاس:
يتحدَّثون عن الصِّدْق وهُمْ يَكْذِبون!
يتحدَّثون عن الأمانةِ وهُمْ يَخُونُون!
يتحدَّثون عن العَدْلِ وهُمْ يَظلِمون!
يتحدَّثون عن الحُبِّ وَهُمْ يكرهون!
يتحدَّثون عن التَّسامح وَهُمْ يتعصَّبون!
يتحدَّثون عن التَّآلف وهُمْ يُفرِّقون!
يتحدَّثون عن الإصلاحِ وهُمْ يُفسدِون!
يتحدَّثون عن الرِّفق وهُمْ يَقْسُون!
يتحدَّثون عن الرَّحمة وهُمْ يتشدَّدون!
يتحدَّثون عن الاعتدالِ وهُمْ يتَطرَّفون!
يتحدَّثون عن الأمن وهُمْ يُرعِبُون!
يتحدَّثون عن القِيم وهُمْ يعبثون!
يتحدَّثون عن الطَّاعة وهُمْ يعصُون!
1-قال الله تعالى: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ﴾. (سورة الشُّعراء: الآية 94).
2-جاء في الكافي عن الإمامين الباقر، والصَّادق (عليهما السَّلام): «في قول الله (عزَ وجلَّ): ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ﴾ (سورة الشُّعراء: الآية 94)، قال: هم قومٌ وصفوا عدلًا بألسنتهم، ثمَّ خالفوه إلى غيره». (الكافي 1/47، الشَّيخ الكليني).
﴿… كُبْكِبُوا …﴾: أي أُلقوا على وجوههم مرَّة بعد أخرى!
3-وجاء في الحديث عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «إنَّ أشدَّ أهلِ النَّار ندامةً وحسرةً رجل دعا عبدًا إلى اللهِ (عزَّ وجلَّ)، فاستجاب، وقَبِل منه، وأطاع الله (عزَّ وجلَّ) فأدخله اللهُ الجنَّةَ، وأدخل الدَّاعي النَّارَ بتركه علمه، واتِّباعه الهوى». (ميزان الحكمة 3/2097، محمَّد الريشهري).
4-وقال الإمام الباقر (عليه السَّلام): «إنَّ أشدَّ النَّاس حسرةً يوم القيامة الذَّين وصفوا العدل ثمَّ خالفوه، وهو قول الله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ …﴾ (سورة الزُّمر: الآية 56)» ( ميزان الحكمة 3/2097، محمَّد الريشهري).
التَّطبيق الثَّالث – من التَّطبيقات العمليَّة لأزمة المصداقيَّة -: أزمة الالتزام العمليِّ بتوجيهات العبادة
الكثيرون يُمارسون العبادة بكلِّ ضوابطها الفقهيَّة إلَّا أنَّهم لا يلتزمون بتوجيهاتها العمليَّة!!، أيْ لا يعطون للعبادة (مصداقيَّة)، وهذا من أخطر أزماتِ المصداقيَّة.
1-نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿… إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ …﴾. (سورة العنكبوت: الآية 45).
فكم هم المصلُّون الذين تنهاهم صلاتهم عن الظُّلم، والكذب، والغِيبة، والبهتان، والخيانة، وبقيَّة المنكرات؟
2-قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «مَنْ لم تنهه صلاتُه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله بعدًا». (ميزان الحكمة 2/1628، محمَّد الريشهري).
3-وقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «لا صلاة لمَن لم يطع الصَّلاة، وطاعة الصَّلاة أنْ تنهى عن الفحشاء والمنكر». (ميزان الحكمة 2/1628، محمَّد الريشهري).
وهكذا بقيَّة العبادات.
أ-فمن أزمات المصداقيَّة العباديَّة: أنْ يصوم الإنسان، ولا يلتزم بتوجيهات الصِّيام!
قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ربَّ صائمٍ حظُّه من صيامِهِ الجوع، والعطش.
وربَّ قائمٍ حظُّهُ من قيامه السَّهر». (ميزان الحكمة 2/1686، محمَّد الريشهري).
ب- ومن أزمات المصداقيَّة العباديَّة: أنْ يحجَّ الإنسان ولا يلتزم بتوجيهات الحجِّ!
في الحديث: «ما يُعبأ بمَن يؤمَّ هذا البيت إذا لم يكن فيه ثلاث خصال:
ورع يحجزه عن معاصي الله.
وحلم يملك به غضبه.
وحسن الصَّحابة لمَن صحبه». (ميزان الحكمة 1/537، محمَّد الريشهري).
ج-ومن أزمات المصداقيَّة العباديَّة: أنْ يتلو الإنسان القرآنَ الكريم، ولا يلتزم بتوجيهاته!
قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أنْت تقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم ينهك، فلست تقرأه». (ميزان الحكمة 3/2529، محمَّد الريشهري).
د-ومن أزمات المصداقيَّة العباديَّة: أنْ يمارس الإنسان الذِّكْر، ولا يلتزم بتوجيهاته!
قيمة الذِّكْر هي حينما يكون له مصداقيَّة عمليَّة.
قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «مَنْ أطاع الله (عزَّ وجلَّ)، فقد ذَكَرَ الله وإنْ قلَّت صلاته، وصيامه، وتلاوته للقرآن.
ومَنْ عصى الله، فقد نسي الله وإنْ كثرت صلاته، وصيامه، وتلاوته للقرآن». (وسائل الشيعة ١٥/257، الحر العاملي).
نخلص في التَّطبيق الثَّالث إلى القول: بأنَّ قِيمة العبادة صلاةً، وصومًا، وحجًّا، وتلاوةً، وذِكْرًا بمقدار ما تملك من مصداقيَّةٍ عمليَّةٍ، وإلَّا فهي عبادة فارغة جوفاء لا قيمة لها عند الله تعالى.
أيُّها الأحبَّة، من خلال عرض (التَّطبيقات) المتقدِّمة لأزمة (المصداقيَّة) – والتي تعني أزمة التَّناقض بين القول والفعل – نعود لقراءة الآية القرآنية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. (سورة الصَّف: الآية 2 – 3).
هذا التَّوجيه القرآنيُّ يُؤسِّس للخطاب الدِّينيِّ الذي يحمل كلَّ (المصداقيَّة العمليَّة)، ويُحذِّر من أنْ يكون هذا الخطاب فاقدًا للمصداقيَّة فيما يُمثِّله من تناقض صارخ بين القول والفعل، فـ:
•﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. (سورة الصَّف: الآية 2).
فالإيمان ليس مجرَّد دعوى، ولا مجرَّد كلمة تقال بل هو سلوك، وممارسة، وحركة، وعطاء وجهاد.
•﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾. (سورة الصَّف: الآية 3).
فما أسوء هذا الإنسان المؤمن حينما يكون ممقوتًا عند الله تعالى أشدَّ المقت، ومبغوضًا أشد البغض، ومطرودًا من رحمته تعالى.
لماذا؟
لأنَّ التَّناقض بين القول والفعل يمثِّل شكلًا من أشكال الخداع، والكذب، والتَّدليس، وهو ما لا يريده الله تعالى للإنسان المؤمن، بل يريد له أنْ يكون صادقًا كلَّ الصِّدق في إيمانه، وفي كلِّ قِيَمه، وأخلاقه، وممارساته.
المصداقيَّة الإيمانيَّة
وكلَّما جسَّد (المصداقيَّة الإيمانيَّة) في حياته كان الأقرب إلى الله تعالى، والأعلى مقامًا:
1-﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾. (سورة الكهف: الآية 107).
الجنَّة لها أسماء كثيرة:
أ-دار السَّلام.
ب- دار الخلد.
ج- دار المُقامة.
د-جنّة المأوى.
ه-جنَّات عدن.
و-جنَّات النَّعيم.
ز-مقعد صدق.
ح-جنَّات الفردوس.
2-روي عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) أنَّه قال: «…، الجنَّة مائة درجة، ما بين كلِّ درجتين، كما بين السَّماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنَّة الأربعة، فإذا سألتم الله تعالى، فاسألوه الفِردوس». (بحار الأنوار 8/89، العلَّامة المجلسي).
فقوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «…، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفِردوس» – وهو أعلى موقع في الجنَّة – هذا يعني ضرورة أنْ تتوجَّه همَّة المؤمن إلى أعلى موقع في الجنَّة، ممَّا يدفعه أنْ يرتقي بمستواه الإيمانيِّ إلى أعلى الدَّرجات؛ لكي يحظى بأعلى الدَّرجات في الجِنان.
3-﴿… وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾. (سورة المطففين: الآية 26).
فالتَّنافسُ كلُّ التَّنافس على مقامات الآخرة، وليس على مقامات الدُّنيا.
التَّنافس على مقاماتِ الآخرة يرتقي بقيم الحياة، ويزرع الخير في الأرض.
وأمَّا التَّنافس على مقامات الدُّنيا بعيدًا عن معايير الآخرة، فإنَّه يهبط بقِيم الحياة، ويزرع الشَّرَّ في الأرض.
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين.