حديث الجمعية 530: عامٌ ميلاديٌّ جديد
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.
وبعد، فمع هذا العنوان:
عامٌ ميلاديٌّ جديد
*عام ميلاديٌّ مضى
عامٌ مِيلاديٌّ مَضَى يحملُ أوضاعًا في غايةِ التَّعقيد، فالعالمُ تزدحمُ فيه الحروبُ، والصِّراعاتُ المُدمِّرة، وتهيمنُ عليه أجواءُ الرُّعبِ، والعُنفِ، والتَّطرُّفِ، والإرهاب، فلا أمَنَ، ولا استقرار، ولا تعايش، ولا سلام، ولا محبَّةَ، ولا تسامحَ، ولا وِحْدةَ، ولا تآلف!
عامٌ ميلاديٌّ مضى، وكثيرٌ مِن الأوطانِ والشُّعوبِ يُهدُّدها الفقرُ، والبؤسُ، والجوعُ، والحرمان!، فأوضاعُ المعيشةِ في غايةِ السُّوءِ، والتَّهاوي، والانهيارِ!
والبطالةُ تنهشُ أوصالَ النَّاس!
والحرمانُ يلاحقُ كلَّ حاجاتِهم!
وغلاء الأسعار يُرعبُهم!
والضَّرائب قد أثقلت كواهلَهُمْ!
وصرخاتُهم، واستغاثاتُهم، ونداءاتهم قد مَلأت الدُّنيا، ولا مجيب!
عام ميلاديٌّ مَضَى، ولا أملَ يُنقد الإنسان في أكثر الأوطان، فاليأسُ هو الخَيَار، ولا خيار سواه!
والإحباط هو الملاذ، ولا ملاذ غيرُه!
ومعاني الخَيْر أصبحت مأزومة!
وقِيم الحقِّ مهزومة!
ولُغة العدل مقهورة!
وهكذا أصبح إنسانُ هذا العصر مأسورًا لكلِّ الأوضاعِ البائسة، ولكلِّ الخَيارات الطَّائشة! فها
هي الشُّعوب في أوطان كثيرة تتعالى صرخاتُها، تبحث عن لقمة عيش، ولا مجيب!
عامٌ ميلاديٌّ مضى بكلِّ أتعابِهِ، وأوصابِهِ، وأثقالِهِ!
وبكلِّ عناءاتِه، وإرهاقاتِهِ!
وبكلِّ صعوباتِهِ، وتعقيداتِه!
وبكلِّ إشكالاتِهِ، وأزماتِهِ!
وبكلِّ خياراتِهِ، ومساراتِه!
وبكلِّ بؤسِهِ، وكوارثِهِ، وويلاتِهِ، وشقاءاتِهِ!
وبكلِّ أحزانِهِ، ودموعِهِ!
توصيف الواقع!
رُبَّما يُقال: إنَّك قد رسمتَ صورةً قاتمةً جدًّا لعام مضى!
فلا مواقع ضياء، ونور؟!
ولا مساحةَ خيرٍ، وَهَناء؟!
ولا نبضةَ حبٍّ؟!
ولا إشراقةَ عدلٍ؟!
ولا بقعة أمانٍ؟!
ولا نَسْمَة إصلاحٍ؟!
ولا وَقْدَة أملٍ؟!
نعم، هناك هذه المواقع، وهذه المساحات، وهذه النَّبضات، والإشراقات، والنَّسمات.
ربَّما في أرض هنا، أو أرضٍ هناك!
ربَّما في وطن هنا، أو وطن هناك!
لكنَّها استثناء، لكنَّها مُحاصَرة!
تحاصرها كلُّ (المعوِّقات)، وكلُّ (المؤزِّمات)، وكلُّ (المكدِّرات)، وكلُّ (التَّحدِّيات).
فأصوات الخَيْر موجودة في كلِّ زمان، وفي كلِّ مكان.
وصيحات العدلِ، والإصلاحِ موجودة.
ودَعَوات المحبَّة، والتَّسامح موجودة.
ومشاريع البناء، والتَّغيير موجودة.
وخَيَاراتُ الوحدةِ، والتَّآلف موجودة.
ومسارات الأمنِ، والأمان موجودة.
ونداءاتُ الاعتدالِ موجودة.
كلُّ هذه الأصواتِ، والصَّيحاتِ، والدَّعوات، والمشاريع، والخَيَاراتِ، والمساراتِ، والنِّداءاتِ موجودة بكلِّ تأكيد، ولا يصحُّ أنْ نظلمَ أصحابَها، إلَّا أنَّ المسارات الأخرى المضادَّة هي الأقوى فيما تملك من إمكانات، وقُدُرات هَيْمنَة على أوضاع العالم.
هكذا عام ميلاديٌّ مضى، وجاء عامٌ ميلاديٌّ جديد!
فهل سوف يحمل العام الجديد أثقالَ عامٍ مضى؟
وأتعابَ عامٍ مضى؟
وإرهاقاتِ عامٍ مضى؟
وأزماتِ عامٍ مضى؟
وخَيَاراتِ عامٍ مضى؟
وسياساتِ عامٍ مضى؟
وإحباطاتِ عامٍ مضى؟
وصراعات عامٍ مضى؟
في مطلع كلِّ عام جديد لا بدَّ من (وقفة مُرَاجِع).
وقفة جَرْد، وحساب.
ليس جَرْد، وحساب ما نملك من أموال – وهذا مطلوب -، إنَّما هي وَقْفة جَرْد، وحساب لكلِّ (المسارات الثَّقافيَّة، والأخلاقيَّة، والاجتماعيَّة، والسِّياسيَّة، والحقوقيَّة، والاجتماعيَّة، ولكلِّ مسارات الواقع الذي يعيشه الإنسان).
هذا الجَرْد، والحساب مطلوب من الأفراد.
مطلوب من الجماعات.
مطلوب من الكيانات.
مطلوب من المؤسَّسات.
مطلوبٌ من الأنظمة، والدُّول الحاكمة.
إحدى ثلاث نتائج للمراجعة
من خلال هذه المراجعة في نهاية كلِّ عام، وفي مطلع كلِّ عامٍ تكون هناك إحدى ثلاث نتائج:
النَّتيجة الأولى: الفشل الكبير!
بعد المراجعة، والجَرْد لكلِّ معطيات العام المنصرم نكتشف وجود (فشل كبير) في هذه المعطيات!
فشل في معطيات الواقع السُّلوكيِّ للأفراء!
أو الواقع السُّلوكيِّ للجَمَاعات!
أو الواقع السُّلوكيِّ للكَيَانات، والأنظمة، والمؤسَّسات!
النَّتيجة الثَّانية: الفشل الجزئيُّ
بعد المراجعة، والجَرْد لكلِّ معطيات العامِ المنصرم نكتشف وجود (فشل جزئيٍّ) في هذه المعطيات.
النَّتيجة الثَّالثة: النَّجاح الكبير
بعد هذه المراجعة نكتشف وجود (نجاح كبير) في هذه المعطيات.
ولكي تكون نتائج هذه المراجعة، أو هذا الجَرْد صائبةً، وواقعيَّة مطلوب أنْ تكون هذه المراجعة جادَّة، وصادقة، ونزيهة، وواعية، وبصيرة.
ويجب أنْ لا ننسى أنَّ الله سبحانه هو (الرَّقيب) علينا.
1- ﴿… إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾( ) (سورة النِّساء: الآية 1).
2- ﴿… وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْئٍ رَقِيبًا﴾ (سورة الأحزاب: الآية 52).
ربَّما نمارس تزويرًا في المراجعة، والمحاسبة، فتكون النَّتائج (مزوَّرة)!
نتائج المراجعة غير الجادَّة
فكم هو خطير على كلِّ واقعنا الفرديِّ، والاجتماعيِّ، والسِّياسيِّ، والاقتصاديِّ، وفي كلِّ مساحات الواقع أنْ تكون (المراجعة) غيرَ جادَّةٍ، وغيرَ صادقةٍ، وغير نزيهةٍ وغير رشيدة.
إنَّ هذه المراجعة لا تضعُ يدَها على الأخطاءِ، والمفاسدِ والمنزلقات، وبالتَّالي يبقى الخطأ، ويبقى الفساد، وتبقى التَّوتُّرات، والتَّأزُّمات.
وهكذا يكون الإنسان هو الضَّحيَّة!
وهكذا تكون الأوطانُ، والشُّعوبُ هي الضَّحيَّة.
إنَّ ملفَّاتِ الفسادِ يجب أنْ تُعطى الأولويَّة في المراجعة، والمحاسبة، وفي قراءة أوضاع الأوطان، فهذه الملفَّات أصبحت مصدرَ قلقٍ، وتوتُّرٍ لكلِّ الشُّعوب.
ربَّما تتصدَّر واجهاتِ الإعلام لكلِّ الدُّول في هذا العصر (عناوين محاربةِ الفساد)، ومحاربة العبث الماليِّ، والإداريِّ، ولكن كم هي مصداقيَّة هذه العناوين؟
ولكن كم هي (المشروعات الجادَّة) لمحاربة الفساد؟
ولكن كم هي (المحاسبة الفاعلة) لمواقع الفساد؟
ولكن كم هي (البرامج القادرة) على ملاحقة الفساد؟
لا قيمةَ لإعلامٍ لا يتحوَّل واقعًا متحركًا!
ربَّما يحمل الإعلامُ صرخاتِ الشُّعوب، واستغاثات الشُّعوب، وهي تعاني من ويلات الفساد في كلِّ المواقع، إلَّا أنَّ التَّصدِّي الجادَّ لمنتجاتِ الفسادِ أمرٌ غائب.
التَّصدِّي الجادُّ لكلِّ مساراتِ الفسادِ يحتاج إلى:
أوَّلًا: تشخيص مواقع الفسادِ
فما لم تُشخَّص هذه المواقع، فلا يمكن ملاحقة الفساد، ومصادرة الفساد.
ثانيًا: تحديد أسباب الفساد
فما لم تُحدَّد هذه الأسباب، فلا يمكن وصف العِلاجات.
ثالثًا: وضع الحلولِ، والعِلاجات
بشرط أنْ تكون هذه العِلاجات قادرة على أنْ تلاحق كلَّ مسار الفساد.
رابعًا: متابعة التَّطبيقات
فقد تفشل الحلول، والعِلاجات إذا لم تتوفَّر على تطبيقات جادَّة، وصادقة، وفاعلةٍ.
خامسًا: مراجعاتٍ دائمة ومستمرَّة
فمن خلالِ هذه المراجعات، تتجدَّد الرُّؤي، وتصحَّح الخطوات، وتوجَّه المسارات.
سادسًا: مواجهةِ المُعوِّقاتِ، والتَّحدِّياتِ، والإشكالاتِ
فكثيرًا ما تكون العِلاجات ناجحةً، وقادرةً على ملاحقة الفساد الماليِّ، والإداريِّ، إلَّا أنَّ هذه العِلاجات تواجها معوِّقاتٌ، وتحدِّياتٌ، وإشكالاتٌ، وغالبًا ما تكون من (صُنَّاع الفساد)، و(سماسرة العبث)!
هنا تكونُ الضَّرورة أنْ تُحصَّنَ (الحلول، والعلاجات) في مواجهة كلِّ التَّحدِّيات التي تحاول أنْ تعطِّلها، أو تنحرف بمساراتها، وخطواتها.
الفرصة الكبرى للمراجعات
إنَّ انتهاءَ عام مضى، وإنَّ بداية عام جديد هو (الفرصة الكبرى)؛ للقيام بمراجعات لكلِّ الأوضاع الخاصَّة، والعامَّة.
أوَّلًا: المراجعات الخاصَّة
أمَّا المراجعات الخاصَّة، فتعني: إنَّ انتهاءَ عامٍ، وبدايةَ عامٍ يمثِّل (انتهاء شَطْرٍ من عمر كلِّ واحدٍ منَّا، وبداية شطرٍ جديد)!
وهنا تأتي القِيمة الكبيرة؛ لتحويل (بدايات، ونهايات الأعوام) إلى محطَّات جَرْد، وحساب إلى ما نملك من أعمالٍ.
فماذا كانت حصيلة عامٍ مضى من عمرنا؟
هل توفَّرنا على رصيدٍ أكبرَ من الطَّاعاتِ، والأعمالِ الصَّالحةِ، وأعمال البرِّ والخير، وخدمةِ النَّاس، ونصرةِ الدِّين، والدِّفاع عن الإسلام، ومواجهة الفساد، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر؟
أم حَدَث العكس، فانخفض رصيد الطَّاعاتِ، والأعمالِ الصَّالحةِ، وتراجع، وانخفض؟
وربَّما حدث ما هو أسوأ!
بأنْ ارتفع رصيدُ المعاصي، والذُّنوب، والأعمالِ السَّيِّئة، وأفعالِ الفسادِ والشَّرِّ، وظلمِ النَّاسِ، وخذلان الحقِّ.
ثانيًا: المراجعات العامَّة
أمَّا مراجعة الأوضاع العامَّة، فتعني: محاسبة (الشَّأن العامِّ)، ومحاسبة كلِّ ما تتَّصل به من (مسؤوليَّات)، ولا شكَّ أنَّ محاسبة هذه المساحة أَعْقَد بكثير من مساحة محاسبة أوضاع الأفراد!
فالأوضاع العامَّة هي نتاج مسؤوليَّاتٍ مشتركةٍ.
مسؤوليَّاتِ أنظمةٍ حاكمةٍ.
مسؤوليَّات مؤسَّساتٍ.
مسؤوليات قوى، وكيانات دينيَّة، وثقافيَّة، واجتماعيَّه، واقتصاديَّة، وسياسيَّة، وحقوقيَّة.
وهذا يفرض أنْ تكون المحاسبة مشتركة، وهذه المحاسبة المشتركة تفرض تعاونًا جادًّا، وفاعلًا بين كلِّ القوى المؤثِّرة في صناعة الأوضاع العامَّة.
هنا الحاجة كبيرة جدًّا الى (اللِّقاءات)، و(الحوارات)، و(التَّفاهمات المشتركة).
فلو أردنا محاسبة (أوضاع سياسيَّة)، أو محاسبة (أوضاع أمنيَّة)، أو محاسبة (أوضاع اقتصاديَّة)، أو محاسبة (أوضاع حقوقيَّة)، فهذه المحاسبة لا تنهض بها جهود الأفراد، بل هي في حاجة إلى (تفكير مشترك)، وإلى (جهود مشتركة).
دراسة البطالة – مثالًا – والمسؤول عنها
فإذا أريد محاسبةُ (البطالة) – مثلًا – في هذا البلد، أو في ذاك البلد، ودراسة أسبابها، ومعالجتها.
أوَّلًا: مسؤوليَّة الأنظمة
فهذه مسؤوليَّة أنظمة حاكمة (أوَّلًا)!
مطلوب من الأنظمة أنْ تدرس أسباب البطالة، ومطلوب منها أنْ تعالج أسبابها.
ومن مسؤوليَّات الأنظمة:
1- أنْ توفِّر الأعمال للعاطلين القادرين على العمل.
2- أنْ توفِّر ضمانًا معيشيًّا للعاطلين الذين لم تتوفَّر لهم فُرص العمل.
3- أنْ توفِّر ضمانًا معيشيًّا للعاطلين العاجزين عن العمل.
• جاء في عهد الإمام أمير المؤمنين لمالك الأشتر حينما ولَّاه على مصر (التَّأكيد على رعاية البائسين، والفقراء، والعاجزين عن العمل، وجميع أصحاب الحاجة). (انظر: نهج البلاغة، الصَّفحة 421، تحقيق: الدكتور صبحي الصَّالح).
وأمَّا ثانيًا: مسؤوليَّة أصحاب الإمكانات الماليَّة
فالمسؤولية كذلك يتحمَّلها أصحاب الإمكانات الماليَّة، والقُدُرات الاقتصاديَّة.
مسؤوليتهم أنْ يُوفِّروا فرصَ العملِ للعاطلين القادرين على العمل.
وأنْ يُساهِمُوا في كَفَالةِ العاجزين عن العمل.
وكذلك العاطلين الَّذين لم يتوفَّر لهم العمل.
وأمَّا ثالثًا: مسؤوليَّة أصحاب الكفاءات العلميَّة في مجالات الاقتصاد
فيتحمَّل أصحاب الكفاءات العلميَّة في مجالات الاقتصاد مسؤوليَّتهم في تقديم (الدِّراسات) التي تعالج (قضيَّة البطالة).
نسأله تعالى أنْ يجعل عامَنا الميلاديَّ الجديدَ:
عام خيرٍ، وبركه.
وعام أمنٍ، وأمان.
وعامَ محبَّةٍ، وتسامح.
وعامَ وحدةٍ، وتآلف.
وعامَ صُلحٍ، وإصلاح.
وعام نهضةٍ، وبناء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.