حديث الجمعةشهر ربيع الأول

حديث الجمعة 525: إتمام مكارم الأخلاق – الوضع الصِّحيُّ لسماحة آية الله الشَّيخ عيسى أحمد قاسم

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين، وبعد:

إتمام مكارم الأخلاق

فالحديث اللَّيلةَ يتناول الكلمةَ المأثورة عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «إنَّما بُعِثْتُ لأتمِّم مكارمَ الأخلاق». (مكارم الأخلاق، الصفحة8، الشَّيخ الطبرسي).
* العالم وَأَزْمَة القِيم، والأخلاق!
وقبل أنْ أعالج دلالاتِ هذه الكلمةِ النَّبويَّة أحاول أنْ أضع هذا التَّمهيد:
إنَّ العالم اليومَ يعيش (أزمة قِيم)!

إنَّ أزمة هذا العصر ليست أزمة ثقافة.
وليست أزمة سياسيَّة.
وليست أزمة اقتصاد.
إنَّها أَزمة قِيم، وأزمة أخلاق!
إنَّنا في زمان الهَيْمنةُ فيه إلى قانون (المصالح فوق المبادئ)!
فبِدْءًا من الأفراد – ففي الغالب، ولا أُعمِّم – كلَّما تزاحمتْ مصالحهم مع (المبادئ)، فالأولويَّة للمصالح، ولتسقطْ كلُّ المبادئ والِقيم الأخلاقيَّة ما دامت مصالحهم الشَّخصيَّة بخير!

وما دامت بطونهم مملوءة، فلا مشكلة إنْ مات كلُّ النَّاس جوعًا!
وما دامت أجسادهم مكسوَّة بأفخر اللِّباس، فلا مشكلة أنْ يبقى كلُّ النَّاس عُراة!
وما دامت تضمُّهم القصور، فلا مشكلة أنْ يبقى كلُّ النَّاس في العَراء!
وما داموا آمنين، فلا مشكلة أنْ يبقى كلُّ النَّاس بلا أمان!
وإذا انتقلنا إلى الجماعات دينيَّة كانت، أم عشائريَّة، أم قوميَّة، أم اجتماعيَّة، أم حزبيَّة، أم سياسيَّة، أم ثقافيَّة، ففي الغالب – ولا أعمِّم هي أيضًا – محكومة لقانون (المصالح فوق المبادئ)!

فما دامت مصالح الجماعة مُؤَمَّنة، فلتَبقَ كلُّ الجماعات الأخرى محرومة!
وما دام أمن الجماعة موجودًا، فلتَبقَ كلُّ الجماعات الأخرى بلا أمان!
وما دام كَيان الجماعة متماسكًا، فلتَبقَ كلُّ الجماعات الأخرى مشتَّتة، وممزَّقة!
وما دام خير الجماعة موفورًا، فلتَبقَ كلُّ الجماعة الأخرى محرومة، ومعدومة!
وإذا انتقلنا إلى أنظمة الحكم، والسِّياسة، فأغلب هذه الأنظمة في العالم – ولا أعمِّم – مأسورة لقانون (المصالح فوق المبادئ)!

فعلاقات الأنظمة محكومة لقانون المصالح فوق المبادئ.
وسياسات الأنظمة محكومة لقانون المصالح فوق المبادئ.
وخَيَارات الأنظمة محكومة لقانون المصالح فوق المبادئ.
وإرادات الأنظمة محكومة لقانون المصالح فوق المبادئ.

وهكذا نجد المساحات – إلَّا ما استُثني – مأسورة لقانون المصالح فوق المبادئ، ممَّا أنتج (أزمات مدمِّرة، ومرعِبة).

فما دامت المصالح لا تتحقَّق إلَّا بممارسة الظُّلم، فليكنْ ذلك، وهو أمرٌ مشروع في قانون هذا العصر!

وما دامت المصالح لا تتحقَّق إلَّا بالاعتداء على كرامة الآخرين، فليكنْ ذلك وهو أمر مشروع في قانون هذا العصر!

وما دامت المصالح مرهونة بالعَبَث بمصير الآخرين، فليكنْ ذلك وهو أمر مشروع في قانون هذا العصر!

فالاعتبار – دائمًا – للمصالح لا للمبادئ.
فالمبادئ تقول، والمصالح تقول!
والخَيار – دائمًا – لما تقول المصالح!
والانحياز – دائمًا – إلى صفِّ المصالح!
* القِيمة الكبيرة المتجلِّية من قوله (صلَّى الله عليه وآله)

بعد هذا التَّمهيد:
يمكن أنْ تتجلَّى لنا القِيمة الكبيرة جدًّا لكلمة النَّبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «إنَّما بُعِثْتُ لأتمم مكارمَ الأخلاق». (مكارم الأخلاق، الصفحة8، الشَّيخ الطبرسي).

فلا خَلاص للعالم من كلِّ أزماته السِّياسيَّة، والحقوقيَّة، والأمنيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والثَّقافية إلَّا حينما تتمركز (القِيم الأخلاقيَّة)، ويتأصَّل (قانون المبادئ فوق المصالح).

فاذا تمركزتْ هذه القِيمُ، وتأصَّلَ هذا القانونُ كان الخيارُ للعدلِ، لا للظُّلم.
للإصلاح، لا للإفساد.
للحقَّ، لا للباطلِ.
للأمنِ، لا للرُّعب.
للتَّسامحِ، لا للتَّعصُّب.
للرِّفقِ، لا للعنفِ.
للتَّفاؤل، لا للتَّشاؤم.
للخير، لا للشَّرِّ.
للاعتدال، لا للتَّطرُّف.
للتَّآلف، لا للتَّخالف.
للتَّماسك، لا للتَّصارع.
للوحدةِ، لا للفرقة.
للفضيلة، لا للرَّذيلة.
للأمانة، لا للخِيانة.
للصَّلاح، لا للفساد.
للصِّدق، لا للكذب.
للنَّظافة، لا للقَذَارة.

فكم تتغيَّر كلُّ الأوضاع الفاسدة، وتتصحَّح كلُّ المسارات السَّيِّئة حينما تكون الحاكميَّة لقِيم الخير، ولقِيم العدل، ولكلِّ القِيم الفاضلة والنَّظيفة؛ وحينما يسود حسن الخلق.
1- «جاء رجلٌ إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) من بين يديه، فقال: يا رسول الله ما الدِّين؟

فقال [صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم]: حُسْنُ الخُلُق.
ثمَّ أتاه عن يمينه، فقال: ما الدِّين؟

فقال [صلّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم]: حُسُنُ الخُلُق.
ثُمَّ أتاهُ من قبل شمالِهِ، فقال: ما الدِّين؟

فقال [صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): حُسُنُ الخُلُق.
ثمَّ أتاهُ من ورائِهِ، فقال: ما الدِّين؟

فالتفت إليه [النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم]، وقال: أَمَا تَفْقه، الدِّين هو أنْ لا تغضب». (ميزان الحكمة1/801، محمَّد الريشهري).

2- وفي الحديث: «العَدلُ حَسَنٌ، ولكن في الأمراء أحْسَن.
السَّخاءُ حَسَنٌ، ولكن في الأغنياء أحْسَن.
الوَرَعُ حَسَنٌ، ولكن في العلماءِ أحَسَن.
الصَبْرُ حَسَنٌ، ولكن في الفقراء أحَسَن.
التَّوبة حَسَنةٌ، ولكن في الشَّباب أحْسَن.

الحياءُ حَسَنٌ، ولكن في النِّساء أحسن». (ميزان الحكمة1/804، محمَّد الريشهري).

* النَّهج النَّبويُّ في معالجةِ النُّضوب الأخلاقيِّ

اعتمد النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) في معالجةِ النُّضوب الأخلاقيِّ عدَّة مراحل:
المرحلة الأولى: تجذير القِيم الأخلاقيَّة في العقول
من خلال عدد كبير من الأحاديث، والتَّوجيهات.

من هذه الأحاديث، والتَّوجيهات:
1- «إنَّما بُعثت؛ لأتممَّ مكارم الأخلاق». (مكارم الأخلاق، الصفحة8، الشَّيخ الطبرسي).

2- «إنَّما بعثت؛ لأتممَّ حسن الأخلاق». (ميزان الحكمة1/801، محمَّد الريشهري).

3- «جعل الله سبحانه مكارمَ الأخلاق صِلةً بينه وبين عباده، فحسب أحدكم أنْ يتمسَّك بخلق متَّصل بالله». (ميزان الحكمة1/804، محمَّد الريشهري).

4- «الخُلُق وعاء الدِّين». (ميزان الحكمة1/798، محمَّد الريشهري).

5- «الإسلامُ حُسُن الخُلُق». (ميزان الحكمة1/798، محمَّد الريشهري).
وغيرها من الأحاديث الكثيرة جدًّا.

وهكذا جذَّر النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) (الوعيَ الأخلاقيَّ) عند المسلمين.
وتجذير الوعي الأخلاقيِّ سيُشكِّل تأسيسًا ضروريًّا؛ لصنع الأخلاق عند الأمَّة.
وإذا غاب (الوعي الأخلاقيُّ) كان التَّأسيس هشًّا، ومرتَبِكًا.
وبقدر ما يرتقي مستوى هذا الوعي الأخلاقيُّ يكون التَّأسيس صُلْبًا، وقويًّا، ولا تهزمه كلُّ التَّحدِّيات، وكلُّ الإشكالات.

المرحلة الثَّانية: تجذير القِيم الأخلاقيَّة في القلوب، والضَّمائر
ومهمَّة هذه المرحلة: (إنتاج العشق، والانصهار، والذَّوبان(.
فتتحوَّل القِيم الأخلاقيَّة (وَهَجًا، ونبضًا متدفِّقًا)، ولا تبقى مجرَّد (مفاهيم وأفكار في العقل).

الوعي الأخلاقيُّ له قيمة كبيرة بلا إشكال، ولكن يبقى هذا الوعي (راكدًا، وجافًّا) إذا لم تتحوَّل (الأخلاق) إلى مشاعر تملأ القلب، وأحاسيس تسكن الوجدان، وهكذا تكون الأخلاق حيَّة، ونابضه، ومتدفِّقه.

نقرأ مجموعة كلمات للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) تخلق (العشقَ الأخلاقيَّ):
1- «مَنْ حَسَّنَ خُلَقَه بلَّغَه الله درجة الصَّائم القائم». (ميزان الحكمة1/799، محمَّد الريشهري).

2- «إنَّ العبد ليبلغ بحسن خُلُقِهِ درجاتِ الآخرة، وشرف المنازل، وإنَّه لضعيف العبادة».

3- «أوَّل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة حُسُنُ خُلُقِهِ». (ميزان الحكمة1/799، محمَّد الريشهري).

4- «ما من شيئ أثقل في الميزان من خُلُقٍ حَسَنٍ». (ميزان الحكمة1/799، محمَّد الريشهري).

5- «إنَّ أحبَّكم إليَّ، وأقرَبكم منِّي يوم القيامة مجلسًا أحسنُكم خُلُقًا، وأشدُّكم تواضعًا»

6- «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خلقًا». (ميزان الحكمة1/800، محمَّد الريشهري).

7- «ألا أخبركم بأشبهكم بي خُلُقا؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال [صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم]: أحسنُكم خُلُقًا، وأعظمكم حِلمًا، وأبرُّكم بقرابته، وأشدُّكم من نفسه إنصافًا». (ميزان الحكمة1/800، محمَّد الريشهري).
المرحلة الثَّالثة: تجذير القِيم الأخلاقيَّة في السُّلوك
ومهمَّة هذه المرحلة: (إنتاج التَّطبيق، والالتزام العمليُّ).
فلا جدوى أنْ تبقى القِيم الأخلاقيَّة في (العقول).
ولا جدوى أنْ تبقى القِيم الأخلاقيُّة في (القلوب) إذا لم تتحوَّل إلى (سلوكٍ، وأفعالٍ، وممارسات).

* الهدف الأساس من الأخلاق هو (صنع السُّلوك)
فإذا غاب هذا الصُّنع لم تحقِّق الأخلاقُ هدفَها في حياة الإنسان.

أيُّ قيمة لأنْ نؤمن كلَّ الإيمان بالصِّدق، ونعشق كلَّ العشق خصلة الصِّدق إلَّا أنَّنا في واقعنا العمليِّ نمارس الكذب؟!

أيُّ قيمة لأنْ نؤمن كلَّ الإيمان بالأمانة، ونعشق كلَّ العشق هذه الخصلة إلَّا أنَّنا في واقعنا العمليِّ نمارس (الخيانة)؟!

أيُّ قيمة لأنْ نؤمن كلَّ الإيمان بالعدل، ونعشق كلَّ العشق هذه الخصلة إلَّا أنَّنا في واقعنا نمارس (الظُّلم)؟!

أيُّ قيمة لأنْ نؤمن كلَّ الإيمان بالفضيلة، ونعشق كلَّ العشق هذه الخصلة إلَّا أنَّنا في واقعنا العمليِّ نمارس (الرَّذيلة)؟!

أيُّ قيمة لأنْ نؤمن كلَّ الإيمان بالتَّسامح، ونعشق كلَّ العشق هذه الخصلة إلَّا أنَّنا في واقعنا العمليِّ نمارس (التَّعصُّب)؟!

أيُّ قيمة لأنْ نؤمن كلَّ الإيمان بالاعتدالِ، ونعشق كلَّ العشق هذه الخصلة إلَّا أنَّنا في واقعنا العمليِّ نمارس (التَّطرُّف)؟!

أيُّ قيمة لأنْ نؤمن كلَّ الإيمان بالإصلاح، ونعشق كلَّ العشق هذه الخصلة إلَّا أنَّنا في واقعنا العمليِّ نمارس (الإفساد)؟!

أيُّ قيمة لأنْ نؤمن كلَّ الإيمان بالوحدة والتَّقارب، ونعشق كلَّ العشق الوحدة والتَّقارب إلَّا أنَّنا في واقعنا العمليِّ نمارس (الفرقة، والتَّخالف)؟!

أيُّ قيمة لأنْ نؤمن كلَّ الإيمان بالمحبَّة، ونعشق كلَّ العشق هذه الخصلة إلَّا أنَّنا في واقعنا العمليِّ نمارس (الكراهية)؟!

هذا التَّناقض الكبير بين (الإيمان، والعشق) من طرف، و(السَّلوك، والممارسة) من الطَّرف الآخر يعبِّر عن خَلَل واضح في (الإيمان)، و(العشق)، فلو كان هذا الإيمان حقيقيًّا، ولو كان هذا العشق صادقًا لأنتجا – حتمًا – سلوكًا، وممارسة.

* التَّحذير من الممارسات الفاسدة

نقرأ في كلمات النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) التَّحذيرات الشَّديدة من الممارسات الفاسدة:
1- قال (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «ألا أخبركم بأبعدكم منِّي شَبَهًا؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): الفاحش.
المتفحِّش.
البَذِيئ.
البخيل.
المختال.
الحقود.
الحسود.
القاسي القلب.
البعيد من كلِّ خير يُرجى.
غير المأمون من كلِّ شرٍّ يُتَّقى». (ميزان الحكمة1/807، محمَّد الريشهري).
الفاحش: ذو الفحش في كلامه، وفعاله (الفحش، الأمور القبيحة).
المتفحِّش: المتعمِّد الفحش.
البذيئ: مَنْ يتكلَّم بألفاظ سيِّئة.

2- وقال (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «أبى الله لصاحب الخلق السَّيئ التَّوبة!
فقيل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟
قال [صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم]: لأنَّه إذا تاب من ذنبٍ وقع في أعظم من الذَّنب التي تاب منه». (ميزان الحكمة1/806، محمَّد الريشهري).

3- «قيل لرسول الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): إنَّ فلانة تصوم النَّهار، وتقوم اللَّيل، وهي سيِّئة الخُلُق، تُؤْذِي جيرانها بلسانها!
قال [صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم]: لا خير فيها!، هي من أهل النَّار». (بحار الأنوار68/394، العلَّامة المجلسي).

فالقِيمة كلُّ القِيمة حينما تتحوَّل (المبادئ الأخلاقيَّة) واقعًا متحرِّكًا، فتكون أخلاقًا:
للفرد.
للأسرة.
للمجتمع.
للتَّربية.
للدَّعوة.
للاقتصاد.
للثَّقافة.
للسِّياسة.

كلمة أخيرة:
الوضع الصِّحيُّ لسماحة آية الله الشَّيخ عيسى أحمد قاسم
الوضع الصِّحيُّ لسماحة آية الله الشَّيخ عيسى أحمد قاسم يتَّجه نحو التَّحسُّن، والاستقرار بفضل دعوات المؤمنين، ولا زال في حاجة إلى البقاء هناك بعض الوقت؛ لاستكمال العِلاجات المتبقِّية.
كلَّنا شوق إلى العودة الميمونة الكريمة؛ لتقرَّ العيون، وتبتهج القلوب.
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين.

Show More

Related Articles

Back to top button