حديث الجمعة 513: الغدير حقيقة ثابتة – أوضاع الوالد سماحة آية الله الشَّيخ عيسى الصِّحيَّة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين، وبعد:
الغدير حقيقة ثابتة
فهذه كلمة حول (قضيَّة الغدير)
في السَّنة العاشرة من الهجرة حجَّ النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) حجَّة الوداع، وفي أثناء العودة، وفي منطقة تُسمَّى (غدير خم) على مقربة من الجُحفة – صحراء يلفُّها الهجير، وتلتهب رمالها بوهج الظَّهيرة، حتَّى أنَّ المرء يضطَّر أنْ يغطيَ رأسَه، ويقي قدميه من شدَّة حرِّ الرَّمضاء -، وأمَّا الزَّمان، فكان الثَّامن عشر من ذي الحجَّة في مرحلة تمثِّل المقطع الأخير من حياة النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
في هذا المكان (غدير خم)، وفي هذا الزَّمان (الثَّامن عشر من ذي الحجَّة، في السَّنة العاشرة من الهجرة) نزل على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ …﴾.( ) (سورة المائدة: الآية67)، فنادى (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالمسلمين: الصَّلاة جامعة، وصلَّى بهم الظُّهر، ثمَّ خطب فيهم في لقاء جماهيريٍّ حاشد ضمَّ ما يربو على (مائة ألف) إنسان من المسلمين!
وكان الخطاب حديثًا تاريخيًّا خطيرًا.
وكان الأسلوب ملفِتًا جدًّا.
أخذ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بيد علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) ورفعها أمام النَّاسِ حتَّى بان بياض إبطيهما!
وبدأ الخطاب ناعيًا لنفسه، حيث قال: “أيُّها النَّاسُ، إنَّه قد نبَّأني اللَّطيف الخبير أنَّه لم يعمِّر نبيٌّ إلَّا نصف عمر الذي يليه من قبله.
وإنِّي لأظنُّ أنِّي يوشك أن أُدْعى، فأجيب.
وإنِّي مسؤول، وإنَّكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟
قالوا: نشهد أنَّك قد بلَّغت، وجاهدت، ونصحت، فجزاك الله خيرًا”.
وظلَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يسائلهم، ويسائلهم، … .
وهم يقولون: “بلى نشهد بذلك”.
ويعقِّب (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بقوله: “اللَّهمَّ، اشهد”.
وبعد هذه المساءلات خاطبهم وهو آخذ بيد علي بن أبي طالب: “أيُّها النَّاس إنَّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم.
فمَن كنتُ مولاه، فهذا مولاه، يعني عليَّا… .
اللَّهمَّ، والِ مَن والاه، وعادِ مَنْ عاداه، …”. (كتاب الولاية 233 – هامش1، ابن عقدة الكوفي).
وبعد أنْ أنهى النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) خطابه التَّاريخيَّ، بادر الصَّحابة لمباركة عليٍّ (عليه السَّلام).
* حديث الغدير متواتِر، واختلاف قراءاتُه
حديث الغدير حديث متواتر، وقد صرَّح بذلك عدد كبير من علماء الحديث السُّنَّة، والشِّيعة!
نعم، وقع الخلاف في فهم الحديث، وفي دلالته.
فهنا قراءتان:
القراءة الأولى: فضيلة تؤكِّد محبَّة عليٍّ!
لا تَفْهم الحديث نصًّا على تعيين علي بن أبي طالب إمامًا، ووصيًّا، وخليفةً، وإنَّما هو مجرَّد فضيلة تؤكِّد على محبَّة علي (عليه السَّلام)، لأنَّ كلمة مولى تعني: (النَّاصر، والمحبَّ، والصَّديق)!
القراءة الثَّانية: عليٌّ خليفة وقائد وإمام
هذه القراءة تَفهم الحادثة نصًّا صريحًا قاطعًا على تعيين علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) خليفةً، ووصيًّا، وإمامًا، وقائدًا بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
* الغدير محلُّ جدل، وصراع حادٍّ!!
هنا تُطرح (إشكاليَّة) تقول: ما دامت قضيَّة الغدير محلُّ جدل، وخلاف بين المسلمين، فلماذا نعيد قضايا تختزن في داخلها (عوامل الصِّراع، والفِرقة)؟
فهذه القضيَّة – قضية الغدير – شكَّلت نقطة صراع حادٍّ!، فالمسلون من أتباع مدرسة أهل البيت (عليه السَّلام) يعتبرونها نصًّا دينيًّا على إمامة علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)، وأمَّا المسلمون مِن أتباع المذاهب الأخرى، فبَين مَن يُنكر حدوثها، أو لا يعترفون بدلالتها على الإمامة!
فالخلافة عندهم لا تعتمد على مبدأ النَّصِّ، والتَّعيين، وإنَّما تعتمد على مبدأ الشُّورى، والانتخاب.
وقد ألَّف علماء المسلمين السُّنَّة والشِّيعة الكثير من الكتب في معالجة هذه القضيَّة، ومنذ ذلك العصر وحتَّى الآن والجدل لم يتوقَّف، وبقي كلُّ طرف في موقعه.
من هنا يقول البعض: لماذا لا نجمِّد الحديث في (قضايا التَّاريخ الخِلافيَّة)؛ من أجل إنتاج الوحدة، والتَّآلف بين المسلمين، فمَّا أحوج أمَّتنا إلى ذلك خاصَّة في هذا العصر، حيث التَّحدِّيات الصَّعبة جدًّا والتي تحاول أنْ تصادر هُويَّة المسلمين، وأنْ تمزِّق شملهم، وأنْ تعبث بمقدراتهم، وبكرامتهم، وأنْ تُصادر هُويَّتهم.
في ظلِّ هذه التَّحدِّيات، فالحَاجة كلُّ الحاجة الى (الخطاب) الذي يوحِّد، ويقارب، لا إلى الخطاب الَّذي يقرِّق، ويمزِّق!
إلى الخطاب المتسامح، لا إلى الخطاب المتعصِّب.
إلى الخطاب المعتدِل، لا إلى الخطاب المتشدِّد.
إلى الخطاب المهدِّئ، لا إلى الخطاب المُؤزِّم.
إلى الخطاب المحاوِر، لا إلى الخطاب المخاصِم.
إلى الخطاب المصحِّح، لا إلى الخطاب المخرِّب.
إلى الخطاب العاقِل، لا إلى الخطاب الطَّائِش.
هذا الكلام منطقّيٌّ، وجميل جدًّا، ولا غبار عليه.
فنحن نرفض أيَّ حديث يوقِظ الخِلافات، والصِّراعات، والعداوات.
* الفارق بين الاختلافات والخِلافات
إلَّا أنَّه هنا حقيقةٌ يجب أنَّ نعترف بها: الفارق كبير جدًّا بين (الاختلافات)، و(الخِلافات).
فالاختلافات تعني: تعدُّد الرُّؤى، والقناعات.
والخِلافات تعني: الصِّراعات، والعَدَاوات.
إنَّ مساحات الاختلاف في الرُّؤى والقناعات بين (المكوِّنات الدِّينيَّة)، و(المكوِّنات المذهبيَّة)، و(المكوِّنات الثَّقافيَّة)، و(المكوِّنات السِّياسيَّة) هي مساحات لا يمكن أنْ تُلغى، وليس من الطَّبيعيِّ أنْ تُلغى!
* سمات التَّقدُّم، والتَّخلُّف!
إنَّ وجود هذه الاختلافات مظهر صحَّة، ومعافاة، ومظهر مرونة، ومظهر قوَّة.
فمِن أبرز سِمات التَّحضُّر أنْ تتعدَّد الرُّؤى، والقناعات.
ومن أبرز سمات التَّقدُّم أنْ تتعدَّد (الخَيارات) في الدِّين، في المذهب، في الثَّقافة، في السِّياسة.
إنَّ مجتمعًا لا يسمح بهذه التَّعدُّديَّة هو مجتمع متخلِّف، وهو مجتمع مستبدُّ!
فمِن أبرز مظاهر المجتمعات المستبدِّة والمتخلِّفة أنَّه لا يُسمح فيها للتَّعدُّديَّات أنْ تتحرَّك التَّعدُّديَّات الدِّينيَّة، والمذهبيَّة، والثَّقافيَّة، والسِّياسيَّة.
ولا يعني هذا التَّعصب، والتَّطرُّف، وللتَّشدُّد …
فمِن حقِّ أيِّ إنسان أنْ يحدِّد خَياره الدِّينيَّ، والمذهبيَّ، والثَّقافيَّ، والسِّياسيَّ ما دام يملك القناعة بهذا الخَيار.
ولكن ليس من حقِّه أنْ يسيئ إلى الآخر الدِّينيِّ، والمذهبيِّ، والثَّقافيِّ، والسِّياسيِّ.
أنت تملك حرِّيَّة أنْ تشكِّل (قناعتك) الدِّينيَّة، والمذهبيَّة، والثَّقافيَّة، والسِّياسيَّة، ولكن لا تملك الحقَّ في:
أنْ تلغي الآخر!
أنْ تمارس (عبثًا) ضدَّ الآخر!
أنْ تمارس تطرُّفًا، وعنفًا ضدَّ الآخر!
نعم، لك أنْ تحاور الآخر بالتي هي أحسن، ﴿… وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ …﴾.( ) (سورة النَّحل: الآية125).
﴿… وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ …﴾.( ) (سورة العنكبوت: الآية46).
* الفروق بين الحوارات البنَّاءة والفاشلة
الحوار مع الآخر الدِّينيِّ، والمذهبيِّ، والثَّقافيِّ، والسِّياسيِّ أمر جيِّد، وأمر مطلوب بشرط أنْ تتوافر (أسس الحوار الحقيقيِّ).
هناك فرق كبير بين الحوارات الجادَّة، والمقاذَفَات، والمُشاتمات!
هناك فرق بين الحوارات الهادفة، وبين السِّجالات الفاشلة!
هناك فرق بين الحوارات التي تبحث الحقيقة، والحوارات التي تبحث عن الغَلَبة وإنْ كان بالباطل.
الحوارات الصَّائبة أهدافها نظيفة.
منطلقاتها نظيفة.
أدواتها نظيفة.
كلماتها نظيفة.
إذا فقدت الحوارات هذه المرتكزات، فهي حوارات فاشلة، وهي مقَاذَفات، ومشاتمات، وهي متاجرات بالشِّعار.
إذا كان من حقِّنا أنْ نحاور، فإنَّه ليس من حقِّنا أنْ نقاذِف، أنْ نشاتِم.
الحوارات الصَّائبة تقارِب، تؤلِّف، توحِّد، تزرع الثِّقة، المحبَّة، التَّسامح.
وأمَّا المقاذَفَات، والمشاتَمَات، فهي تباعد، تفرِّق، تمزِّق.
وهي تكرِّس الشَّكَّ، الكراهية، العصبيَّة.
فانطلاقًا من هذا الطَّرح أقول: لا مشكلة إطلاقًا أن يمارس أيُّ إنسان حقَّه في الانتماء الدِّينيِّ، والانتماء المذهبيِّ، والانتماء الثَّقافيِّ، والانتماء السِّياسيِّ.
ولا مشكلة إطلاقًا أنْ يمارس حقَّه في التَّعبير عن قناعاته.
ولا مشكلة إطلاقًا أنْ تتحرَّك (حوارات صائبة، نظيفة، وجادَّه) بين مختلف القناعات.
إذًا الفارق كبيرٌ جدًّا بين (الاختلاف)، و(الخلاف).
الاختلاف يمثِّل حرِّيَّة الإنسان في اختيار قناعاته الدِّينيَّة، والمذهبيَّة، والثَّقافيَّة، والسِّياسيَّة.
والخِلاف هو صراع، وهو عداء، وهو إلغاء للآخر!
فمِن حقِّك أنْ تختار انتماءَك الدِّينيَّ، ولكن ليس من حقِّك أنْ تسيئ إلى الانتماء الآخر.
من حقِّك أنْ تختار انتماءَك المذهبيَّ، ولكن ليس من حقِّك أنْ تسيئ إلى الآخر.
من حقِّك أنْ تختار انتماءك الثَّقافيَّ، وانتماءك السِّياسيَّ، ولكن ليس من حقِّك أنْ تسيئ إلى الآخر.
نعم، وكما تقدِّم من حقِّك أنْ تحاور الآخر ما دمت تملك (قدرة الحوار)، وما دمت تملك (أسس الحوار)، وما دمت تملك (أدوات الحوار)، وما دمت تملك (لغة الحوار).
فحينما يمارس أتباع هذا المذهب، أو ذاك المذهب حديثًا عن قناعاته العقيديَّة، أو الفقهيَّة، أو الفكريَّة، فهذا حقُّه المشروع، ولا يملك أحد أنْ يمنعه.
نعم، ليس مسموحًا له أنْ يسيئ إلى الآخر الذي يختلف معه في المذهب.
لا يعني أنْ أختلف أنا الشِّيعيُّ مع الآخر السُّنِّيِّ، أنْ أمارس إلغاءً إليه، أو أنْ أمارس قذفًا، وإساءةً إليه، أو إلى أحد من رموزه.
وكذلك لا يعني أنْ أختلف أنا السُّنِّيُّ مع الآخر الشِّيعيِّ أنْ أمارس إلغاءً إليه، أو أنْ أمارس قذفًا، أوإساءةً إليه، أو إلى أحد رموزه.
وكذلك في حال الاختلافات الثَّقافيَّة، والسِّياسيَّة، فلا يسمح بالتَّقاذُف، والتَّشاتم، والإساءات.
أنْ تحاورني، وأنْ أحاورك، فهذا مشروع مع توفُّر شروط الحوار.
ولكن أنْ تلغيني، وأنْ ألغيك، فهذا غير مشروع.
أنْ أكفِّرك، وأنْ تكفِّرني، فهذا غير مشروع.
أنْ أَقْذِفَك، وأنْ تقذفني، فهذا غير مشروع.
1- قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): “سباب المؤمن فسوق، وقتاله كُفر، …”.( )(الكافي2/359، الشِّيخ الكافي).
2- سمع عليٌّ (عليه السَّلام) قومًا من أصحابه يسبُّون أهل الشَّام، فقال لهم: “إنِّي أكره أنْ تكونوا سبَّابين، ولكنَّكم لو وصفتم أعمالهم، وذَكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبِّكم إيَّاهم: اللَّهمَّ، أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، …”.( )(نهج البلاغة2/185، خطب الإمام علي عليه السَّلام).
وقد ورد النَّهي في القرآن الكريم عن سبِّ الذين يدعون من دون الله سبحانه، قال تعالى في (سورة الأنعام: الآية 108): ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم ٍ…﴾.
هذا هو منهج الدِّين في التَّعامل مع الآخر الذي تختلف معه، سواءً كان الاختلاف دينيَّا، أم مذهبيًّا، أم ثقافيًّا، أم اجتماعيًّا، أو سياسيًّا.
كلمة أخيرة: أوضاع الوالد سماحة آية الله الشَّيخ عيسى الصِّحيَّة
أوضاع الوالد سماحة آية الله الشَّيخ عيسى أحمد قاسم في تحسُّن مستمرٍّ، وأنْ صحَّته مُطَمْئِنة جدًّا، ويجب الحَذَر من أيَّة ترويجات كاذبه لها أهدافها المشبوهة.
سماحة الشَّيخ يبعث – دائمًا – بتحيَّاته، ودعواته لكلِّ أبنائه، وأحبَّائه، فكما وضعتموه في قلوبكم، وأرواحكم، فأنتم في قلبه، وروحه.
كلُّ القلوب تنتظر العودة الحميدة.
نسأله تعالى أنْ يكون ذلك قريبًا؛ لتقرَّ العيون برؤية الأب الوقور.
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.