موائد الإيمان (1): الصَّائمون الحقيقيُّون – الصِّيام يقسِّمونه إلى ثلاثة مستويات- الشَّهر الفضيل فرصة المحاسبة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
موائد الإيمان
هي محاضرات للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، ألقيت في أيَّام السَّبت خلال شهر رمضان المبارك 1439هـ، وقد تمَّ تفريغها من تسجيلات مرئيَّة، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبة للقارئ الكريم.
(1)
الصَّائمون الحقيقيُّون
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين، سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين الطَّيِّبين.
السَّلام عليكم أيُّها الأحبَّة جميعًا ورحمة الله وبركاته
تهنئة بالشَّهر الفضيل
في البداية أُهنِّئكم بهذا الشَّهر الفضيل، سائلين المولى القدير أنْ يجعله شهرَ خيرٍ وبركة، وشهرَ محبَّةٍ وأمنٍ وأمان على هذا الوطن، وعلى كلِّ أوطان المسلمين.
الصِّيام الحقيقيُّ
كيف نكون الصَّائمين الحقيقيِّين؟
عناصر الصِّيام الحقيقيِّ
نحتاج لكي نكونَ صائمين حقيقيِّين إلى أربعة عناصر:
العنصر الأوَّل: أنْ نملك فقه الصِّيام
العنصر الثَّاني: أنْ نملك وعي الصِّيام
العنصر الثَّالث: أنْ نملك روحانيَّة الصِّيام
العنصر الرَّابع: أنْ نملك فاعليَّة الصِّيام
نبدأ بـ:
العنصر الأوَّل: أنْ نملك فِقه الصِّيام
يعني أنْ نملك المعرفة بأحكام الشَّريعة في الصِّيام.
كيف نصوم؟
كيف ننوي؟
كيف نتجنَّب المفطرات الفقهيَّة – التي ذَكَرَها الفقهاء في رسائلهم العمليَّة -؟
هذا فقه العبادة.
هذا فقه الصَّلاة.
هذا فقه الحجِّ.
إذا لم يملك الإنسان معرفة بأحكام الصَّلاة الفقهيَّة، فقد يؤدِّي الصَّلاة باطلة، فاسدة!
إذا لم يعرف أركان الصَّلاة، واجبات الصَّلاة، شروط القِيام، شروط الرُّكوع، شروط السُّجود، هذه كلُّها نسمِّيها أحكام فقهيَّة، من الضَّروري الاطِّلاع بها.
مطلوب من المؤمن أنْ يملك ثقافة فقهيَّة في عباداته، في معاملاته، في حركته.
ضروريٌّ أنْ يتفقَّه في الدِّين بالمعنى الخاصِّ للتَّفقُّه، وهناك معنى عام للتَّفقُّه.
إذن الصِّيام حتَّى يكون صيامًا حقيقيًّا لا بدَّ أنْ تعرف أحكامه الفقهيَّة، وهذا ما يمارسه علماؤنا وأئمَّة الجماعة في توضيح أحكام الصِّيام الفقهيَّة.
هذا عنصر أساس في كون الصِّيام حقيقيًّا.
ليست المفطرات فقط هي الأكل والشُّرب، بل توجد مجموعة مفطرات أخرى عددها عشرة، إلى اثني عشر مفطِّرًا، يذكرها الفقهاء في رسائلهم العمليَّة.
مطلوب من الإنسان المؤمن أنْ يتوافر على معرفة وثقافة بالأحكام الشَّرعيَّة حتَّى يؤدِّي صلاته أداءً صحيحًا، ويؤدِّي صيامه أداءً صحيحًا، ويؤدِّي حجَّه أداءً صحيحًا، وبقيَّة العبادات.
هذا شرط واضح جدًا، وربَّما أكثر النَّاس يدركون هذا الشَّرط.
العنصر الثَّاني: أنْ نملك وعي الصِّيام
ما معنى أنْ نملك وعي الصِّيام؟
وعي العبادة هو أنْ نفهم ما هي أهداف العبادة.
لماذا نصلِّي؟
ما هي أهداف الصَّلاة؟
هذا ليس فقهًا، هذه ليست أحكامًا شرعيَّة!
بل هذا وعيٌ، هذا فهمٌ.
يوجد كثيرون يؤدُّون الصَّلاة، ولكنَّهم لا يدركون أهدافها!، فمثل هؤلاء لا يملكون وَعْي العبادة.
بعضهم يحجُّ، ولكنَّه لا يدرك أهداف الحجِّ.
والبعض يصوم، ولكنَّه لا يدرك أهداف الصَّوم الكبرى!
فالذي يدرك ذلك نسمِّي ذلك وعيًا، وليس فقهًا، وليست أحكامًا شرعيَّة.
الأحكام الشَّرعيَّة يمكنك أنْ تأخذها من الرِّسالة العمليَّة، من الأحاديث الفقهيَّة، أمَّا الوعي فيحتاج إلى قراءة فكريَّة ثقافيَّة حول الصِّيام، ومن خلال كتابات، وأحاديث، ومحاضرات تتحدَّث عن أهداف الصِّيام.
تلاحظون أنَّ النَّبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حينما قال لجابر (رضي الله عنه)، كما رُوي عنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أنَّه قال: “يا جابر، هذا شهر رمضان مَن صام نهاره، وقام وِردًا من ليله، وعفَّ بطنُه وفَرْجُه، وكفَّ لسانه، خرج من الذُّنوب كخروجه من الشَّهر.
فقال جابر: يا رسول الله، ما أحسن هذا الحديث!
فقال النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): يا جابر، وما أشدَّ هذه الشُّروط”! (مصباح المتهجد، الصَّفحة627، الشَّيخ الطُّوسي).
مستويات الصِّيام
الصِّيام يقسِّمونه إلى ثلاثة مستويات:
المستوى الأوَّل: صوم العموم
أي: عامة النَّاس.
عامَّة النَّاس يفهمون الصَّوم على أنَّه: تَرْك الأكل، والشُّرب، والجُماع، هذا هو الصَّوم.
أنا صائمٌ، أي: لا آكل، ولا أشرب، ولا أمارس الجنس الحلال، فمثل هذا الصَّوم يُسمَّى صوم العموم، أي: صوم عامَّة النَّاس.
المستوى الثَّاني: صوم الخصوص
يوجد صوم يُسمَّى صوم الخصوص، وصوم الخصوص هذا هو أرقى من الصَّوم الآنف الذِّكر!
صوم الخصوص هو: كفُّ البَطن، والفرج، وترك المفطرات، وكفُّ النَّفس عن المعاصي والذُّنوب.
هذا الصَّوم هو أرقى من الصَّوم الأوَّل.
يوجد كفٌّ لكن ليس عن شهوة البطن والفَرْج فقط، بل كفُّ حتَّى عن المعاصي والذُّنوب، فمثل هذا الصَّوم هو صوم أرقى من الصَّوم الأوَّل، ولذا نرى مَن لا يرتقي إلى هذا المستوى من الصِّيام يصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشَّمس، فلا يأكل، ولا يشرب، ولا يُمارس الجنس الحلال مع زوجته، لكنَّه يكذب، ويغتاب، ويظلم النَّاس!
فمثل هذا لا يُعدُّ صائمًا، نعم يعدُّ صائمًا بالمعنى الأوَّل – صوم العموم -، لكن بهذا المعنى الثَّاني – صوم الخصوص – هذا لا يُعدُّ صائمًا!
“سمع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) امرأة تسبُّ جارية لها وهي صائمة، فدعا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بطعام، فقال لها: كُلي!
فقالت: إنِّي صائمة!
فقال: كيف تكونين صائمة وقد سبَّيت جاريتك!، …” (الكافي4/87، الشيخ الكليني).
توجد معانٍ فكريَّة، وثقافيَّة للصَّوم، ولذا فإنَّ هذا النَّمط الثَّاني من الصَّوم هو أرقى من النَّمط الأوَّل.
ويوجد صوم أرقى من ذلك، وهو نوع ومستوى ثالث أرقى من النَّوعين والمستويَيْن: الأوَّل، والثَّاني.
المستوى الثَّالث – من الصِّيام -: صوم خصوص الخصوص
كفُّ البطن والفَرج، وكفُّ الجوارح عن المعاصي، وكفُّ القلب عمَّا سوى الله تعالى.
أنْ تجعل قلبك مع الله سبحانه دائمًا، فهو درجة عالية، ويُسمَّى ذلك صوم خصوص الخصوص!
فيوجد إذن: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص!
فالمطلوب منَّا إذن – أولًا -: أنْ نملك فقه الصِّيام، وأنْ نسأل عن أحكام الصِيام.
ومطلوب منَّا – ثانيًا –: أنْ نملك وعي الصِّيام، وأنْ نسأل عن مضامين الصِّيام، وأهداف الصِّيام.
العنصر الثَّالث: أنْ نملك روحانيَّة الصِّيام
لربما يصوم شخص عن الأكل، والشُّرب، وعن الجماع، ولا يرتكب المعاصي، إلَّا أنَّه لا يرتقي إلى درجة عالية من الرَّوحانيَّة بحيث إنَّ قلبه يكون مفتوحًا على الله تعالى، وأنَّ روحه تعرج إلى الله سبحانه!
إنَّ الصِّيام عروج روحيّ!
والصَّلاة عروج روحيٌّ!
والحجُّ عروج روحيّ!
فبأيِّ قدر نستطيع أنْ نعرج بأرواحنا في هذا الشَّهر الفضيل؟، وأنْ نربِّي أرواحنا تربية روحيَّة إيمانيَّة تقوائيَّة؟
فهذا صيام روحيٌّ.
هذا بناء الرُّوح.
العنصر الرَّابع: أنْ نملك فاعليَّة الصِّيام
نحتاج أنْ نمتلك فاعليَّة الصِّيام.
فاعليَّة الصِّيام
ما هو معنى فاعليَّة الصِّيام؟
الفاعلية تعني: أنْ تمارس العبادةُ دورها في تهذيب النَّفس، تهذيب الإنسان، ولذا نقول: العبادة فاعلةـ
ماذا صنعت الصَّلاة في حياتي؟
ماذا صنعت الصَّلاة في علاقاتي؟
بدءًا من علاقاتي في داخل البيت.
علاقاتي مع النَّاس.
علاقاتي مع الكلِّ.
الصَّلاة هل لها تأثير في حياتي، أو علاقاتي؟
الصَّوم هل له تأثير على سلوكي؟
الحجُّ هل له تأثير في حياتي، أو علاقاتي؟
إذا لم يكن للعبادة أيُّ تأثير على سلوك الإنسان، فالعبادة فيها نَظَر.
“كم من صائم ليس له من صيامه إلَّا الظَّمأ!
وكم من قائم ليس له من قيامه إلَّا السَّهر والعناء” (نهج البلاغة4/35، خطب الإمام علي عليه السَّلام).
قيمة الصَّلاة حينما تتحوَّل إلى ممارسة، إلى سلوك، إلى تقوى، إلى ورع، هذه هي الصَّلاة.
“مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر – كما رُوي في الحديث – لم يزدد من الله إلَّا بعدًا” (بحار الأنوار79/198، العلَّامة المجلسي).
الشَّهر الفضيل فرصة المحاسبة
وهذه فرصة يا أحبَّائي، في هذا الشَّهر الفضيل، فرصة أنْ نحاسب كلَّ واقعنا، هذه فرصة سنويَّة، فحاول أنْ تعيد حساباتك مع نفسك بشكل كامل، كيف هو عقلك؟، كيف هي روحك؟، كيف هو قلبك؟، كيف هو سلوكك؟، فهذا أفضل عبادة في شهر رمضان.
لربما يفهم البعض أنَّ العبادة في شهر رمضان هي أنْ أُكثر الصَّلاة، وأُكثر من تلاوة القرآن مثل هذا شيئ عظيم، حيث الفريضة في شهر رمضان مضاعفة، وقراءة آية من كتاب الله تعدل ختمة كاملة، فكلُّ ذلك عظيم.
وأنْ تشغل وقتك بتلاوة القرآن الكريم، بِذِكر الله، بالصَّلاة على محمَّد وآل محمَّد، فهذا شيئ عظيم جدًّا!
أنْ أُحافظ على حضور المساجد، أُحافظ على صلاة الجماعة، أحيي اللَّيل بالعبادة، أصلِّي صلاة اللَّيل، أو بعضًا من صلاة اللَّيل – فإذا لم يكن في كلِّ أسبوع، ففي بعض أيَّام الأسبوع أحيي اللَّيل بالعبادة، أقيم صلاة اللَّيل – أتلو القرآن الكريم، أُكثِرُ من الذِّكر، فهذه كلُّها أعمال عظيمة في شهر رمضان، ومُضاعفة، وثوابها عظيم جدًّا!
لكن قد تكون جلسة المحاسبة أفضل وأعظم!
اجلس وخصِّص لك جلسة ربع ساعة، أو نصف ساعة؛ لمحاسبة النَّفس، واعتبِرها جلسة محاسبة بينك وبين الله سبحانه، ولا يطَّلع على هذه الجلسة إلَّا الله تعالى، وابدأ بتوجيه الأسئلة إلى نفسك:
كم هو مستوى التَّقوى لديَّ؟
كم هو مستوى وعيي؟
كم هو مستوى أخلاقي؟
كم هو مستوى علاقاتي الطَّيِّبة مع النَّاس؟
كم أنا ظالم للنَّاس؟
كم أنا معتدٍ على حقوق النَّاس؟
كم أنا مقاطع لإخواني المؤمنين؟
كم، وكم، وكم؟
إنَّها نصف ساعة فقط، فابدأ بطرح أسئلة جريئة على نفسك.
لربما أنَّك عندما تحاسب نفسك، وتطرح تلك الأسئلة الجريئة أمام النَّاس يكون ذلك مخجِلًا لك، ولكنَّك بينك وبين الله تعالى، وبين يديه في خلوة خاصَّة اسأل نفسك، وسائِلها مساءلة عسيرة!
1- “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أنْ توزنوا، وتجهَّزوا للعرض الأكبر” (وسائل الشيعة16/99، الحر العاملي).
2- “قال أبو عبد اللَّه (عليه السَّلام): إذا أراد أحدكم أنْ لا يسأل ربَّه شيئًا إلَّا أعطاه، فلييأس من النَّاس كلِّهم، ولا يكون له رجاء إلَّا من عند اللَّه تعالى، فإذا علم اللَّه تعالى ذلك من قلبه لم يسأله شيئًا إلَّا أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أنْ تحاسبوا عليها، فإنَّ للقيامة خمسين موقفًا كلُّ موقف مقام ألف سنة، ثمَّ تلا: ﴿… فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ (سورة المعارج: الآية 4)” (الوافي4/311، الفيض الكاشاني).
ولا توجد فرصة – يا إخواني – لإعادة تكوين النَّفس، وبناء النَّفس، وإنتاج النَّفس من جديد أفضل من فرصة شهر رمضان.
إنَّ الصَّلاة هي فرصة يوميَّة، فكلُّ يوم أنت في الصَّلاة، فمن المفترض أنَّك تحاسب نفسك، إلَّا أنَّ هذا الموسم هو موسم استثنائيٌّ، شهر رمضان موسم استثنائيٌّ، فاجعله موسمًا استثنائيًا في مراقبة ومحاسبة النَّفس.
ويجب ألَّا أقول: أنا عالم، وأنا فقيه، وأنا كبير، فلا أحتاج لأنْ أحاسب نفسي!
بل بالعكس، فكلَّما ارتقى الموقع ارتقت المحاسبة، وكانت أشدَّ وأقوى!
بمعنى: إنَّ المرجع، والفقيه الكبير مطلوب منه أنْ يُحاسب نفسه بدرجة أكبر من الكنَّاس!
فالمرجع محتاج لأن يُحاسب نفسه، والكنَّاس – أيضًا – محتاج لأنْ يُحاسب نفسه، إلَّا أنَّ المرجع موقعه أكبر.
والعالم المُتصدِّي موقعه أكبر.
والمرشد والخطيب موقعهما أكبر.
وكذا الوجيه بين النَّاس موقعه أكبر.
فهم أمام المحاسبة سواسية!
يجب أنْ نقف؛ لنحاسب أنفسنا، فهذه الجلسة – التي هي نصف ساعة، ونسمِّيها جلسة المحاسبة – هي أفضل في ثوابها من عشرات الصَّلوات، وعشرات الختمات.
فيمكن أنْ تقرأ ختمة واحدة مع محاسبة النَّفس، أو تصلِّي ليلة واحدة صلاة اللَّيل مع محاسبة النَّفس، فهذا أفضل من أنْ تصلِّي الكثير الكثير، وتقرأ الكثير الكثير وأنت غافل عن نفسك، ومهملٌ محاسبةَ النَّفس.
المطلوب هو أنْ تحاسب نفسك محاسبة جريئة.
كنْ جريئًا مع نفسك!
لربما أنَّك أمام النَّاس – تقول – يمكن أنْ يفضحوني، ولعلَّهم يحسبوني إنسانًا من الأبرار، من المتَّقين، من الصَّالحين، وعندها أكشف نفسي على النَّاس، وأبدو إنسانًا غير الذي يعتقدون؟!
لربما لا أمتلك الجُرأة في أنْ أكشف نفسي أمام النَّاس – وليس مطلوب منِّي أنْ أكشف نفسي أمام النَّاس -، ولكن أمام الله سبحانه وهو المطَّلع على كلِّ خفاياي، وكلِّ اسراري، وكلِّ واقعي الدَّاخليِّ، فلا يمكنني أنْ أخفي عليه شيئًا.
لربَّما على النَّاس أستطيع أنْ أخفي، وأغطِّي، وأبدو من الأتقياء الورعين، ومن الملائكة، ولكن عندما أحاسب نفسي بيني وبين الله سبحانه قد أكون شيطانًا!
فما قيمة أنْ أكون مَلَكًا في نظر النَّاس، وعند الله تعالى أكون شيطانًا، فالمسألة خطيرة!!
“إن العبد لينشر له من الثَّناء ما بين المشرق والمغرب، وما يزنُ عند الله جناح بعوضة” (كشف الخفاء1/221، العجلوني).
الباطن الأكبر من الظَّاهر
“عن عليٍّ [عليه السَّلام]، قال: مَن كان ظاهره أرجحُ من باطنه خفَّ ميزانه يوم القيامة، ومَن كان باطنه أرجح من ظاهره ثقل ميزانه يوم القيامة” (كنز العمال3/674، المتقي الهندي).
دع باطنك أكبر!
كيف يكون الباطن أكبر؟
إنَّ النَّاس الآن غير مطَّلعين على حجم الحبِّ لله تعالى في داخل قلبي، فهذا خاصُّ بي أنا، ولا أحد يدري به.
ولا يوجد أحد مطَّلع على حجم الرَّوحانيَّة في داخل قلبي.
ولا يوجد مَن هو مطلَّع على أداء صلاة اللَّيل، فلربما أصلِّيها في بيتي، فلا يدري أحد بذلك.
ولربما أقدِّم خدمات، ولا يوجد مَن يطَّلع عليها.
فمثل هذا باطنه أكبر من ظاهره، وهذا يثقل ميزانه يوم الحساب.
المحاسبة على كلِّ المستويات أفرادًا وجماعاتٍ وحكومات
فهذه هي فرصتنا أيُّها الأحبَّة، في الشَّهر الفضيل، شهر المحاسبة، وشهر المراجعة، سواء كنَّا أفرادًا، فردًا فردًا، فمطلوب منَّا أنْ يحاسب كلُّ فرد منَّا نفسَه بدئًا من المرجع، وانتهاءً بأصغر إنسان في المجتمع.
المطلوب من كلِّ فرد أنْ يحاسب نفسه في هذا الشَّهر، فهذه محاسبة فرديَّة ذاتيَّة.
كذلك مطلوب منَّا نحن كجماعة أنْ نحاسب أنفسنا، ولكن كيف ذلك؟
فتارة أحاسب نفسي أنا فلان الفرد.
وتارة أقول: أنا الآن جماعة، نحن شيعة، نحن سنَّة، فألا أحتاج أنْ أُراجع حسابات طائفتي!
فهذا ليس حساب فرد، بل حساب طائفة!
فكيف هو وضع الطَّائفة؟
وكيف هو وضع الجماعة؟
وكيف هو وضع المذهب؟
والمراجعة قد تبدأ من ممارسة المؤسَّسات: المؤسَّسة الحسينيَّة، الجمعيَّات، الحركات، الأحزاب، فكلُّها مطلوب أنْ تراجع حساباتها في هذا الشَّهر.
فهذا ليس حركة سياسيَّة، ونشاطًا سياسيًّا، وليس جهدًا فرديًّا، وإنَّما هذا جهد جماعيٌّ، جهد جماعة، ومطلوب من الجماعة أنْ تحاسب نفسها.
كذلك النِّظام مطلوب أنْ يحاسب نفسه.
الحُكم مطلوب أنْ يحاسب نفسه.
الدَّولة مطلوب أنْ تحاسب نفسها.
الحاكم مطلوب أنْ يحاسب نفسه.
كلُّ إنسان – بدون استثناء – في هذا الشَّهر مطلوب أنْ يحاسب نفسه، ويُعيد حساباته من جديد.
شهر المحاسبة وتقويم الذَّات
هل يا ترى أنَّ كلَّ ما صدر منِّي صحيح؟
أحتاج – على ذلك – أنْ أغيِّر وضعي.
أحتاج أنْ أغيِّر سياستي.
فهذا ضرورة، ولذلك هذا الشَّهر شهر المحاسبة.
شهر إعادة تقويم الذَّات: الذَّات الفرديَّة، الذَّات الجمعيَّة، الذَّات الفكريَّة، الذَات السِّياسيَّة.
المطلوب هو إعادة حساباتنا في هذا الشَّهر؛ حتَّى نكون من الصَّائمين الحقيقيِّين.