حديث الجمعة 500: كفى استغراقًا في الشَّأنِ السِّياسي!
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين، وبعد فمع هذا العنوان:
كفى استغراقًا في الشَّأنِ السِّياسي!
كأنِّي بقائلٍ يقول لي: كفى استغراقًا في الشَّأن السِّياسيِّ!
النَّاسُ في حاجةٍ إلى حديثِ الدِّينِ، والعقيدةِ، والأخلاقِ، ومعالجة قضايا المجتمع، ففي السَّاحةِ أوضاعٌ كثيرةٌ مطلوبٌ مقاربتُها ومعالجتُها، ومنبر الدِّينِ هو المعنيُّ بهذه المُقارباتِ، والمعالجاتِ.
فلا يصحُّ أنْ تُهيمنَ قضايا السِّياسة على اهتماماتِ المنابرِ الدِّينيَّة على حساب مسؤوليَّاتِها الأساس، وواجباتِها الأهم.
ثُمَّ إنَّ التَّعاطي الواسع مع الوضع السِّياسيِّ يُعرِّض أصحابَ المنابرِ الدِّينيَّةِ إلى مجموعةِ تعقيداتٍ في علاقاتِهم بأنظمة الحكم من طرفٍ، وفي علاقاتهم مع النَّاسِ من طرفٍ آخر، الأمر الذي يضعُهمُ أمام (استهلاكات) لطاقاتِهم، وقدراتِهم، واهتماماتِهم، وأوقاتِهم.
فالخير كلُّ الخير أنْ يتفرَّغ (الدُّعاة، والمبلِّغون)، وأصحابُ الخطابِ الدِّينيِّ إلى مسؤوليَّاتهم الأساس، ويتركوا السَّاحة السِّياسيَّة بكلِّ تعقيداتِها، وإشكالاتِها إلى المشتغلين بهذا الشَّأنِ وهم يتحمَّلون أخطاءَه، وتبعاته، وجميع مسؤوليَّاتِه.
هذا الكلام له قيمته الكبيرة، وربَّما انطلق من حرص شديد على الأوضاع الدِّينيَّة، ولا أتَّهم أصحابه بأيَّة نيِّة سيِّئة من نوع إقصاء الخطاب الدِّينيِّ عن الحضور في أخطر مفصل من مفاصل الحياة.
وهنا أحاول – وبكلِّ شفافيةٍ، ووضوحٍ، وبعيدًا عن لغة الانفعالات، والمجاملات – أنْ أقارب مجموعةَ نقاط مهمةٍ جدًّا.
النقطة الأولى: ضرورة التَّفرُّغ للعمل السِّياسي
أنا أؤمنُ كلَّ الإيمانِ بضرورة وجودِ (متفرِّغين) في مجالاتِ العملِ السِّياسيِّ، فهذه المجالاتُ لها أهمِّيتها، وخطورتُها، وليس صحيحًا أنْ يقتحمها مَنْ لا يَملكُ (مؤهِّلاتِها)، وكفاءاتِها، وقدراتِها، وإلَّا اضطربتْ الرُّؤى السِّياسيَّةُ، ومساراتُها، وخياراتُها.
وانطلاقًا من هذهِ الضَّرورةِ مطلوبٌ مِن أنظمةِ الحُكْمِ أنْ تسمح بقيام (جمعيَّات سياسيَّة)، أو (أحزاب سياسيَّة)، أو أيَّة صيغة من صيغ (التَّشكُّل السِّياسي):
1- متى ما توفَّرتْ الكفاءات السِّياسيَّة.
2- وتوفَّرت نظافة المُنْطلقات.
3- وكان الهدف خدمةَ مصالح الأوطان.
4- والدِّفاع عن القضايا العادلةِ للشُّعوب.
5- وكانت الأدواتُ سِلميَّة، ومشروعة.
إنَّ وجودَ (الحَراكاتِ السِّياسيَّةِ النَّظيفةِ، والرَّشيدةِ، والفاعلة) يُشكِّل (ضمانةً)؛ لترشيدِ أوضاعِ السِّياسةِ في الأوطان.
ويجب أنْ لا يُشكِّل هذا قَلَقًا للأنظمةِ، بل هو مؤشِّر صحَّةٍ، ونموٍّ، وتقدُّم.
فلا خشية – أبدًا – على الأوطانِ من وجود (حَراكات سياسيَّة ناشطة) ما دامتْ واضحةً كلَّ الوضوح، وما دامت راشدةً كلَّ الرُّشد، وما دامتْ نظيفةً كلَّ النَّظافة.
الخشية كلُّ الخشية حينما تغيب هذه (الحَراكات)، ممَّا يدفع إلى تشكُّلِ (حَراكاتٍ منفلِتةٍ)، وضارَّةٍ بأوضاع الأوطان، وربما تسبَّبت في إنتاج (منزلَقاتٍ خطيرة).
كلَّما تنفَّس (الحَراك السِّياسيُّ) في (الفضاءات المفتوحة) كان عاملًا مهمًّا في حصانةِ الأوطان ضدَّ (الأزمات)، و(الانزلاقات)، و(التَّوتُّرات).
النقطة الثَّانية: ضرورة التَّفرُّغ للعمل الدِّينيِّ
وأنا كذلك أؤمنُ كلَّ الإيمانِ بضرورة وجودِ (متفرِّغين) في مجالات العمل الدِّينيِّ.
إلَّا أنَّني أفهم أنَّ مسؤوليَّة (الخطاب الدِّينيِّ) هو (حماية حركة الواقع) في كلِّ امتداداتِهِ الرُّوحيَّة، والأخلاقيَّة، والثَّقافيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة.
إنَّ شعارَ الدِّين هو (الإصلاح)!
قال الله تعالى في (سورة هود: الآية 88)، وعلى لسانِ نبيِّ اللهِ (شعيب) (عليه السَّلام): ﴿… إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.
ويتَّسع هذا العنوان:
1- لكلِّ الإصلاحاتِ العقيديَّة، والفكريَّة، والثَّقافيَّة.
2- ولكلِّ الإصلاحات الرُّوحيَّة، والأخلاقيَّة، والسُّلوكيَّة.
3- ولكلِّ الإصلاحاتِ الاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة، والحقوقيَّة.
هذه هي القِيمة الكبرى لخطاب الدِّين، وهو الخطابُ الَّذي يُحصِّن كلَّ المساراتِ بما فيها المسارات السِّياسيَّة.
وهل انزلاقات الواقع السِّياسيِّ إلَّا نتيجة غياب مجموعة قِيم: الطَّهارة، النَّظافة، الاستقامة، الأمانة، الصِّدق، الإخلاص، الوفاء، الحبّ، الرِّفق، والتَّسامح، العدل، الإنصاف، الصَّراحة، النَّزاهة، التَّعاون، التَّشاور، التَّآلف، التَّقارب، التَّناصح، العزَّة، الكرامة.
هذه هي القِيم التي يؤكِّد عليها خطابُ الدِّين، وكفى لخطاب الدِّين حضورًا في الواقع السِّياسيِّ هو حضور هذه القِيم، والتي لا أعتقد وجود مَنْ يناقش في ضرورتها وأهمِّيتها.
ولسنا في حاجة إلى الدُّخولِ في جدليَّات (الدِّين، والسِّياسة)، و(تديُّن السِّياسة)، و(تسيس الدِّين)،
ربَّما يُقال: أليس هذه الشَّتاتَ، والخلافَ، والصِّراعَ، والتَّشدُّدَ، والتَّطرُّفَ، والعنفَ، والإرهابَ والدِّماءَ إلَّا بسبب (إقحام صراعات الدِّين، وشعارات الدِّين) في كلِّ حَرَاكات الواقع؟!
إنَّه ظلم فاحش:
1- أنْ نسمِّي كلَّ هذا الواقع السَّيِّئ (دينًا)!
2- أنْ نسمِّي الشَّتات، والخِلاف، والصِّراع (دينًا)!
3- أنْ نسمِّي التَّشدُّدَ، والتَّعصُّبَ (دينًا)!
4- أنْ نسمِّي العنف، والتَّطرُّف، والإرهاب (دينًا)!
5- أنْ نسمِّي إزهاقَ الأرواح، وإراقةَ الدِّماء، وهتك الحُرُمات (دينًا)، أو أنَّه مِن (إنتاجات الدِّين)!!
نعم، إنَّ الشيطانَ صنع (دينًا)؛ ليمارِس من خلاله (دور الإغواء، والإضلال للبشر).
فمنذ أنْ طُرِدَ إبليس من (رحمة الله سبحانه)، ولاحقته اللَّعنة الإلهيَّة اتَّخذ قرارَهْ أنْ يمارس (دور الإغواء، والإضلال)، ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾ (سورة الحجر: الآية 42 – 44).
وكما يكسب الشَّيطان أناسًا باسم الهوى، والطَّيش، والعبث، والضَّلالِ، والتِّيه، والانفلات، والغواية، والكفر والتَّمرد، والعصيان، فإنَّه يكسب آخرين باسم (الدِّين)، و(الصَّلاح)، و(العبادة)، و(الطَّاعة).
نعم، باسم (الدِّين) يمارس الشَّيطان غواياته، إلَّا أنَّه (دين) قد تمَّتْ هندستُه وفق أغراض الشَّيطان، وأهوائه، ومصالِحِهِ، وأهدافِهِ.
دِينَان مختلِفان!
فالفارق كبيرٌ وكبيرٌ جدًّا بين (دينٍ) صاغه الله سبحانه ربُّ العباد، و(دينٍ) صاغه الشَّيطان مُضلُّ العباد!
1- خصائص دين ربِّ العباد
فدين الله سبحانه:
أ- هو دينُ المحبَّة، والتَّسامح.
ب- وهُوَ دينُ الأُخوَّةِ، والتَّآلف.
ج- وهُوَ دينُ الوحدة، والتَّقارب.
د- وهُوَ دينُ الأمن، والسَّلام.
هـ- وهُوَ دينُ الرِّفقِ، والرَّحمةِ.
و- وهُوَ دينُ العدل، والإحسانِ.
ز- وهُوَ دينُ العزَّةِ، والكرامةِ.
ح- وهُوَ دينُ الحقِّ، والإنصافِ.
2- خصائص دين مُضلُّ العباد
وأمَّا دينُ الشَّيطان، فـ:
أ- هُوَ دينُ الكراهيةِ، والتَّعصُّب!
ب- وهُوَ دينُ التَّشتُّت، والتَّمزُّق!
ج- وهُوَ دينُ الفرقةِ، والتَّخالف!
د- وهُوَ دينُ العنفِ، والتَّطرُّفِ!
هـ- وهُوَ دينُ القسوةِ، والشِّدَّة!
و- وهُوَ دينُ الظُّلمِ، والعدوانِ!
ز- وهُوَ دينُ الذِّلَّةِ، والاستعباد!
ح- وهُوَ دينُ الباطلِ، والفساد!
ط- وهُوَ دينُ الغواية، والضَّلال!
النقطة الثَّالثة: تقديم المناصَحة والمصارحة
أنا لا أريد أنْ يكون خطابي مُسْتَغرِقًا في الشَّأن السِّياسيِّ، وحينما أقارب جانبًا من هذا الشَّأن إنَّما بهدف (المناصحة، والمصارحة)، ولا أبتغي بذلك إلَّا وجه الله تعالى، فعسى أنْ يكون للكلمة دورُها في خدمة هذا الوطن، وفي التَّخفيف من أوجاعِه، وآلامِهِ، ومعاناته، وهي أوجاعُ وآلام، ومعاناة كلِّ غيور على هذا الوطن، وعلى أبناء هذا الوطن.
فقلوبنا على وطنِنِا، ولعلَّ كلمةً صادقةً تصدر من هنا أو هناك تساهم في تخفيف الجراحات، والأزمات.
وأنا حينما أقول الكلمة، فهي تُمثِّلُ (رأيي)، ولا أزعم أنِّي (أمثِّلُ شعبًا)، بل ليس من حقِّي أنْ أزعمَ ذلك، ولو زعمتُ ذلك فقد ارتكبت خطأً!
نعم، أقول الكلمةَ التي تُعبِّر عن قناعتي، وربَّما التقتْ هذه القناعة مع قناعة كثيرين، وربَّما خالفتْ قناعة كثيرين!
ولكلِّ حقُّهُ في الموافقة أو المخالفة، ما دامت النَّوايا صادقةً، وما دامت الغايات شريفة، وما دامت اللُّغة نظيفة، وما دام الجميع شعارهم: (مصلحة هذا الوطن)، و(خير هذا الوطن)، و(وحدة هذا الوطن)، و(أمن هذا الوطن).
وقد أكَّدْتُ، وأُكرِّرُ التَّأكيد على ضرورة الابتعاد عن (المساجلات)، و(المقاذَفات)، و(المشاحنات) مهما اختلفت الرُّؤى، والقناعات، فلا أضرَّ على الأوطانِ من استنفار (العصبيَّات)، و(العداوات)، و(الصِّراعات)!
نعم، (الجدل السِّياسيُّ الهادف) مطلوبٌ.
وقيمة هذا الجدل بمقدار ما ينتج من رُشْدٍ سياسيٍّ، وبمقدار ما يعتمد من أدوات صحيحة، ونظيفة، وبمقدار ما يعالج من أزمات الوطن.
وأؤكِّد – هنا – على أهمية (التَّسامح) في الحوارات السِّياسيَّة، فهذا التَّسامح من أقوى المحصِّنات للأوطان في مواجهة حالات (التَّشظِّي)، و(التَّشطُّر) بين المكوِّنات، أو بين الأنظمة والشُّعوب.
فمهما اختلفت الرُّؤى، والقناعاتُ، فهذا لا يبرِّر نشوء (الخصومات، والعصبيَّات).
نعم، من حقِّ أيِّ مكوَّن أنْ يُشكِّل قناعاته وفق رُؤاه وتصوراتِه، ما دام ذلك مؤسَّسًا على مرتكزاتٍ مدروسة، ورشيدة، وعلميَّة، وليس وفقَ مَزَاجاتٍ، وعصبيَّاتٍ، ومزايدات.
وهنا مسألة في غاية الصُّعوبة والخطورة!
الشُّعوبُ تطالبُ الأنظمة بأنْ تكون متسامِحة كلَّ التَّسامح مع شعوبها.
والأنظمة كذلك تطالب الشُّعوب بأنْ تكون متسامحة مع الأنظمة.
هذا التَّسامح بالتَّأكيد مطلوب، ألَّا أنَّ الأنظمة هي الأقدر على إنتاج التَّسامح في داخل الأوطانِ، وبقدر ما تكون الأنظمة متسامحة مع شعوبها، ورفيقةً، وغير قاسيةٍ، فلن تملك الشُّعوب إلَّا أنْ تكون متسامحةً مع الأنظمة.
نعم، مطلوب من الأنظمة والشُّعوب العمل على (صون الأوطان)، مواجهة كلِّ الأخطار والمؤزِّمات، وفي التَّصدِّي لكلِّ أسباب الفتن والصِّراعات، ولكلِّ ما يضرُّ بأوضاع الأوطان والشُّعوب.
إنَّ (خَيارَ الإصلاحِ الحقيقيِّ) القادر على معالجة أزمات الأوطان سوف لن يسمح بأيَّة (نتوءاتٍ) ضارَّة، وهذا يفرض أنْ تتعاون كلُّ القُدُرات في إنتاج هذا الخَيَار، وهو أمر ليس عسيرًا متى صدقت النَّوايا، وقويت الهِمم، وتآزرت الإرادات.
وآخر دعوانا أنْ الحمدِ للهِ ربِّ العالمين.