حديث الجمعة 495:رسالةُ حبٍّ إلى سماحةِ آيةِ اللهِ الشَّيخ عيسى أحمد قاسم – رسالة إلى قُدسِنا الحبيبة – الإعلامُ ودوُرُه في التَّوحيد والتَّمزيق
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلينَ، محمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.
كلمتان لا بدَّ منهما!
وبعد، فأبدأ حديثي بكلمتين:
الكلمةُ الأولى: رسالةُ حبٍّ إلى سماحةِ آيةِ اللهِ الشَّيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله تعالى)
أيُّها الأبُ الوَقورُ السَّاكِنُ في القُلوب، تحيَّةَ حبٍّ، وإكبارٍ، تحمِلُ كلَّ الدُّعاء، وتَحمِلُ كلَّ الوَفاءِ لأَبٍ احتضن همومَ الدِّينِ والوطنِ، لأنَّ الدِّينَ هو رسالةُ اللهِ تعالى، ولأنَّ الدِّينَ أقدسُ عُنوَانٍ.
ولأنَّ حُبَّ الوطنِ كبيرٌ، وحقَّ الوطنِ كبيرٌ، وأمنَ الوطنِ كبيرٌ.
هكذا علَّمهُ دينُهُ، وهكذا قالتْ له مبادِئُهُ، وهكذا صاغتْهُ قِيَمُهُ.
أيَّها الأبُ الوَقُورُ السَّاكنُ في القُلوبِ، عَرَفكَ الوَطنُ وَقْدَةَ فكرٍ، ترنيمةَ أملٍ، نَغَمةَ حُبٍّ، خفقةَ رُوُحٍ، وَهجَ شعورٍ، عَزْمةَ إرادةٍ، إشراقةَ نورٍ، عَبَقَ هِدايةٍ.
أيَّها الأبُ الوَقُورُ السَّاكنُ في القُلوبِ، كلُّ القلوبِ الطَّيِّبةِ تابعتْ أوضاعَكُمْ الصِّحيَّةَ باهتمامٍ كبير.
إلَّا أنَّنا كما عَرفنَاكَ تُعنيكَ صِحَّةُ هذا الوطنِ أكثرَ ممَّا تُعنيك صحَّتُكَ، وتعنيك سلامةُ هذا الوطنِ أكثر ما تُعنيكَ سلامتُكَ.
وإنْ كنَّا نرى في صحَّتِكَ وسلامتِكَ ما يُعطي للوطنِ صحَّتَهُ، وسلامتَهُ.
فَأْنت تحمِلُ كلَّ الهَمِّ أنْ تجِدَ أوضاعَ هذا الوطنِ، وأوطانَ كلِّ المسلمين بكلِّ خيرٍ، وبكلِّ أمْنٍ، وبكلِّ سلامٍ، وبكلِّ محبَّةٍ، وبكلِّ تسامحٍ، وبكلِّ تآلفٍ، وبكلِّ تقارب.
ولا نشكُّ أنَّه يُقْلِقُك كلَّ القَلَقِ، ويَسُوءُك كلَّ السُّوءِ أنْ يعيش النَّاسُ الفتنَ والصِّراعات، وأنْ يعيشوا الكراهياتِ، والخِلافاتِ.
هكذا سكَنْتَ في كلِّ الجِراحاتِ، لأنَّها جراحاتُكَ!
وهكذا سكَنتَ في كلِّ الآهاتِ، لأنَّها آهاتُكَ!
وهكذا سكَنْتَ في كلِّ الدُّموعِ، لأنَّها دُموعُكَ!
الكلمة الثَّانية: رسالة إلى قُدسِنا الحبيبة
إلى قُدسِ كلِّ العرب والمسلمين.
إلى مَحْضَن المسجد الأقصى.
رسالةُ حبٍّ، ووفاءٍ، واعتذار.
في مرحلةٍ هي الأصعبُ، والأخطر!
وفي ظرف هو الأسوَأ، حيث يصدر (قرار السَّرقة للقُدسِ)!
وحيث يتعالى الغضبُ الفلسطينيُّ، وغضبُ كلِّ الجماهير العربيَّة والإسلاميَّة.
وحيث الصَّيحاتُ المخلصةُ في كلِّ العالم المتضامنةُ مع شعبِ الأرضِ المحتلَّة.
لا للأيدي القَذِرة!
في هذا الظَّرفِ يصل أرضكِ يا قدسَ المسلمين، نفرٌ من وطننا البحرين الحبيب؛ ليصافحوا أيدي الصَّهاينة القَذِرَة، مسيئين إلى هذا البلد الأصيل إلى شعبه، وكلِّ طوائفه، ومذهبِهِ، ومكوِّناتِه.
نعتذر، ونعتذر وكلُّنا حياء وخجل أنْ جاءك أيَّتها القدس الحبيبة، مَن يقول: إنَّه يُمثِّل هذا البلد المعروف بهُويَّته العربيَّة والإسلاميَّة، وبرفضِهِ لكلِّ أشكالِ التَّعاطي مع الكيان الصُّهيونيِّ الغاصب.
ونكرِّر الاعتذار، فموقفنا مع الخَيَار العربيِّ والإسلاميِّ الرَّافضِ للتَّطبيع المسيئِ لهُويتِنا الدِّينيَّةِ والقوميَّة، والمساومِ على قضايا أمَّتِنا المصيريَّة.
أيَّتها القدسُ الجريحةُ، إنَّ شعبَ البحرينِ بكلِّ مُكوِّناتِه، وطوائفِهِ، ومذاهبِهِ لا يمكن أنْ يُساوِمَ على عروبةِ القُدسِ، وإسلاميَّتِها.
وهكذا كلُّ العرب والمسلمين في جميع بقاع الأرض يندِّدُونَ بجريمةِ الهيمنةِ على الأرضِ المقدَّسةِ، فأيُّ صمتٍ تجاه هذِهِ الجريمةِ يُمثِّل خيانةَ سوف يتحمَّل مسؤوليَّتَها كلُّ المتخاذلِينَ، والمساومين.
إذا كان قرارَ اعتبارِ القدسِ عاصمةً للكيان الصهيونيِّ قد أنتج طوفانًا مِن الغضب في كلِّ الشَّارعِ العربيِّ والإسلاميِّ، فإنَّ المواجهةَ الحقيقيَّةَ أنْ يتوحَّدَ المسلمون.
فما دام المسلمونَ ممزَّقين دولًا، وشعوبًا، ومكوِّناتٍ، وأديانًا، وطوائفَ، ومذاهبَ، فإنَّ المؤامراتِ التي تستهدف أمَّتنا، وأوطانَنا، وشعوبنا، ومقدَّساتِنا، وتستهدفُ فلسطينَنَا، وقُدْسَنا، ومسجدَنا الأقصى هذه المؤامراتُ سوف تَسْتَمرُّ، وسوفَ تحقِّق أهدافَها الخطيرةَ، وأغراضَها الدَّنيئةَ، وغاياتِها المشؤومة.
فلن تسقطَ مؤامراتُ أعداءِ الأمَّةِ ما دمنا مشتَّتين، وما دمنا ممزَّقين، وما دمنا يحاربُ بعضُنا بعضًا، ويقاتلُ بعضُنا بعضًا.
يخاطبنا قرآنُنا بقولِهِ: ﴿… وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ …﴾.( )
– ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾: أيّ قوَّتُكم، عزَّتُكم، هيبتُكم، كيانُكم، وجودُكم، عظمتُكم، قدرتُكم، إرادتُكم، سلطانُكم، دولتكم.
هذه منتجاتٌ حتميَّةٌ للتَّنازعِ، والتَّصادمِ، والتَّحاربِ، والتَّقاتلِ حينما تكون الأهواءُ هي التي تحرِّكُ (المواقف)، وتصوغ (الخَيَارات)، فلا يكون هناك (لقاءاتٌ)، ولا (تفاهماتٌ)، ولا (حِواراتٌ).
نتمنَّى أنْ تكون (صرخاتُ القدس) توقظُ (الضَّمائرَ)، وتقاربُ (الرُّؤَى)، وتؤحِّدُ (القناعات)
الإعلامُ ودوُرُه في التَّوحيد والتَّمزيق
الإعلام رسالةٌ.
رسالةُ دينٍ، ورسالةُ ضمير، ورسالةُ قِيم.
ويخونُ الإعلامُ رسالتَهُ حينما ينحرف عن أهدافِ الدِّين، وأهدافِ الضَّمير، وأهدافِ القِيم.
الإعلامُ المنحرفُ هو الَّذي يعتمدُ (اللُّغةَ الكاذبةَ)!
ويعتمدُ (التَّضليل)، و(التَّزييف).
ويعتمد (إنتاج الفتن، والكراهية، والصِّراعات).
أمَّا الإعلامُ الملتزمُ، فيعتمد (اللُّغة النَّظيفة)، و(الكلمةَ الصَّادقة).
وهُوَ إعلامُ بناءٍ، وإصلاح.
وهُوَ إعلامُ هدايةٍ، وإرشاد.
وهُوَ إعلامُ محبَّةٍ وتسامحٍ، ووحدةٍ وتآلفٍ.
تطوُّر وسائل الإعلام
في هذا العصر تطوَّرتْ وسائل الإعلام:
1- فضائيَّات.
2- إذاعات.
3- صحافة.
4- أدوات تواصل اجتماعيٍّ.
وقد وظَّف (الإعلام الدِّينيُّ)، و(الإعلام السِّياسيُّ) هذه الوسائل ضمن مسارين:
المسار الأوَّل: مسار الإصلاح.
المسار الثَّاني: مسار الإفساد.
حينما يستقيم (الإعلام الدِّينيُّ) تستقيم المسارات الدِّينيَّة، وحينما ينحرف تنحرف هذه المسارات!
وحينما يستقيم (الإعلام السِّياسيُّ) تستقيم المسارات السِّياسيَّة، وحينما ينحرفُ تنحرفُ هذه المساراتُ.
مُتبنيات الإعلام الفاسد
كثيرًا ما تكون أوطانٌ ضحية إعلامٍ فاسدٍ، سواءً أكان إعلامًا دينيًّا، أم كان إعلامًا سياسيًّا.
تصوَّروا إعلامًا دينيًّا يتبنَّى:
1- التَّكفير!
كم سوف يُوجِد (فتنًا طائفيَّة، ومذهبيَّة) بين الطَّوائف، والمذاهب.
وكم سوف يُوجِد (حروبًا مدمِّرة)
وأقل منتجاته (الصِّراعات، والخِلافات، والعداوات).
وهذا ما يُمزِّق الأوطان، ويدمِّر الشُّعوب.
2- التَّطرُّف!
كم سوف يُوجِد هذا الإعلام (متطرِّفين، ومتعصِّبين)، والويلُ كلُّ الويل لأوطانٍ ينتشر فيها المتطرِّفُونَ، والمتعصِّبُون!
في هذه الأوطان تموت (المحبَّة)، وتموت (الأُخوَّة)، ويموت (التَّسامح)، وإذا ماتت هذه القِيم والمُثل، فعلى الأوطان السَّلام!
3- التَّحريض!
فالإعلام المحرِّض إعلامٌ سيِّئ، وإعلامٌ فاسدٌ، وإعلامٌ مدمِّر.
كم تدمَّرت أوطانٌ، وكم تمزَّقتْ شعوبٌ، وكم تأزَّمت علاقاتٌ نتيجة (إعلام محرِّض)!
والإعلام المحرِّض يعتمد – دائمًا – (بثَّ الأكاذيب، والإشاعات) بغرض استهداف هذا الطَّرف، أو ذاك الطَّرف، وكثيرًا ما تسقط طوائفُ، ومذاهبُ، وجماعاتٌ، ومكوِّنات ضحيَّة هذا التَّحريض!
الواقفون خَلْف الإعلام التَّكفيريِّ والمتطرِّف
فإعلامٌ تكفيريٌّ، ومتطرِّفٌ، ومحرِّضٌ مَنْ يقف وراءَه؟، ومَن يحرِّكه؟!
يقف وراءَهُ، ويحرِّكه:
أوَّلًا: الجهل، والتَّعصُّب
وكم صنع الجهل، والتَّعصُّب مآسيَ، وكوارثَ في حياة الشُّعوب، وكم هدَّم أوطانًا.
1- جاء في الرِّوايات الشَّريفة عن (الجهل):
أ- “الجهل أصلُ كلِّ شرٍّ”.( )
ب- “الجهل فساد كلِّ أمر”.( )
ج- “الجهل معدن الشَّرِّ”.( )
2- جاء في الرِّوايات عن (التَّعصُّب):
أ- “مَنْ تعصَّب أو تعصِّب له، فقد خَلَع ربقة الإسلام من عنقه”.( )
وفي رواية: “…، فقد خلع ربق الإيمان من عنقه”.( )
ب- “مَن تعصَّب عصبَّه الله (عزَّ وجلَّ) بعصابة من نار”!( )
ج- “ليس منَّا مَن دعا إلى عصبيَّة، وليس منَّا مَنْ قاتل على عصبيَّة، وليس منَّا مَنْ مات على عصبيَّة”.( )
إفراز العصبيَّات!
فالعصبيَّات الدِّينيَّة، والطَّائفيَّة، والمذهبيَّة، والقوميَّة، والاجتماعيَّة، والسِّياسيَّة حينما توجِّه (الإعلام الدِّينيَّ)، أو (الإعلام السِّياسيَّ)، فإنَّها تكرِّس الفتنَ، والكراهياتِ، والخِلافاتِ، وكثيرًا ما قادت إلى المواجهاتِ، والصِّدامات، والمعارك، والحروب المدمِّرة.
مُخرجات العِلم والاعتدال
وكلَّما تحرَّر الإعلام دينيًّا كان أو سياسيًّا مِن الجهل، والتَّعصُّب، فهو إعلامٌ صالحٌ، ونظيفٌ، وقادرٌ على أنْ يزرع الحبَّ، والخيرَ، والعطاءَ، وأنْ يُوحِّدَ، ويُؤالفَ، ويُقارب بين النَّاس مهما اختلفت الرُّؤى، والقناعات.
نعم، إذا كانت هناك رؤى، وقناعاتٌ فاسدةٌ، ومدمِّرةٌ، وسيِّئةٌ، ومتطرِّفة، ومتعصِّبة، فمسؤولية الإعلام الصَّالح أنْ يواجهها، وأنْ يرفضها، وأنْ يعرِّيها، فهذه رسالة الإعلام النَّظيف والهادف، وهذه رسالة الكلمة الطَّيِّبة والخيِّرة.
ثانيًا: المؤسَّسات التَّكفيريَّة
ويقف وراء الإعلام التَّكفيريِّ، والمتطرِّف، والمحرِّض (مؤسَّسات تكفيريَّة، ومتطرِّفة، ومحرِّضة)!، فـ:
ربَّما تكون مؤسَّسات تعليميَّة!
وربَّما تكون مؤسَّسات ثقافيَّة!
وربَّما تكون مؤسَّسات اجتماعيَّة!
وربَّما تكون مؤسَّسات سياسيَّة!
حينما تجدون (فضائيَّات) تَمْتَهِنُ (التَّكفير)، و(التَّحريض)، و(تمزيق وِحدة المسلمين)، ففتِّشوا، فسوف تجدون وراءها (مؤسَّسات تكفيريَّة متطرِّفة)!
إنَّها ليست ممارسات فرديَّة!
نعم، الأفراد هم أدوات مؤهَّلة؛ لممارسة هذه الأدوار السَّيِّئة، والقَذِرة.
وربَّما تجدون وراء هذه الفضائيَّات العابثة بوحِدة المسلمين (قوى معادية للإسلام)، وهكذا تتزاوج الأهداف بين المؤسَّسات التَّكفيريَّة المتطرِّفة، والقوى المعادية للإسلام؛ من أجل إنتاج الفِتن، والخلافات بين المسلمين.
الموقف العمليُّ من بُؤَر التَّكفير والتَّطرُّف
وإذا كان الإعلام التَّكفيريُّ والمتطرِّف يقف وراءه (الجهل، والتَّعصُّب)، و(مؤسَّسات التَّكفير)، و(القوى المعادية للإسلام)، فمطلوب:
1- من المرجعيَّات الدِّينيَّة في جميع المذاهب الإسلاميَّة أنْ تتصدَّى لهذا العبث بوحدة المسلمين، والذي تبرقع وتَعَنْوَن بأسماء المذاهب، وهي بَرَاء كلُّ البراءِ منه.
2- أنْ يمارس الخطاب الدِّينيُّ، والخطاب الثَّقافيُّ، والخطاب السِّياسيُّ دورَ (التَّصدِّي للإعلام التَّكفيريِّ) عبر كلِّ الوسائل المُمْكِنة، وبقدر ما يكون هذا (التَّصدِّي) واعيًا، وكفوءًا وقويًّا، فإنَّه يساهم بدرجةٍ كبيرة جدًّا في تحصين النَّاس ضدَّ تأثيرات (الإعلام السَّيِّئ).
3- من الجميل جدًّا لو تؤسَّس (قَنَوَات مشتركة) تحمل شعار الوحدة بين المسلمين، وتتصدَّى لكلِّ المواقع التي تمارس إنتاج الفرقة بين المسلمين، وتمارس بثَّ العصبيَّات الطَّائفيَّة والمذهبيَّة بكلِّ ما أنتجته مِن تطرُّف، وعنفٍ، وإرهاب.
أمَّتنا الإسلاميَّة تمرُّ بمرحلة في غاية الحساسيَّة، والتَّعقيد.
وأوطاننا تشهد أزمات في غاية الصُّعوبة، والخطورة.
وهنا يجب أنْ يكون للإعلام الجادِّ، والهادف، والنَّظيف دورُهُ الفاعل على مستوى كلِّ أمَّتنا العربيَّة والإسلاميَّة، وعلى مستوى كلِّ أوطاننا، وشعوبنا.
والحمد لله ربِّ العالمين.