حديث الجمعة 487: المراجعة والمحاسبة بعد موسم عاشوراء – عاشوراء وحدة لأبناء الوطن –
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلينَ، محمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.
المراجعة والمحاسبة بعد موسم عاشوراء
في المراجعةِ والمحاسبةِ العاشورائيَّة ثلاثة اتِّجاهات:
الاتِّجاه الأوَّل: يرفضُ كلَّ مراجعةٍ، ومحاسبةٍ، ونقدٍ لموسم عاشوراء
لأنَّ في هذا جرأةً على الشَّعائر، والمراسيم العاشورائيَّة، ممَّا ُقلِّل من قدسيَّتها، ومكانتِها، وهيبتِها في نظر النَّاسِ، وممَّا يُعطي لأعداءِ عاشوراء الفرصةَ للنَّيلِ من هذه الشَّعائر، والإساءة إليها!
فيجب أنْ تبقى هذه المساحة بما تحمله من خصوصيَّة مذهبيَّةٍ بعيدة عن أيِّ نقد أو محاسبة، فقد توارثتها الأجيال الشِّيعيَّة وضَّحت من أجلها، فيجب أنْ تبقى وتستمرَّ بعيدًا عن كلِّ الإثارات، والإشكالات، والانتقادات والتي قد تفتح شهيَّةَ كلِّ مَنْ يريد السُّوء بهذه الشَّعائر، فالخير كلُّ الخير أنْ يُغلق باب النَّقد مهما كانت مبرِّرات هذا النَّقد.
الاتِّجاه الثَّاني: التَّطرُّف في النَّقد، والمحاسبة
وهو اتِّجاهٌ متطرِّفٌ في النَّقدِ والمحاسبة، بحيث لا يبقى للشَّعائر والمراسيم العاشورائيَّة أيَّة باقية، ولا يعتمد أصحاب هذا الاتِّجاه (معايير علميَّة واضحة في النَّقد، والمحاسبة) بقدر ما هي (مَزَاجاتٌ نفسيَّة) تضيق بالكثير من الممارسات العاشورائيَّة، وفي ضوء هذه المَزَاجات أصبحت الكثير من المراسيم العاشورائيَّة مرفوضة، ولا تعبِّر عن روح حضاريَّة، بل هي مظاهر تخلُّف، وحتَّى (البكاء، والحزن) وفق هذه المَزَاجات يُصنَّف ضمن الممارسات المتخلِّفة، طبعًا هذا الاتِّجاه لا يجد له أيَّ صدًى في الأوساط الشِّيعيَّة العاشقة لعاشوراء، ولشعائر عاشوراء الأصيلة كإظهار الحزن، والبكاء، وإقامة مجالس العزاء، ومواكب العزاء.
وإذا كان لهذا الاتِّجاه بعض الصَّدى، ففي تلك العقول المسكونة بهوس التَّحضُّر والتَّمدُّن، والتي تحمل الكثير من العُقد تجاه المظاهر الدِّينيَّة بحجَّة أنَّها مظاهر متخلِّفة، وغير حضاريَّة، فقضيَّة عاشوراء يجب أنْ تعتمد أدوات عصريَّة؛ من أجل إبرازها، وإيصالها للعالم، لا أنْ تبقى مأسورة للأساليب القديمة والمتخلِّفة!
الاتِّجاه الثَّالث: ضرورة المراجعة والمحاسبة
هذه الاتِّجاهُ يؤمن بضرورةِ المراجعةِ والمحاسبة لكلِّ الفعاليات العاشورائيَّة، بشرط أنْ تعتمد (أدواتُ نقدٍ علميَّةٍ)، وخاضعة للمعايير الدِّينيَّة الصَّحيحة، لا أنْ تعتمد (الأهواء، والأذواق، والمَزَاجات الذَّاتيَّة) كما هو الحالُ بالنِّسبة للاتِّجاه الثَّاني، وهو اتِّجاهٌ مرفوضٌ؛ كونه لا يعبِّر عن ممارسة علميَّة منصفة.
وأمَّا الاتِّجاه الأوَّل، فهو الآخرُ اتِّجاهٌ مرفوض في منظور أصحاب الاتِّجاه الثَّالث، وذلك للأسباب التَّالية:
السَّبب الأوَّل: إنَّه اتِّجاهٌ يكرِّسُ الأخطاء، ويوفِّر بيئة لبروزِ ممارساتٍ متخلِّفةٍ، ودخيلةٍ على الواقع العاشورائيِّ الأصيل، وهكذا تتراكم الأخطاء والمخالفات، ممَّا يسيئ إلى سمعةِ عاشوراء، وإلى أهداف عاشوراء.
السَّببُ الثَّاني: إنَّ المراسيم العاشورائيَّة لها ضوابطها الشَّرعيَّة، فلا يصح أنْ تبقى حالاتٍ منفلتةً، ومحكومة للأهواء والمَزَاجات، فإذا كنَّا نؤمن بحاكميَّة (الشَّرع) على كلِّ الأوضاع، فهل تعدُّ (مراسيم عاشوراء) استثناء، فتكون خارجةً على (حاكميَّة الشَّرع)، هكذا يريد أنْ يقول الرَّافضون لنقد الممارسات العاشورائيَّة!
إنَّه لقول فاحش يضع عاشوراء في مواجهة شرع الله تعالى، وهل كان الهدف الأسمى لنهضة الإمام الحسين (عليه السَّلام) إلَّا (الدِّفاع عن الدِّين، والشَّريعة) لا من أجل أنْ تتكرَّس الأهواء والرَّغبات، ولا من أجل أنْ تتعطَّل أحكام الله سبحانه.
إنَّه إساءة عظمى لعاشوراء الحسين (عليه السَّلام) أنْ نجعلها في موقع الصِّدام مع شرع الله (عزَّ وجلَّ)، ومع ضوابط الفقه، والدِّين.
السَّبب الثَّالث: إنَّ ما يدَّعيه أصحاب الاتِّجاه الأوَّل من أنَّ النَّقد والمحاسبة لموسم عاشوراء يشكِّل جرأة على الشَّعائر والمراسيم العاشورائيَّة، ممَّا يقلِّل من قدسيتها، وهيبتها في نظر النَّاس.
هذا كلام لا أساس له من الصِّحَّة!
أنْ نقحم في عاشوراء ما ليس منها هو الَّذي يشكِّل الجرأة على الشَّعائر، والمراسيم العاشورائيَّة.
وهو الذي يُقلِّل من قدسيَّتها، وهيبتها في نظر النَّاس.
فلكيلا نجرِّئ المتجرِّئين على مراسيم عاشوراء وشعائرها، ولكيلا نصادر قدسيَّة المراسيم والشَّعائر العاشورائيَّة يجب أنْ نحصِّن موسم عاشوراء، وأنْ لا نقحم فيه كلَّ ما يسيئ إلى قدسيَّته وسمعتِهِ.
السَّببُ الرَّابع: وليس صحيحًا ما يقال: بأنَّ السَّماح لعمليَّة النَّقد والمحاسبة يُعطي لأعداء عاشوراء الفرصة للنَّيل من الشَّعائر، والمراسيم العاشورائيَّة.
العكس هو الصَّحيح.
فالسُّكوت عن محاسبة الأخطاء، والصَّمتُ أمام كلِّ أشكال الممارسات – وإنْ كانت متنافية مع أهداف عاشوراء، هذا السُّكوتُ، وهذا الصَّمت – هو الَّذي يجرِّئ أعداء عاشوراء على النَّيل من الشَّعائر والمراسيم العاشورائيَّة، وهو يعطيهم الفرصة للتَّشهير بهذا الموسم العاشورائيِّ، وهو الذي يفتح شهيَّتهم لتشويهَ سمعة عاشوراء.
نخلص إلى القول: بأنَّنا أمام ثلاثة اتِّجاهات في التَّعاطي مع المراجعة والمحاسبة العاشورائيَّة:
اتِّجاهٌ متشدِّد في رفض المراجعة والمحاسبة.
واتِّجاه متطرِّفٌ في النَّقد والمحاسبة.
واتِّجاه يؤمن بضرورة المراجعة والمحاسبة، بشرط أنْ تُعتمد (أدواتُ النَّقدِ العلميَّةِ الخاضعةِ لمعايير الشَّرع).
وهذا الاتِّجاهُ الثَّالثُ هو الاتِّجاه الصَّائب حسب قناعتي.
دعوة للحوارات العاشورائيَّة الجادَّة الهادفة
ولا أرفض أنْ تكون هناك (حواراتٌ جادَّةٌ وهادفة)؛ من أجل معالجة الكثير من قضايا (الموسم العاشورائيِّ).
وأرى أنْ تكون (هذه الحوارات) في خارج الموسم العاشورائيِّ.
لماذا؟
لأنَّ أجواء الموسم العاشورائيِّ تحمل درجاتٍ عاليةً من (الاستنفارات، والانفعالات، والتَّوتُّرات) الأمر الذي لا يسمح لأيِّ مراجعات وحوارات هادئة أنْ تتحرَّك، خاصَّة والأمر مرتبط بالشَّعائر والممارسات العاشورائيَّة.
بينما في خارج الموسم العاشورائيِّ تكون النُّفوس هادئة، والأذهان قادرة أنْ تستقبل الآراء المخالفة، وهذا يوفِّر أجواءً صالحة للحوارات.
إنَّ أيَّ حوارٍ دينيٍّ، أو ثقافيٍّ، أو اجتماعيٍّ، أو سياسيٍّ يسقط إذا انطلق في أجواءٍ متوتِّرة، وفي أوضاع ذهنيَّة، ونفسيَّة متأزِّمة.
إنَّ أهم شروط النَّجاح لأيِّ حوار أنْ تتوفّر (المناخات الصَّالحة للحوار) وإلَّا فسوف يفشل الحوار وإنْ كان جادًّا وصادقًا.
وهذا ما قلناه، ولا زلنا نقوله فيما هي (الأزمات السِّياسيَّة)، فلا تعالج هذه الأزمات إلَّا من خلال (الحوارات)، ولا تنجح هذه الحوارات إلَّا إذا توفَّرت على شروط النَّجاح.
من شروط نجاح الحوارات
ومن أهم هذه الشَّروط:
الشَّرط الأوَّل: أنْ تتوفَّر المناخات الصَّالحة للحِوار.
الشَّرط الثَّاني: أنْ تكون النَّوايا صادقة.
الشَّرط الثَّالث: أنْ تكون الأدوات المعتمدة في الحوار سليمة، ومتَّفق عليها.
الشَّرط الرَّابع: أنْ تُقَارَب الأسباب الحقيقيَّة للأزمات.
الشَّرط الخامس: الالتزام بمنتجات الحوار.
إذًا، أيُّ خيارات أخرى غير خيارات الحوار سوف تعقِّد (أزمات الأوطان)، ولسوف تحوِّلها (إلى مآزق سياسيَّة، وأمنيَّة خطيرة) ضارَّة جدًّا بأوضاع الأوطان.
الحاجة إلى حوارات معالِجة لموسم عاشوراء
– أعود للحوارات العاشورائيَّة -.
فالحاجة كبيرة وملحَّة إلى هذه الحوارات؛ لمعالجة الكثير من أوضاع الموسم العاشورائيِّ، وكما قلت: يجب أنْ تكون هذه الحوارات في خارج الموسم العاشورائيِّ؛ من أجل توفير (المناخات الملائمة).
المتصدِّي للحوارات
مَنْ الِّذي يتصدَّى لهذه الحوارات؟
على رأس مَنْ يتصدَّى لهذه الحوارات العاشورائيَّة:
1- علماء الدِّين المؤهَّلون.
2- خطباء المنبر الحسينيِّ المتميِّزون.
3- الشُّعراء والرَّواديد البارزون.
4- أصحاب الكفاءات العلميَّة، والثَّقافيَّة.
5- القائمون على شؤون المآتم، والمواكب، والفعاليات العاشورائيَّة.
6- شرائح متميِّزة وكفوءة من الجمهور العاشورائيِّ.
ويجب أنْ تكون هذه الحوارات مدروسة، ومبرمجة، ومُحصَّنة؛ لكيلا تنتج (منازعات وخصومات).
المنازعات والخصومات مرفوضة كلُّ الرَّفض من كلِّ المستويات الدِّينيَّة، والثَّقافيَّة، والاجتماعيَّة، والسِّياسيَّة.
•يقول تعالى في: (سورة الأنفال: الآية 46) ﴿… وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ …﴾
– ﴿… تَذْهَبَ رِيحُكُمْ …﴾: تذهب قوَّتكم، وعزَّتكم، ودولتكم، وتنهار كلُّ قدراتكم.
فأخطر ما يواجه (الكيانات الدِّينيَّة، والاجتماعيَّة، والسِّياسيَّة) هو التَّنازع، والتَّخاصم.
وكم تمزَّقت شعوبٌ، وانهارت أوطان بسبب المنازعات، والخصومات، والعداوات.
الاختلافات في الاعتقاد، في الثَّقافة، في السِّياسة أمرٌ مشروعٌ، ما دام ذلك مؤسَّسًا على رُشْدٍ، ووعي، وبصيرة، وليس على أساس من (العصبيَّات).
العصبيَّات العمياء هي التي تنتج التَّنازعات، والخصومات، والعداوات بكلِّ مآلاتها المُدمِّرة، والمرعبة.
فحينما أدعو – هنا – إلى (الحوارات) فيما يخصُّ (أوضاع الموسم العاشورائيِّ)، فلكيلا تتحوَّل (الاختلافات) إلى خلافاتٍ، وعداواتٍ، وصراعاتٍ، وتنازعاتٍ لها مآلاتٌ خطيرة على واقع الموسم العاشورائيِّ، وعلى واقع الطَّائفة، وعلى واقع العلاقاتِ مع المكوِّنات الأخرى في هذا الوطن.
عاشوراء وحدة لأبناء الوطن
فكما نريد لعاشوراء أنْ تُوحِّد أبناء هذا المذهب، نريد لعاشوراء أنْ توحِّد كلَّ أبناء هذا الوطن، بكلِّ انتماءاتهم، وطوائفهم، ومذاهبهم، ومكوِّناتهم.
إذا كان الموسم العاشورائيُّ غير قادر أنْ يُوحِّد بين جماعات المذهب الواحد المنتمي إلى مدرسة عاشوراء، فكيف يتمكَّن هذا الموسم أنْ يقارب بين جميع المذاهب، والطَّوائف، والمكوِّنات؟!
عاشوراء قادرة أنْ تُحَقِّق هذا التَّوحُّد، ولكنَّنا نحن نُعطِّل هذا الدَّور من خلال أخطاء وممارسات لم نعالجها بحكمةٍ وبصيرة.
فمن أجلِ أنْ نعطي عاشوراء دورها الفاعل والقادر، ومن أجل أنْ نعطي عاشوراء حضورها الكبير يجب أنْ نلتقي، أنْ نتحاور؛ لمعالجة الكثير من الإشكالات التي أصبحت (معوِّقات) لحركة عاشوراء، ولأهداف عاشوراء!
عاشوراء لكلِّ البشريَّة!
وحينما ندعو إلى (حوارات عاشورائيَّة) داخليَّة، لا نرفض أنْ ننفتح بحواراتنا على كلِّ الطَّوائف والمذاهب، فعاشوراء مُلْك لكلِّ المسلمينالمسلمين بل لكلِّ البشريَّة، فمتى نسمع عن (حوار سنِّي شيعي) حول عاشوراء؟
ومتى نسمع عن (حوار إسلاميٍّ مسيحيٍّ) حول عاشوراء؟
ومتى نسمع عن (حوارات دينيَّة عَلْمَانيَّة) حول عاشوراء؟
إنَّ عاشوراء قادرة أنْ تخاطب كلَّ المذاهب، وكلَّ الطَّوائف، وكلَّ المكوِّنات، وكلَّ الانتماءات.
فلا يُخشى على عاشوراء من أي حوار، بل إنَّ الحوار يُعطي لعاشوراء حضورًا فاعلًا في كلِّ الأوساط، شريطة أن لا نصِرّ على بعض الممارسات التي ليس أصيلة في الواقع العاشورائيّ.
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين.