حديث 461: قلوبُنا على الوطن
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلينَ محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُدَاةِ الميامين.
قلوبُنا على الوطن
ليس هذا شعارًا من أجلِ الاستهلاك الإعلاميِّ، أو السِّياسيِّ.
وليس من أجل أنْ يَرْضى هذا، أو أنْ لا يغضب ذلك.
إنَّها قضيَّة وطن.
إنَّنا – وبكلِّ صدقٍ، ووفاءٍ – نريد لهذا الوطن أنْ يتعافى من كلِّ المكاره والأسواء، ومن كلِّ الأتعاب.
إنَّنا – وبكلِّ صدقٍ، ووفاءٍ – نريد لهذا الوطن الأمن كلَّ الأمن، ونريدُ له الخيرَ كلَّ الخير.
ونريدُ له الصَّلاح كلَّ الصَّلاح.
ونريدُ له العزَّة كلَّ العزَّة.
ونريد له الكرامةَ كلَّ الكرامة.
إننا نضرع إلى الله تعالى صادقين: أنْ نرى هذا الوطن بلا عَناءاتٍ، بلا إرهاقاتٍ، بلا بلاءاتٍ، بلا أزماتٍ، بلا توتُّراتٍ.
قلوبنا على هذا الوطن
في أوجاعِهِ، في آلامِهِ، في كلِّ آهاتِهِ، في كلِّ أتعابه.
ومهما اختلفنا في توصيف ما يجري في هذا الوطن، وفي تسمية ما يجري، فإنَّ الوطن يمرُّ بمرحلةٍ صعبة، وبأوضاع في حاجةٍ إلى مراجعة، إلى قراءة.
ليس ضعفًا، ولا عَيْبًا، ولا فشلًا أنْ تكون مراجعة، أنْ تكون قراءة.
الأنظمة الرَّاقية تمارس المراجعات، القراءات؛ من أجلِ أنْ تحصِّن أوضاع الأوطان.
وهكذا يتحرَّك التَّفكير الجادُّ.
وهكذا يبدأ البحث عن العلاجات لكلِّ الإشكالات، والأخطاء، ولكلِّ التَّحدِّيات.
وهكذا يبدأ البحث في الخلاصِ من الأزمات، من كلِّ الأوضاع غير الطَّبيعيَّة.
هذا ما يجب أنْ يتحرَّك بكلِّ شفافيَّة، وبكلِ صراحة، وبكلِّ وضوح، وبكلِّ نزاهةٍ، وبكلِّ صدقٍ، وبكلِّ محبَّة، وبكلِّ تسامح.
قلوبنا على الوطن
يقلقنا كلَّ القلق أنْ نرى فيه أزمات.
ويوجعنا كلَّ الوجع أنْ نرى فيه عناءاتٍ، وجراحاتٍ.
ويؤلمنا كلَّ الألم أنْ تسقط فيه قطرة دم!
إنَّها قطرة غالية غلاء الانتماءِ إلى هذا الوطن، وغلاء الانتساب إلى هذه الأرض.
نعم، تؤلمنا كلَّ قطرة دم تُراق على هذه الأرض.
وتؤلمنا كلُّ دمعةٍ لأمٍّ ثكلى.
وتؤلمنا كلَّ آهةٍ لأبٍ مفجوع.
وتؤلمنا صرخاتُ اليتامى، وحسراتُ الأيامى.
وفي زحمة هذه الآلام نبقى نلاحق الأمل.
لا نريد للأملِ أنْ يختنق في داخلنا.
لا نريد للبَسْمة أنْ تبقى هاربةً من الشِّفاه.
لا نريد للقلق أنْ يبقى مستوطنًا القلوبَ.
لا نريد للمحبَّة أنْ تموت.
لا نريد للتَّسامح أنْ يغادر أرضنا.
آفاق الذَاكرة
إذا استرجعنا الذَّاكرة:
حينما انفتحت أمام النَّاسِ آمالٌ.
حينما صافحت البَسْمَةُ كلَّ الشِّفاه.
حينما انتشر عبقُ المحبَّة، والتَّسامح بين النَّاس.
كم كان الوطنُ كبيرًا وجميلًا.
وكم كان الوطنُ واحةَ خيرٍ.
نريد أنْ يبقى الوطن جميلًا.
أنْ يبقى كبيرًا.
أنْ يبقى واحةَ خير.
أنْ يبقى واحةَ حبٍّ.
واحةَ تسامح.
لماذا أصبحنا نتألَّم، ونتألَّم؟
البَسْمَة ما عادت حاضرة في زحمة أحداث وأحداث، وفي زحمةِ هموم وهموم، وفي زحمة أوجاعٍ وأوجاع.
المحبَّة ما عادت حاضرة في كلِّ القلوب، فقد ترصَّدَها سماسِرةُ الكراهيات، والعداوات.
التَّسامح فارق الكثير من المواقع، فقد تصدَّى له صنَّاعُ الفتن، والعصبيَّات.
لست متشائمًا، ولستْ يائسًا من رَوْح اللهِ سبحانه، لأنَّ اليأسَ من رَوْح الله تعالى كفر!
•﴿… وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (سورة يوسف: الآية87.
فمهما ضاقت الأحوال، وتعقَّدت الظُّروف، فالثِّقة بالله (عزَّ وجلَّ) لا تسمح لنا أنْ نسقط في اليأس.
•﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (سورة الشرح: الآية5-6).
هذه سُنَّة الله تعالى في الكون، وهذا هو وعده الذي لا يمكن أنْ يتخلَّف، مهما قستْ المحن والشَّدائد، فلا يصحُّ أنْ نسقط، أو أنْ نيأس.
ما دمنا نتحرَّك وفق ما تفرضه مسؤوليَّتنا الشَّرعيَّة، ووفق ضوابط الدِّين، والقِيم، والأخلاق، والمبادئ النَّظيفة، والقوانين العادلة.
مطلوبٌ أنْ تتعافى المناخات
من أجلِ إصلاحِ الأوطان يجب (أوَّلًا) أنْ تتعافى المناخات السِّياسيَّة، وإلَّا تبقى الأوضاع معقَّدة، ويصعب أنْ تتحرَّك خَيَارات الإصلاح.
وكيف تتعافى المناخات في داخل الأوطان؟
هنا مجموعة أمور:
الأمر الأوَّل: التَّأسيس لإنتاج الثِّقة بين مكوِّنات الأوطان (الأنظمة/ الشُّعوب/ القوى النَّاشطة)
فما لم يتمَّ التَّأسيس لإنتاج هذه الثِّقة، فسوف تبقى العلاقات مرتبِكة، الأمر الذي يؤثِّر على المناخات السِّياسيَّة، فتبقى مرتبِكة، متأزِّمة، متوتِّرة، قلقة.
أما ما هي أسباب اهتزاز الثِّقة بين الأنظمة والشُّعوب، وكيف تعالج هذه الأسباب، فمسألة في حاجة أنْ توضع لها خطط مدروسة، بشرط أن تكونَ هنا إراداتٌ جادَّة في التَّأسيس لإنتاج الثِّقة؛ من أجل تنقية المناخات السِّياسيَّة.
الأمر الثَّاني: إنهاء كلِّ القضايا التي تؤزِّم المناخات
ولا شكَّ أنّ المناخاتِ السِّياسيَّة متداخلة مع المناخاتِ الدِّينيَّة، والاجتماعيَّة، والثَّقافيَّة، والاقتصاديَّة، فأيُّ قضيَّة صادمةٍ في أيٍّ من هذه المساحات سوف يكون له تأثيراتها على المناخات السِّياسيَّة.
فإذا أخذنا (المساحات الدِّينيَّة) – مثلًا -، ففي هذه المساحات توجد قضايا لها حساسيَّتها الكبيرة، فالمساس بها يشكل استفزازًا خطيرًا لمشاعر المنتمين لهذا الدِّين، أو لهذا الطَّائفة، أو لهذا المذهب.
فاستهداف: رموز هذا الدِّين، أو هذه الطَّائفة، أو هذا المذهب يشكِّل استفزازًا خطيرًا يربك المناخات السِّياسيَّة.
وكذلك استهدافات الشَّعائر، والفرائض، والمعتقدات.
وكم أحدثت هذه الاستهدافات إرباكات خطيرة جدًّا في المناخات السِّياسيَّة.
ربما تنفي الأنظمة وجود هذه الاستهدافات وربَّما تحدث التباسات، وهنا تكون الحاجة إلى المعالجة العاقلة، والهادئة، والصَّادقة.
¬الأمر الثالث: عدم اعتماد (الخَيَارات القاسية) في مواجهة حَراكات الشُّعوب
من أخطر المؤزِّمات للمناخاتِ السِّياسيَّة اعتماد (الخَيَارات القاسية) في مواجهة حَراكات الشُّعوب.
فهذه الخيارات تدفع إلى المزيد من التَّعقيدات، والاحتقانات، والتَّأزُّمات، وهي خَياراتٌ تكلِّف الأنظمة، والشُّعوب، والأوطان أثمانًا باهظة جدًّا!
إذا كان العنفُ يولِّد عنفًا، فإنَّ الرِّفقَ يُولِّد رفقًا.
وإذا كان الرِّفق مطلوب من الشُّعوب، فهو مطلوب ٌمن الأنظمة بدرجة أكبر وأكبر.
لقد أكَّدت النُّصوص الدِّينيَّة على قِيمة الرِّفق:
•﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ …﴾ (سورة آل عمران: الآية159).
•جاء في الكلمة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): “الرِّفق رأس الحكمة.
اللَّهمَّ، مَن وَلِيَ شيئًا من أمور أمَّتي فَرفق بهم، فارفق به.
ومَنْ شقَّ عليهم، فاشفق عليه” (مستدرك الوسائل11/295، ميرزا حسين النُّوري الطبرسي).
•وجاء في عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر حينما ولَّاه على مصر: “وأشعِرْ نفسَكَ الرَّحمةَ للرَّعية، والمحبَّةَ لهم، واللُّطف بهم، ولا تكونَنَّ عليهم سَبُعًا ضاريًا، تغتنم أكلهم، فإنَّهم صنفان: إمَّا أخ لك في الدِّين، وإمَّا نظيرٌ لكَ في الخَلْق” (نهج البلاغة3/84، خطب الإمام علي (عليه السَّلام)، شرح: الشَّيخ محمَّد عبده).
الأمرُ الرّابعُ: إيقاف (خطابات التَّأزيم)
من أخطر ما يدفع بالمناخات إلى التَّأزُّم وجود (خطابات مُؤزِّمة)، فحينما تمارس هذه الخطابات تأزيمًا دينيًّا، أو ثقافيًّا، أو اجتماعيًّا، أو سياسيًّا، فإنَّ هذا – لا شكَّ – ينتج أوضاعًا ومناخات متأزِّمة.
فمن أجل تحصين المناخاتِ، وتنقيتها من كلِّ المؤزِّمات يجب إيقاف (خطابات التَّأزيم)، و(خطابات الفتنة)، و(خطابات الكراهية)، وفي أيِّ موقع تَمَوْقَعَت.
فربما تكون مواقعها (منابر دِين)!
وربما تكون مواقعها (منابر ثقافيَّة)َ.
وربما تكون مواقعها (منابر سياسة).
وربما تكون مواقعها (إعلام أنظمة)، أو (صحافة أنظمة)، أو (مواقع أنظمة).
المرحلة التي تمرُّ بها أوطاننا – بكلِّ تعقيداتها، وتوتُّراتها، ومخاضاتها – في حاجة إلى (خطابات محبَّة، وتسامح)، و(خطابات وحدة، وتآلف)؛ لكي تخفِّف من عناءاتِ، وإرهاقات هذه المرحلة، ولكي تمارس أدوارًا في تبريد التَّوترات، والتَّأزُّمات، والاحتقانات.
وحينما نتحدَّث عن (خطابات المحبَّة، والتَّسامح) لا نعني أنْ يصمت الخطاب عن ممارسة أدواره في النُّصح، والتَّصحيح، وحماية القِيم، والمبادئ، والأهداف النَّظيفة، والقضايا الحقَّة، والمطالب المشروعة.
الأمر الخامس: توفير الأجواء الحرَّة لممارسة العمل السِّياسيِّ الرَّاشد
من أسباب التَّأزيم للمناخات السِّياسيَّة (غياب، أو تغييب) الرُّموز الرَّاشدة، والفاعلة، والقادرة على حماية هذه المناخات.
والكلام ينطبق كذلك حينما (تغيب، أو تُغيَّب) قوى سياسيَّة راشدة، وفاعلة وقادرة.
وكلَّما توفَّرت الأجواء الحرَّة؛ لممارسة العمل السِّياسيِّ الرَّاشد، والبصير كان ذلك عاملًا مهمًّا في حصانة ونظافة المناخات السِّياسيَّة، والعكس صحيح.
الأمرُ السَّادس: وجود الخطابات الرَّسميَّة المطمئِنة للشُّعوب
من أقوى ما يُحصِّن مناخاتِ الأوطان السِّياسيَّة، ويهدِّئ من هواجس الشُّعوب وقلقها وجود (خطابات رسميَّة) قادرة على طَمْأَنَة الشُّعوب، ومتى غابت هذه الخطابات المطمئِنة، فإنَّ قلق الشُّعوب، وهواجسها يتحوَّل غضبًا، رفضًا.
وهكذا تتشكَّل الأزمات، وربما صارت مآزق سياسيَّة صعبة.
وحينما نتحدَّث عن خطابات رسميَّة مُطَمْئِنَة نتحدَّث عن خطابات تعبِّر عن هموم الشُّعوب، وتطلُّعاتها، وكلِّ آمالها وآلامها، وعن كلِّ قضاياها العادلة، وأنْ تكون جادَّة في إنتاج مشاريع الإصلاح القادرة على النُّهوض بالأوطان.
وآخر دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.