حديث الجمعة 446: موسمٌ للتَّعريفِ بنهجِ الأئمَّةِ من أهل البيت – وقفةُ وفاءٍ وعُرفانٍ – ويستمرُّ الحديث حول قانون الأسرة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين. وبعد، فهذه بعض عناوين:
موسمٌ للتَّعريفِ بنهجِ الأئمَّةِ من أهل البيت (عليهم السَّلام)
محرَّم، وصفر شهران يتميَّزان بكثافةِ المناسباتِ الخاصَّةِ بأهلِ البيت (عليهم السَّلام) ممَّا جعلهما موسمًا كبيرًا؛ للتَّعريف بنهج الأئمَّة (عليهم السَّلام).
فمطلوبٌ جدًّا من خطباء المنبر أنْ يكونوا بمستوى ضروراتِ وحاجات هذا الموسم، فيما يقدِّمونَه من عطاءٍ علميٍّ، وثقافيٍّ، وتربويٍّ يصوغ وعيَ الأجيالِ، ويعرِّفَهم بمدرسة الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام).
وهنا أطرح هذا السُّؤال: هل استطاع المنبرُ أنْ يحملَ رسالةَ هذا الموسم أهدافًا، ومضمونًا، وأداءً؟
الجواب: لا نشكُّ أنَّه يُوجدُ منبرٌ حمل هذه الرِّسالةَ، واجتهد كلَّ الاجتهادِ في إيصالها إلى الجمهور، وإنَّنا نثمِّن هذا المنبر، فيما يقدِّمه ويطرحه، وفيما هو مستوى أدائِه، ولغتِهِ، وأسلوبهِ، ونتمنَّى أنْ يواصل هذا المنبر في أداءِ رسالته في التَّعريف بمدرسة الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام)، كما نتمنَّى له أنْ يرتقي أكثر في الأداءِ، واللُّغةِ، والأسلوب.
فما أحوج واقعنا المعاصر إلى النَّموذج الرَّاقي من المنابر الحسينيَّة.
وهناك منبرٌ آخر ربَّما مَلَك قدراتٍ إلَّا أنَّه لم يبذل جهدًا كافيًا في خدمة أهداف هذا الموسم، ممَّا أنتج لديه تقصيرًا في التَّعريف بمدرسة الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام).
لا يعني أنَّ الحديث عن الأئمَّة (عليهم السَّلام) غائبًا لدى هذا المنبر، إلَّا أنَّه مطلوب بتوظيفٍ أكبر، وبأداءٍ أقدر، وباستثمار أوضح، فهذا الموسم فرصة كبيرة ومهمَّة جدًّا؛ لبناء وعي الأجيال، فلا يجوز التَّفريط في استثماره، والاستفادة منه بأكبر قدر ممكن، خاصَّة وأنَّ المنبر الحسينيَّ يملك جمهورًا استثنائيًّا لا تملكه المنابر الأخرى، كما أنَّ لهذا الموسم خصوصيَّاته، وقدرته على الاستقطاب، والاجتذاب.
وثمَّتَ منبر ثالثٌ انخفض انخفاضًا كبيرًا في أداء وظيفته في التَّعريف بمدرسة الأئمَّة (عليهم السَّلام)، وهذا الانخفاض ناشِئ عن قصورٍ، وأعني بالقصور – هنا – عدم توفُّر (الكفاءاتِ والمؤهَّلاتِ المنبريَّة)!
وكم هو خطير جدًّا أنْ يتصدَّى لهذه المهمَّةِ الصَّعبة ِجدًّا مَنْ لا يملك تلك الكفاءات والمؤهَّلات، ولو في الحدِّ الأدنى، رغم أنَّ الضَّرورة تفرض أنْ يرتقي المستوى المنبريُّ، خاصَّة في هذا العصر الذي ارتقى فيه وعي جمهور هذه المنابر، فلا يصحُّ أنْ يكون وعي وقدرات مَنْ يرتقي المنابر الحسينيَّة أقل مستوى وكفاءةً من جمهور هذه المنابر.
لا نرفض أنْ يمارس بعضُ ناشئة المنبر خطابه تدريبيَّة، ولكن بشرط أنْ تكون في مساحاتٍ محدودة، وتحت إشراف ورقابة خطباء مؤهَّلِين، خشية أنْ يمتدَّ حضور هؤلاء النَّاشئة قبل أنْ يمتلكوا الحدَّ الأدنى من مؤهَّلات المنبر.
وإنَّنا في الوقت الَّذي نشجِّع الشَّباب الذين يملكون استعدادات الخطابة الحسينيَّة أنْ يسلكوا هذا الاتِّجاه، وهو من أقدس وأشرف الاتِّجاهات.
نؤكِّد على اعتماد المنهج الصَّحيح في إعداد الخطيب الحسينيِّ، وهنا تبرز الحاجة الكبيرة إلى (البرامج، والدَّورات المؤهِّلة) لإعداد خطباء المنبر الحسينيِّ، هذه البرامج والدَّورات التي يشرف عليها (أساتذة منبر) يملكون درجة عالية من التَّأهيل.
أعود للتَّأكيد على أهمية وخطورة دور المنبر الحسينيِّ في صوغ وعي الأجيال، وفي تحصين حركتها إيمانيًّا، وعقيديًّا، وروحيًّا، وأخلاقيًّا، وسلوكيًّا.
إنَّ أجيالنا تعيش فراغًا ثقافيًّا فيما هي المعرفة الكافية بمدرسة الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام)، هذه المدرسة الغنيَّة بعطاءاتها، وإبداعاتها، وامتداداتها.
أجيالنا لا تقرأ، ومواقع الإعلام وأدوات المعرفة في هذا العصر لا توفِّر (الثَّقافة الأصيلة) المطلوبة، ومناهج التَّعليم لا تغطي هذه الحاجة.
بقي خطاب المسجد، وخطاب المناسبات، وخطاب المنبر الحسينيِّ، وهذا الأخير هو الأقوى حضورًا وتأثيرًا، والأكثر استقطابًا، والأقدر تأثيرًا.
فكم هي مسؤوليَّة المنبر الحسينيِّ خطيرة وخطيرة جدًّا، خاصَّة في هذا الموسم العاشورائيِّ والأربعينيِّ حيث الاستقطاب الأكبر، وحيث التَّفاعل الأقوى.
إنَّها جناية في حقِّ الأجيال حينما لا يُوظَّف هذا الموسم بأقصى درجات التَّوظيف.
وإنَّه لتفريط، وأيُّ تفريط حينما يقصِّر المنبرُ في أداء وظائفِهِ ومسؤوليَّاتِهِ كما حدَّدتها رسالةُ عاشوراء، وكما أرادها الأئمَّة من أهلِ البيت (عليهم السَّلام).
لسنا مع الهجمة غير المسؤولة على المنابر الحسينيَّة، فيما تحمله هذه الهجمة من محاولات تشويه عن قصد أو غير قصد، ومحاولات إساءةٍ بدوافع سليمة أو غير سليمة.
لا نرفض النَّقد البنَّاء الهادف للخطاب الدِّينيِّ، خطاب المسجد، أو خطاب المناسبات، أو خطاب المنبر الحسينيِّ.
ولكن بشرط:
1- أنْ يكون مَنْ يمارس النَّقد مؤهَّلًا لهذه الممارسة، ويملك كفاءاتها، وإلَّا تحوَّلت العمليَّة خَبْطًا، وتشويشًا، وإرباكًا، وفضولًا.
2- أنْ تكونَ اللُّغة مؤدَّبة ونظيفة وصادقة، وإلَّا تحوَّل الأمر طعنًا، وقذفًا، وسبًّا.
3- أنْ تكون الدَّوافع سليمة، وإلَّا كان ذلك عُدوانًا، وظلمًا، وتشهيرًا.
4- أنْ يتمَّ اختيار الأجواء الملائمة للنَّقد، عامَّةً كانت أو خاصَّة.
وكلَّما كان النَّقد مُؤهّلًا، ونظيفًا، ونزيهًا، ومبرّرًا، وحكيمًا، وصادقًا.
ساهم في ترشيدِ المنبر، وتقويمهِ، وتأصيلِه، وتنشيطِه، وحراستِه.
وإذا كان النَّقد ليس كذلك، فهو مرفوض كلُّ الرَّفض، ومُدانٌ كلُّ الإدانة، لأنَّه لا يعبِّر إلَّا عن عُقد، ولا يهدف إلَّا إلى التَّشويش والإساءة.
وقفةُ وفاءٍ وعُرفانٍ
في كلِّ موسم عاشوراء ينبغي أنْ تكون وقفة وفاءٍ وعُرفان لروَّاد المنبر الحسينيِّ، وعلى رأسهم عميد المنبر الدُّكتور الشَّيخ أحمد الوائلي (رحمه الله، ورفع مقاماته)، هذا الإنسان الذي أعطى كلَّ وجودِه؛ من أجل قضيَّة الإمام الحسين (عليه السَّلام)، بما يملك من فكرٍ خلَّاقٍ، وعطاءٍ متميِّزٍ، فكانَ بحقٍّ لِسانَ الشِّيعةِ، وعملاقَ الخطابةِ، والمدرسةَ الرَّائدةَ، والكلمةَ الجريئةَ، والخطابَ المُبدع.
ومطلوب أنْ يُشادَ له رمزٌ شاخص على أرض كربلاء، فهو خالدٌ ما خلدت عاشوراء، وباقٍ ما بقيت صرخةُ الإمام الحسين، فهو حيٌّ تحتضنه العقولُ، والقلوبُ، والأرواح، ومسيرة الأجيال العاشورائيَّة.
وهنا أسجِّل استنكارًا شديدًا ضدَّ ما حدث من إساءةٍ فاحشةٍ لهذا الرَّمز الحسينيِّ الكبير، وذلك في يوم عاشوراء، وعلى أرضِ كربلاء!
إنَّها جناية عظمى أنْ يُمسَّ هذا الإنسان الذي ذاب في عشق الإمام الحسين (عليه السَّلام)!
وفي موسم الإمام الحسين (عليه السَّلام)!
وفي مدينة الإمام الحسين (عليه السَّلام)!
وعلى مسمع ومرأى من زوَّارِ الإمام الحسين (عليه السَّلام)!
فإلى الله المُشتكى، وإليه سبحانه نحمل ظلامة هذا العبد الصَّالح.
ويستمرُّ الحديث حول قانون الأسرة
وهنا أذكر بعض مقولات:
المقولة الأولى:
قالوا: إنَّ الدَّعوة إلى تقنين الأحوال الشَّخصيَّة ليس فيها تجرُّؤ على شريعة الله تعالى، والمسألة لا تتعدَّى الانتقال بأحكام الأسرة من وضعها التَّقليديِّ مِن كونها مسائل مبثوثةٍ في الكتب الفقهيَّة إلى وضعٍ أكثر تنظيمًا، وأكثر منهجةً، وأكثر تسهيلًا، وذلك من خلالِ صياغتها بلغةٍ قانوَّنيةٍ حديثةٍ، فما هي المشكلة في ذلك؟
وأين هو التَّجرُّؤ على شريعة الله تعالى؟
أعقِّب على هذا الكلام بـ:
أوَّلًا: هل أنَّ دعاة التَّقنين للأحوال الشَّخصيَّة يتحدَّثون عن (الصِّياغة القانونيَّة لأحكام الأسرة) فقط؟
وهذا يعني: إنَّه ليس من حقِّ (البرلمان) أنْ يناقش هذه الأحكام، وإنَّما يكلِّف لجنة قانونيَّة لصياغة المشروع، ثمَّ يصوِّت عليه النُّوَّاب بلا مداولات، ولا مجادلات، ولا مناقشات.
هل الأمر هكذا؟
هل أنَّ وظيفة أعضاء البرلمان أنْ (يبصموا) على المشروع من دون أنْ يكون لهم التَّداول، والنِّقاشِ، والقَبُولِ، والرَّفض؟
لو طرح هذا السُّؤال على أعضاء البرلمان، لا شكَّ أنَّ جوابهم سيكون بالنَّفي قطعًا، فوظيفة البرلمان النَّقدُ، والمحاسبةُ، والمداولةُ، والمناقشةُ، واعتمادُ رأي ورفضُ رأي آخر، فدعوى أنَّ وظيفة البرلمان هي مجرَّد الصِّياغة القانونيَّة دعوى لا أساس لها من الصِّحَّة.
ثانيًا: قد يقال: إنَّ مهمَّة البرلمان إعطاء الصِّبغة القانونيَّة والشَّرعيَّة باعتباره المؤسَّسة المخوَّلة دستوريًّا لذلك.
قرأت في إحدى الصُّحُف المحَلِّيَّة بعض كلامٍ ردًّا على ما أوردتُه في حديثِ الجمعة الماضية والذي أكَّدتُ فيه على ضرورة توفُّر مجموعة (ضماناتٍ)؛ لحماية أحكام الأسرة.
وهذا نصُّ ما جاء في بعض كلام المعترِض: “من بين الثَّوابت في البحرينِ أنَّ السُّلْطةَ التَّشريعيَّة (الشُّورى، والنُّوَّاب) هي التي تَسِنُّ القوانين، وليس أشخاص مِن خارج هذه المؤسَّسةِ الدُّستوريَّةِ حتَّى لو كانوا (رجالَ دينٍ)، فمن يطالب بالديمقراطيَّة عليه أنْ يعمل من خلال أدواتِها السِّياسيَّةِ والتَّشريعيَّةِ أمَّا فتح الباب أمام (الثُّيوقراطيَّة) – حكم رجال الدِّين -، فهو يقودنا إلى عصور أوربا الوسطى الظُّلاميَّة التي لا تختلف كثيرًا عن (حكم ولاية الفقيه)، …” انتهى كلامه.
وهنا أضع مجموعة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: من هذا الكلام نفهم أنَّ أحكام الله تعالى في الزَّواج، والطَّلاق، والوصايا، والمواريث، وبقيَّة شؤون الأسرة يجب أنْ تستمدَّ شرعيَّتها من البرلمانِ، فما تصوِّت عليه الأغلبيَّة يكون (شرعيًّا) ومُلزِمًا للقضاء ولكلِّ النَّاس، وما تصوِّتْ ضدَّهُ الأغلبيَّةُ تسقط (شرعيَّته)، ولا يكون مُلزِمًا للقضاء، والنَّاس.
فمع كلِّ التَّقدير والاحترام للبرلمان كمؤسَّسة تشريعيَّة، إلَّا أنَّ الشَّرعيَّة في مضمونها الفقهيِّ لا تستمدُّ إلَّا من كتابِ اللهِ تعالى، وسنَّةِ رسولِهِ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وكلِّ ما يُمثِّل امتدادًا لهذه السُّنَّة المطهَّرة.
يقول تعالى: ﴿… قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾. (سورة يونس: الآية 59).
الله تعالى وحدَهُ الَّذي يملك حقَّ التَّشريع، فهل أخذتم إذنًا من الله تعالى في ذلك؟، أم أنَّكم تفترون على الله تعالى حينما أعطيتم لأنفسكم حقَّ التَّشريع من دون إذنه تعالى؟
فإنَّ نسبة الحكم إلى الله سبحانه أمر غير جائز، إلَّا من خلال (الأدوات) التي أجاز الله تعالى اعتمادها؛ لاستنباط أحكام الله سبحانه.
الملاحظة الثَّانية: إنَّنا نطالب بالدِّيمقراطيَّة كأداة من أدواتِ العمل السِّياسيِّ، وأدواتِ المطالبة بالحقوق المشروعة، إلَّا أَنَّنا لا نعطي الدِّيمقراطيَّة الحقَّ أنْ تقول كلمتها في أحكام الله تعالى، فنحن نتحفَّظ على الدِّيمقراطيَّة في خطِّها الفكريِّ، ولا نتحفَّظ عليها كأداة من أدوات العمل السِّياسيِّ.
ما الفرق بين الحالتين؟
إنَّنا لا نرفض الدِّيمقراطيَّة كوسيلة من وسائلِ العملِ السِّياسيِّ بما تعبِّر عنه من إعطاءِ الشَّعب حقَّ المشاركةِ في القرار السِّياسيِّ، وفي المطالبة بالحقوق المشروعة في التَّعبير عن الرَّأي، وفي مراقبة ومحاسبة مؤسَّساتِ السُّلطةِ ضمن الأدوات المقرَّرة دستوريًّا.
أمَّا الدِّيمقراطيَّة في خطِّها الفكريِّ الأيديولوجي، فلدينا عليها كلُّ التَّحفُّظ، فالدِّيمقراطيَّة في هذا الخطِّ تعتمد (الأكثريَّة) أساسًا للشَّرعيَّة!
فلو أنَّ الأكثريَّة رفضت حكمًا ثابتًا في الإسلام فَقَد هذا الحكم شرعيَّته، ولو أنَّ الأكثريَّة قالت: (نعم)، لحكم محرَّم في الإسلام أصبح هذا الحكم لا يملك الشَّرعيَّة!
فما ترفضه الأكثريَّة لا يملك (الشَّرعيَّة) وإنْ كان من صميم الإسلام، ومسلَّماتِه، وضروراته، وما تقبله الأكثريَّة فهو يملك (الشَّرعيَّة) وإنْ كان من المحرَّمات الثَّابتة في الإسلام!
فلو قالت الدِّيمقراطيَّة: (نَعَم للرِّبا)، (نَعَم للزِّنا)، (نَعَم للخمور)، (نَعَم لإسقاط القوامة)، (نَعَم لإسقاط الولاية)، (نَعَم للمساواة بين الرَّجل والمرأة في الميراث) أصبحت هذه الأمور تملك الشَّرعيَّة!
هذا هو منطق (الأكثريَّة) وهو منطق يرفضه الإسلام فيما هي (الشَّرعيَّة، وعدمها)، فالدِّيمقراطيَّة لا مجال لها في أحكام الله تعالى، وتشريعاته.
الملاحظة الثَّالثة: أمَّا دعوى أنَّنا حينما نطالب بإخضاع أحكام الأسرة إلى (شرع الله تعالى)، وإلى (إشراف المتخصِّصين في شؤون الشَّرع) نفتح الباب أمام (الثيوقراطيَّة)، و(حكم رجال الدِّين)، و(دولة ولاية الفقيه)، فهذا كلامٌ فيه (هَرْطَقَة)، و(تشويش)، و(مغالطة فاضحة)، و(تدليسٌ مكشوف).
فالمطالبة بإخضاع أحكام الأسرة إلى شريعة الله تعالى ليس (ثيوقراطيَّة)، ولا (يقود إلى عصور أوربا الظُّلاميَّة).
حينما ينصُّ دستور البحرين أنَّ (دين الدَّولة الإسلام)، فهل هذا دعوة للدَّولة الدِّينيَّة الثيوقراطيَّة؟ وهل هذا (ظلاميَّة)؟!
وحينما ينصُّ دستور البحرين أنَّ (الشَّريعة مصدر رئيس للتَّشريع)، فهل هذا يعطي الدَّولة الصِّبغة الثيوقراطيَّة.
وكذا عندما أكَّدنا على ضرورة (الرُّجوع إلى المتخصِّصين في شؤون الشَّرعيَّة)، فنحن لا ندعو إلى (حكومة رجال الدِّين)، ولا إلى (حكومة ولاية الفقيه)، ولا إلى (حكومة الخلافة).
كلُّ هذه العناوين ما وردت إطلاقًا في خطابنا الدِّينيِّ، ولن ترد، فيقول زورًا وبهتانًا مَنْ يتَّهمنا بذلك، وهذا هو خطابنا مفتوح، فأين هي الدَّعوة إلى هذه (المسمَّيات)، كيف ونحن في هذا الوطن الذي يحتضن طوائف، ومذاهب، ومكوِّنات، فهل من الرُّشد، والعقل، والحكمة أنْ يدعو أحدٌ إلى دولةِ (رجالِ الدِّين)، أو (دولة ولاية الفقيه)، أو (دولة خلافة)؟
نعم، نحن ندعو إلى (دولة مواطنة)، و(دولة عدالة)، و(دولة مساواة)، و(دولة ديمقراطيَّة) فيما تعنيه الدِّيمقراطيَّة من مشاركة حقيقيَّة في مؤسَّساتِ الدَّولة، والحكم.
ولا نشكُّ إطلاقًا أنَّ في ديننا الإسلاميِّ، وفي شريعتنا الغرَّاء من المبادئ، والأحكام، والقوانين، والمُثُل، والقِيم ما تعجز عنه أحدث الأنظمة في هذا العصر مهما تطوَّرت، وارتقت، وتمَّ إنتاجها من خلال أرقى المسمَّيات.
وهكذا تبقى (شريعة الله) هي الملاذ؛ لإنقاذ العالم من كلِّ أزماتِه.
الملاحظة الرَّابعة: إذا أعطينا المؤسَّسات الوضعيَّة حقَّ التَّشريع والتَّقنين في الشَّأن الأُسريِّ (الزَّواج – الطَّلاق – الوصايا – المواريث) من دون رجوع إلى المتخصِّصين في الفقه، وأحكام الشَّريعة، فماذا يعني هذا؟
لنفترض أنَّ أعضاء البرلمانات يمتلكون أرقى الكفاءاتِ الثَّقافيَّة، والحقوقيَّة، والقانونيَّة، والسِّياسيَّة، فهل هذا يؤهِّلهم أنْ يُعطوا الرَّأي في الشَّأنِ الفقهيِّ، إذا كانوا غير متخصِّصين في هذا الشَّأن؟
قد يقال: إنَّ أعضاء البرلمانات لا يتدخَّلون في الإفتاء، وإعطاء الرَّأي الشَّرعي.
إنَّما مهمَّتهم تداول الآراء الصَّادرة عن الفقهاء، واختيار هذا الرَّأي، أو ذاك حسب ما يرونه من المصلحة.
وهنا نقول: إنَّ تداول الآراء الفقهيَّة، وترجيح هذا الرَّأي أو ذاك، يحتاج إلى (كفاءات فقهيَّة، وعلميَّة)، فمتى غابت هذه الكفاءات، لا تبقى قدرة للتَّداول، والتَّرجيح.
وهذا ما يفرض الرُّجوع إلى المتخصِّصين في الفقه، والشَّريعة فيما هي مسؤوليَّة التَّشريع الأسريِّ، وفيما هي مسؤوليَّة الإشراف والمصادقة، وفيما هي مسؤوليَّة المراجعة، والتَّعديل، والتَّغيير.