حديث الجمعة 439: ماذا إذا تعدّدت الرؤى والقناعات – لكي نُحصِّن الاختلاف – الحكم على سماحة السيد مجيد المشعل
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلهِ الهُداةِ الميامين، وبعد:
فمع بعض عناوين:
ماذا إذا تعدَّدت الرُّؤى والقناعات؟
ليس أمرًا مرفوضًا أنْ تتعدَّد الرُّؤى والقناعاتُ في الشَّأنِ الدِّينيِّ، أو الثَّقافيِّ، أو الاجتماعيِّ، أو السِّياسيِّ، فمن حقِّ الإنسان أنْ يُحدِّد انتماءهُ الدِّينيَّ، أو الثَّقاقيَّ، أو الاجتماعيَّ، أو السِّياسيَّ مادام هذا الانتماءُ مؤسَّسًا على عقلٍ، ورُشدٍ، وبصيرةٍ، وليس على جَهَلٍ، وهوًى، وعصبيَّة.
ولا يعني هذا أنْ تكون كلُّ الخياراتِ مُحقَّةً وصائبةً، فربَّما كانت باطلةً وخاطئةً، إلَّا أنَّ الإنسان يكون معذورًا حينما يعمل كلَّ جُهدِهِ وقُدراتِهِ، وحينما يعتمد الأدوات العلميَّةِ الصَّحيحة، وإلَّا فيجب أنْ يتحمَّل مسؤوليَّة خطأهُ الدِّينيَّ، أو الثَّقافيَّ، أو السِّياسيَّ، أو الاجتماعيَّ، أو السِّياسيَّ.
وهنا تساؤلٌ يُطرح: ألا تُشكِّل الاختلافات الدِّينيَّة، والثَّقافيَّة، والاجتماعيَّة، والسِّياسيَّة مكوِّنات تناقض وصراع؟
فأوطان تزدحمُ بأديان ومذاهب مُتعدِّدة، وبأفكارٍ مُتخالفةٍ، وبمساراتٍ سياسيَّةٍ مُتباينةٍ، ألا يُؤسِّس هذا الازدحامُ إلى التَّناقض، والصِّراع، والاقتتال؟
في الإجابة عن هذا التَّساؤل أقولُ: إنَّ الرُّؤى الدِّينيَّةَ، والمذهبيَّةَ، والثَّقافيَّةَ، والسِّياسيَّةَ المُتعدِّدة لا تُشكِّلُ – دائمًا – مكوِّناتٍ للتَّناقض، والتَّباين، والتَّنافي، والاحترابِ إلَّا إذا عاشت هذه الرُّؤى حالات الإنسجانِ، والانغلاقِ على الذَّات، وحالاتِ النَّفي المطلق للآخرِ، ممَّا يكوِّنُ الأنا الـمُتعصِّب دينيًّا، ومذهبيًّا، وثقافيًّا، وسياسيًّا.
لا إشكال في أنْ يتكوَّنَ الأنا الدِّينيُّ، أو الأنا المذهبيُّ، أو الأنا الثَّقافيُّ، أو السِّياسيُّ، هذا أمرٌ طبيعيٌّ تفرضهُ القناعاتُ مادامت هذه القناعاتُ صادرةً عن بحثٍ وتأمُّلٍ، وليس نتيجة تقليدٍ أعمى.
نعم، هذا التَّنوُّع والتَّعدُّد، وهذا الأنا الدِّينيُّ، والمذهبيُّ، والثَّقافيُّ، والسِّياسيُّ لا يُشكِّل خطرًا على وحدة الأوطان.
الخطر كلُّ الخطر حينما يتحوَّل هذا الأنا إلى الأنا الـمُتعصِّب بما يُنتجهُ من توتُّراتٍ وصراعاتٍ متشنِّجةٍ، ومِن خلافاتٍ ومواجهاتٍ صعبةٍ، وربَّما تعدَّى الأمرُ إلى صداماتٍ داميةٍ، حينما يغيبُ الرُّشدُ والبصيرةُ، وحينما تنقلبُ العواطفُ والمشاعر.
هذا الأنا الـمُتعصِّب هو الذي عبَّر عنه القرآن بـ﴿حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ في قوله تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ …﴾ (سورة الفتح: الآية 26).
هنا يكون المُحرِّكُ للمواقف هو الانفعالُ والعصبيَّةُ، ومشاعر الانتماء للعشيرة، دون أيِّ وعي يُحصِّن الانفعالات، ودون أيِّ قِيَمٍ روحيَّةٍ تُرشِّدُ المشاعر، ودون أيِّ معانٍ إنسانيَّة توجِّهُ المواقفَ، والمُمارسات.
جاء في الحديث عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآلة): “مَن كان في قلبِهِ حبَّةٌ من خَرْدلٍ مِن عَصَبيَّة بَعَثهُ اللهُ يَوَم القيامة مع أعرابِ الجاهليَّة” (الكافي 2/308، الشَّيخ الكليني).
وعن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): “مَنْ تعصَّب عصَّبه الله (عزَّ وجلَّ) بعصابةٍ من النَّار”. (الكافي 2/308، الشَّيخ الكليني).
لعلَّ قائلًا يقول: ألسنا مُطَالَبِين أنْ نتعصَّب للحقِّ؟
نعم، يجب التَّعصُّب للحقِّ.
•جاء في الكلمة عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام): “إنْ كُنتُم لا مَحالَةَ مُتَعَصِّبينَ، فتَعَصَّبوا لِنُصرَةِ الحَقِّ، وإغاثَةِ المَلهوفِ” (عيون الحكم والمواعظ، الصَّفحة 163، علي بن محمَّد اللَّيثي الواسطي).
•وفي كلمة أخرى له (عليه السَّلام): “…، فإنْ كان لا بدَّ من العصبيَّة، فليكن تعصُّبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنُّجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل …، فتعصَّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذِّمام، والطَّاعة للبِرِّ، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، …” (نهج البلاغة، الصَّفحة295، تحقيق: صبحي الصَّالح).
هنا التَّعصُّب ليس تعصُّبًا لـ(الأنا) وإنْ كانت تمثِّل الباطل، وإنَّما هو تعصُّب للحقِّ، وأينما وجد الحقُّ، معي أو مع الآخر، مع ديني ومذهبي، أو مع الدِّين والمذهب الآخر، مع حزبي السِّياسيِّ أو الحزب الآخر.
هذا اللَّون من التَّعصُّب ممدوح، لأنَّه لا يؤسِّس للظِّلم، والفساد، والعبث بالقِيم، ولا يزرع العداوة والبغضاء في النُّفوس، ولا يدفع نحو الصِّراع، والاحتراب، والاقتتال.
بخلاف التَّعصب الذي لا يعترف بمعايير الحقِّ، والخير، والفضيلة، وإنَّما يحكمه الهوى، ونزغات الشَّيطان، وحبُّ الدُّنيا.
وقد عبَّر أمير المؤمنين (عليه السَّلام) عن إبليس بأنَّه إمام المتعصِّبين، “فافتخر على آدم بخلقِهِ، وتعصَّب عليه لأصله، فعدوُّ اللهِ إمامُ المتعصِّبين، وسَلَفِ المستكبرين، الذي وضع أساس العصبيَّة” (نهج البلاغة، الصَّفحة286، تحقيق: صبحي الصَّالح).
لكي نُحصِّن الاختلاف
إذا كان الاختلاف الدِّينيُّ، والمذهبيُّ، والثَّقافيُّ، والسِّياسيُّ أمرًا مشروعًا، يُعبِّرُ عن حقِّ الإنسان في أنْ يُشكِّلَ انتماءَه وفق قناعاتهِ، وبذلك يتحمَّل مسؤوليَّة هذا الانتماءِ، وهذه القناعات، فمطلوبٌ أنْ يُحصَّنَ هذا الاختلافُ في مواجهة كُلِّ الانزلاقات، ولكي لا يتحوَّل مصدر خلافاتٍ، وصراعاتٍ، وعداواتٍ، بل مصدر احتراب، واقتتالٍ، ومعارك تُسفك فيها أرواحٌ، وتُهتكُ أعراضٌ، وتدمَّرُ أموالٌ ومُمْتَلَكَات.
ومطلوبٌ كذلك أنْ يتحصَّن هذا الاختلافُ؛ لكي لا يتحوَّل مصدر إنتاجٍ لحالاتِ العُنفِ، والتَّطرُّف، والإرهاب، هذه الحالات التي تغذِّيها – غالبًا – عصبيَّاتٌ عمياء، ورؤى عمياء، وقناعاتٌ متشدِّدة.
عمليَّة التَّحصين الإسلاميِّ للاختلاف
كيف مارس الإسلام عمليَّة التَّحصين لحالات الاختلاف الدِّينيِّ، والمذهبيِّ، والثَّقافيِّ، والاجتماعيِّ، والسِّياسيِّ؟
مارس ذلك من خلال مجموعة توجيهات:
التَّوجيه الأوَّل: أكَّد الإسلام على مبدأ الحوار
حينما نقرأ القرآن الكريم تتأكَّد لنا هذه الحقيقة، فهو مشحون بالمشاهد الحواريَّة؛ لذلك صحَّ أنْ يقال: إنَّ القرآن الكريم كتاب الحوار.
وهذه بعض نماذج من مشاهد الحوار في القرآن الكريم، واكتفي بذكر مَشْهَدَين:
المشهد الأوَّل: الحوار بين الله سبحانه والملائكة (عليهم السَّلام)
•﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (سورة طه: الآية 44).
•﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (سورة البقرة: الآية 30).
قد يُطرحُ سؤالٌ هنا: كيف عَرَفَ الملائكةُ أنَّ هذا المخلوقَ الجديدَ – الإنسان – سوف يُفسدُ في الأرضِ، ويسفكُ الدِّماء؟
-ربَّما أَطْلَعهم الله سبحانه على ذلك.
-وربَّما فهموا الأمر من خلال عبارة ﴿فِي الأَرْضِ﴾، فالإنسان المخلوق من التُّراب يحمل في داخلِهِ أهواءً ونزعاتٍ تقودهُ إلى الفسادِ، وسفكِ الدِّماء.
-وربَّما كان تَنبُّؤ الملائكة ناشئًا من تجربةٍ سابقةٍ مع مخلوقاتٍ خُلقت قبل آدم تنازعتْ، وسفكت الدِّماء!
المشهد الثَّاني: حوارٌ بين الله سبحانه والشَّيطان
•﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الأعراف: الآية 11 – 18).
التَّوجيه الثَّاني: الهدف البحث عن الحقيقة
أنْ يكون هدفُ الحوار هو البحثُ عن الحقيقة، فهناك مَنْ يحاورُ؛ من أجل الحوار، هذا حوارٌ بلا هدف، يستهلك الجهد، والوقت بلا نتيجة.
وهؤلاء هم ﴿… الَّذِينَ يُمَارُونَ …﴾ (سورة الشُّورى: الآية 18) حسب التَّعبير القرآنيِّ، فهم يفتحون الجدال لا من أجل الوصول إلى الحقِّ، وإنَّما لإضاعة الوقت والجهد، وقد حذَّرت الرِّوايات من (المِراء)، فقد:
•قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): “…، ذَرُوا الْمِرَاءَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لا يُمَارِي.
ذَرُوا الْمِرَاءَ، فَإِنَّ الْمُمَارِيَ قَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ، …” (بحار الأنوار 2/138، العلَّامة المجلسي).
•وقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): “لا يَسْتَكْمِلُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَدَعَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا” (بحار الأنوار 2/138، العلَّامة المجلسي).
وهناك مَنْ يُحاور من أجل أنْ يؤكِّد ذاتهُ لا من أجل أنْ يؤكِّد الحقَّ!
وهناك منْ يُحاور من أجل أنْ ينتصر هو لا من أجل أنْ تنتصر الحقيقة!
وهناك مَنْ يحاور في القضايا الاستهلاكيَّة على حساب القضايا الحقيقيَّة!
وهناك مَنْ يحاور في العناوين الصَّغيرة، وينسى العناوين الكبيرة!
كلُّ هذه الألوان من الحوار لا تبحث عن الحقيقة، وإنَّما لإضاعة الحقيقيَّة.
التَّوجيه الثَّالث: أنْ تكون أدوات الحوار نظيفة
(1) أنْ تكون لغة الحوار نظيفة
فلا يجوز أنْ يعتمد الحوار لغة السَّبِّ، والشَّتم، والتَّشهير، والتَّسقيط.
•﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ …﴾ (سورة الأنعام: الآية 108).
•قال النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): “لا تسبُّوا النَّاس، فتكتسبوا العداوة بينهم” (الكافي 2/360، الشَّيخ الكليني).
•سمع الإمام عليٌّ (عليه السَّلام) قومًا من أصحابه يسبُّون أهل الشَّام، فقال: “إنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي اَلْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِي اَلْعُذْرِ، وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اَللَّهُمَّ، أَحْقِنْ دِمَاءَنَا، وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ، وَأهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ اَلْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ اَلْغَيِّ وَاَلْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ” (نهج البلاغة، الصَّفحة323، تحقيق: صبحي الصَّالح).
فاعتماد لغة السَّب والقذف في الحوار، أو في أيِّ خطاب دينيٍّ، أو ثقافيٍّ، أو اجتماعيٍّ، أو سياسيٍّ، أو في الشِّعارات والاحتجاجات، اعتماد هذه اللُّغة أمرٌ في غاية القُبح والسُّوء، وهو أسلوب مقيتٌ ومتخلِّف جدًّا، ويُعبِّر عن عجزٍ وإفلاس.
مطلوبٌ النَّقد، ومحاسبة الأخطاء في كلِّ المجالات الدِّينيَّة، والثَّقافيَّة، والاجتماعيَّة، والسِّياسيَّة، إلَّا أنَّ اللُّغة في النَّقد والمحاسبة يجب أنْ تكون مُهدَّبةً، ونظيفةً، وحضاريَّةً، وليست لغةً ساقطةً سيِّئةً متخلِّفةً.
من يمتلك أصالة الرَّأي، وقوَّة الحجَّة، وحقَّانيَّة الموقف لا يلجأ إلى لغة السَّبِّ، والقذف، والتَّشهير، فهي لغة الضُّعفاء، والمُفْلِسين، والمتخلِّفين، والمنهزمين.
إنَّ لغة السَّبِّ تُشنِّج العلاقات، وتأجِّج الخلافات، وتؤزِّم الأجواء، وتغذِّي الأحقاد والعداوات، وربَّما قادت إلى المواجهات، والصِّدامات، وأيقظت الفِتن، والصِّراعات.
اللُّغة التي يؤكِّد عليها الإسلام هي اللُّغة النَّظيفة المهذَّبة.
•﴿… وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ …﴾ (سورة النَّحل: الآية 125).
•﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ …﴾ (سورة العنكبوت: الآية 46).
(2) أنْ تكون لغة الحوار ليِّنة
•﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا …﴾ (سورة طه: الآية 44).
•﴿… وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ …﴾ (سورة آل عمران: الآية 159).
فالكلمة اللَّيِّنة تفتح القلوب، وتلجُ العقول، وتخفِّف من التَّشنُّجات، والتَّوتُّرات، والصِّراعات، وتزرع المحبَّة، والتَّآلف، والتَّقارب.
الأساسات الإيمانيَّة
قد يُقال: أليس من الأساسيَّات الإيمانيَّة أنْ يكون الإنسانُ المؤمنُ مبدئيًّا صادقًا في مواقفه، ولا يتنازل، ولا يُساوم، ولا يُهادن، ولا يداهن؟
المبدئيَّة والصَّراحة يعني أنْ لا يُفرِّط الإنسانُ المؤمنُ في قناعاتهِ الحقَّه، وفي أهدافه الصَّائبة، وأنْ لا يُساوم عليها مهما كانت التَّحدِّيات، لأنَّ هذا التَّفريط في القناعات والأهداف، ولأنَّ هذه المساومات خيانة للمبادئ والقِيم، غير أنَّ المبدئيَّة والصَّرامة شَيئ، والجفوة في الكلمة، والقسوة في القول شيئ آخر.
الأنبياء (عليهم السَّلام) كانوا مبدئيِّين كلَّ المبدئيَّة، وصارمين كلَّ الصَّرامة في تبليغ الرِّسالات، ومع ذلك كانوا يعتمدون الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.
﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ …﴾ (سورة النَّحل: الآية 125).
(3) للاختلاف آدابٌ
إذا كان من حقِّ الإنسان أنْ يُشكِّل قناعاتِه الدِّينيَّة، والثَّقافيَّة، والسِّياسيَّة، وإذا كان من حقِّه أنْ يناقش قناعات الآخرين، وأنْ يرفضها، مادام قد اعتمد الأدوات العلميَّة في كلِّ ذلك إلَّا أنَّهُ ليس من حقِّه أنْ يُسيئ إلى الآخرين الَّذين يختلف معهم.
فمِن أدب الاختلاف احترام الآخر، فإذا عجزنا أنْ نتَّفق، فيجب أنْ نتعلَّم كيف نختلف.
ليس من حقِّك أنْ تتَّهم دوافع الآخرين الذين تختلف معهم.
من حقِّك أنْ ترفض أداءهم إذا اعتمدت أدوات العلم في الرَّفض، وأمَّا أنْ تتَّهم الدَّوافع التي في داخلهم، فهذا ما لا تملك إليه سبيلًا، فالدَّوافع موقعها النِّيَّة في الدَّاخل، ولا يمكن اكتشافُها بسهولةٍ.
•﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ (سورة الحجرات: الآية 12).
•وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): “إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا …” (ميزان الحكمة 1/390، محمَّد الريشهري).
•وقال الإمام عليٌّ (عليه السَّلام): “لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَة خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سَوءًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلًا” (نهج البلاغة، الصَّفحة538، تحقيق: صبحي الصَّالح).
من أخطر ما يواجه الواقع السِّياسيَّ في أغلب البلدان هو اتِّهام الكلمة التي تمارِس نقدًا سياسيًّا، أو تدعو إلى إصلاحٍ سياسيٍّ، أو تحاسب أخطاءً سياسيَّة، أو ترفض سلوكًا سياسيًّا، سواءً أكان هذا السُّلوك سلوك أنظمة حاكمة، أم سلوك شعوب، أم سلوك قوى سياسيَّة.
فليس كلُّ نقدٍ لسياسات الأنظمة الحاكمة هو تحريض، وتأزيم، وتأجيج، وخيانة، وعبث، بأمن الأوطان، وإنتاج للفتن، ودعوة للتَّمرُّد، فما أكثر ما تكون الكلمةُ النَّاقدةُ لسياسات الأنظمة مخلصةً كلَّ الإخلاص للأوطان، وصادقةً كلَّ الصِّدق مع الأنظمة، ومحبَّةً كلَّ الحُبِّ للشُّعوب.
وكذلك ليس كلُّ نقدٍ لقوى المعارضةِ، ولحركاتِ الشَّارع هو اصطفافٌ مع الأنظمةِ ضدَّ الشُّعوب، وهو إساءةٌ لمطالبِ النَّاسِ العادلة، فما أكثر ما تكون الكلمةُ النَّاقدةُ لتلك القوى والحركات هي الأخلص، والأصدق مع الشُّعوب.
المطلوب من الكلمةِ السِّياسيَّة النَّاقدة:
-أنْ تملك درجةً عاليةً من الرُّشد، والبصيرةِ.
-ودرجة عاليةً من الصِّدق، والأمانةِ، والنَّظافةِ.
-ودرجة عاليةً من الحُبِّ للأوطان والشُّعوب.
-ودرجة عاليةً من الجرأة، والشَّجاعة.
-ودرجة عاليةً من المرونةِ، والتَّسامح.
فهذا يعني:
-أنْ لا تنزلق الكلمةُ في متاهاتٍ، وأهواء، ومزادات السِّياسة.
-وأنْ لا تبحث عن شُهرةٍ، ومواقع، وأغراضِ دنيا، وشهوات نفسٍ.
-وأنْ لا تنزعَ إلى نَزَقٍ، وطيشٍ، وغرور، واستعلاء.
-وأنْ لا تكون أداةَ عبثٍ، وفسادٍ، وفتنةٍ، وعنفٍ، وتطرُّفٍ.
-وأنْ لا تسقط، ولا تضعف، ولا تُساوم على المبادئ.
-وأنْ لا تتمرَّد على ضوابط الدِّين، والشَّرع.
-وأنْ لا تخونَ مقدَّسات الوطن.
كلمة أخيرة: الحكم على سماحة السيد مجيد المشعل
بقلق شديد تلقَّينا خبر الحُكم على سماحة السَّيِّد مجيد المشعل، وآخرين، وكم تمنَّينا أنْ تُعالج الأمور بلغةٍ أخرى، فما أحوج الوطن في هذه المرحلةِ إلى خيارات لا تدفع في اتِّجاه التَّوتُّر، بل تُكرِّس أجواء التَّهدئة، والاستقرار، وتفتح آفاق المحبَّة، والتَّآلف.
إنَّ استدعاءات ومحاكمات عددٍ من علماء الدِّين أمرٌ ضارٌّ بسمعةِ هذا الوطن، هذه السُّمعة التي تهمُّ كُلَّ غيور لا يريد لهذه الوطن الشَّرَّ، والسّوءَ، بل يُريد له الخير، والهناء.
نتمنَّى أنْ تكون القرارات غير هذه القرارات، والخيارات غير هذه الخيارات.
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين.