حديث الجمعة 425 : الزَّهراءُ القدوةُ في العِفَّةِ والسِّتر (4)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين، وبعد فلا زال الحديث مستمرًا حول هذا العنوان:
الزَّهراءُ القُدْوةُ في العِّفةِ والسِّتر [4]:
تطرقت الكلمةُ فيما تقدَّم وبشكلٍ عاجلٍ إلى (مسألة الأحوال الشخصية)، وهذا الموضوع في حاجةٍ إلى إشباعٍ أكثر؛ كونه موضوعًا في غايةِ الخطورةِ والحساسية، وكون الأحكامِ الخاصةِ بشؤونِ الأسرةِ تُشكِّلُ أحدَ المفاصلِ الرئيسةِ في الشريعة الإسلامية كما قرَّر ذلك علماءُ الفقه.
صنَّف الفقيهُ الكبيرُ الشهيدُ السَّيدُ محمد باقر الصَّدر أحكامَ الشريعة إلى أربعةِ مفاصل:
(1) العبادات وتنتظم مجموعة عناوين: الصَّلاة، الصيام، الاعتكاف، الحج والعمرة، الكفارات…
(2) الأموال العامة كالزكاة والخمس…
والأموال الخاصة بالأفراد…
(3) السُّلوك الخاص: ويضم هذا المفصل مجموعة عناوين، ومن أهمها ما يرتبط بتنظيم علاقاتِ الرجل بالمرأة، وجميع شؤون الأسرة.
(4) السُّلوك العالم ويعالج هذا المفصل شؤون الحكم والدَّولة والقضاء والحدود والجهاد…
يتبيَّن من هذا التقسيم أنَّ أحكامَ الأسرة تشكِّل مفصلاً رئيسًا في منظومة الشريعة الإسلامية، ممَّا يفرض علينا أنْ نعطيها اهتمامًا كبيرًا وأنْ نسيِّجها بسياجاتٍ صلبة تحميها في مواجهة كلِّ محاولاتِ الاختراقِ والسَّطوِ والهيمنةِ والعبثِ، خاصة في هذا الزَّمنِ الَّذي نشطتْ فيه مشروعاتُ الغزو الثقافي بما تحمله هذه المشروعاتُ من أهدافٍ خطيرة ترمي إلى فصل المسلمين عن دينهم وقيمهم وثقافتهم، وواحدة من هذه المشروعات العبث بأحكام الأسرة، كونها تشكِّل شأنًا مركزيًا في حياة الإنسان المسلم، فأيّ عبث بها ينتج إرباكًا خطيرًا في كلّ الواقع الاجتماعي.
من هنا كانت الريبية شديدة تجاه صيحاتِ (التقنين) لأحكام الأسرة، ليس لأنَّنا نحمل عقدة تجاه مصطلح (التقنين) وإنَّما وراء الأكمة ما وراءها، قد يُقال: بأنَّه يظهر من كلامكم أنَّكم تعتبرون دعاة (التقنين) يمارسون عَبَثًا بأحكام الأسرة.
لا يصح لنا أنْ نتَّهم كلَّ دعاة التقنين بأنَّهم يمارسون عبثًا وسطوًا وهيمنةً، فلا نشك أنَّ عددًا من هؤلاءِ ينطلقون من قناعاتٍ بضرورة معالجة أوضاع الأسرة، وخلافات الأزواج والتي أصبحت تشكِّل هاجسًا صعبًا ومُقلقًا في مجتمعاتنا، بفعل تراكم القضايا في المحاكم الشرعية، ممَّا أنتج أزماتٍ صعبةً خلَّفتْ الكثير من المشاكل التي طالت الأسرَ والعوائل والأزواج والزوجات والأولاد.
ولا نشك كذلك – حسب معطياتٍ ظاهرةٍ صريحةٍ – أنَّ عددًا ليس قليلاً ممَّن يحملون حماسًا كبيرًا في الدِّفاع عن قضايا المرأة هم ضمن مشروعاتِ (الاختطافِ لملف الأسرة)، وليس هذا رَجْمًا بالغيب، فقد تجرَّأ ناشطون وناشطات حملوا شعار التقنين في عددٍ من دول المسلمين، تجرَّأوا على الدَّعوةِ المكشوفةِ إلى إلغاء بعض أحكام الشَّريعة وهي من المسلَّمات الفقهية لدى المسلمين، وذريعتهم في ذلك أنَّها لا تساوي بين الرجل والمرأة، كمسألة القوامة للرجل، وحقِّ الطلاق، ومسألة التفاوت في الميراث، ومسألة الشهادة التي جعلتْ الرجل يعادل امرأتين، والدعوة إلى إباحة الإجهاض، دون أنْ يفهموا فلسفة ومعطياتِ ودلالاتِ ما جاء في الشريعة الإسلامية من أحكام.
ولقد كتب العلماء كتبًا وبحوثًا ودراساتٍ مُفصَّلةً عالجوا فيها كلَّ الإشكالاتِ والشبهات خاصة فيما يتصل بقضايا المرأة.
إنَّ في الإسلام أرقى منظومة حقوقية للمرأة، وإذا أردنا أنْ نتحدَّث عن المرأة – الزوجة – فيكفى أنْ نقرأ هذا النص القرآني ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وهو ليس (توجيهًا أخلاقيًا) فحسب بل هو (تشريع صارم جدًا) لا يقبل الاستثناء.
(المعروف) الذي أكَّد عليه هذا النص هو عنوانٌ يمثل خطًا ثابتًا في علاقة الرَّجل بزوجته، يمتد لكلِّ مساحاتِ هذه العلاقة.
1-إنَّه يفرض على الرجل أن يحترم الزوجة في مشاعرها وعواطفها وأحاسيسها النفسية والوجدانية.
2-إنَّه يفرض على الرَّجل احترام الزَّوجة في تفكيرها وإرادتها، ما لم يكن ذلك في الاتجاه المنحرف شيئًا.
3-إنَّه يفرض على الرَّجل أنْ يحترم الزَّوجة في شخصيتها المستقلة ضمن الضوابط الشَّرعية.
4-إنَّه يفرض على الرَّجل أنْ لا يمارس أيَّ شكلٍ من أشكال الإساءة إلى الزَّوجة.
5-إنَّه يفرض على الرَّجل أنْ لا يفرِّط في أيِّ حقٍّ من حقوق الزَّوجة.
6-إنَّه يفرض على الرَّجل أنْ يعفو عن الزوجة إذا أخطأت، وأن يكون متسامحًا معها.
وهكذا ما أكَّدته أيضًا الأحاديث والروايات:
أذكر هناك حديثًا واحدًا عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حيث قال:
«أحسنُ النَّاسِ إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا وألطفُهم بأهلِهِ وأنا ألطفكم بأهلي».
هنا يطرحُ النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) معيارين للأفضلية الإيمانية:
المعيار الأول: حُسْنُ الخُلُقِ.
المعيار الثَّاني: اللطفُ بالأهلِ (الزَّوجة).
ونستفيد من هذا الاقتران بين (حسن الخلق) و(اللطف بالزوجة) مجموعة معطيات:
(المُعطى الأول): إذا كُنَّا نقرأ في الروايات هذه المقاطع: «الإسلام حُسنُ الخلق» و«الخُلُقُ الحَسَنُ نصفُ الدِّينِ» و«عنوانُ صحيفةِ المؤمنِ حُسْنُ الخُلُقِ» و«حُسْنُ الخُلُقِ رأسُ كلِّ بِرٍّ».
ولما كان (اللطف بالأهل) مقترنا بـ (حُسْنِ الخُلق) في الحديث المتقدِّم، فهذا يعني أنَّ (اللطفَ بالأهل) يقترن بكلِّ العناوين الآنفة.
(المُعطى الثاني): إذا كنَّا نقرأ في الروايات:
«أنَّ الله تبارك وتعالى ليُعطي العبدَ مِن الثوابِ على حُسْنِ الخُلُقِ كما يُعطي المجاهدَ في سبيل الله يغدو عليه ويروح».
ولما كان (اللطف بالأهل) مقترنًا بـ (حُسْنِ الخلق) فهذا يعني أنَّ (اللطفَ بالأهلِ) يقترنُ بهذا العطاء الكبير (عطاء الجهاد في سبيل الله).
(المُعطى الثَّالث): وإذا كنَّا نقرأ في الروايات أنَّ «مَنْ حسَّنَ خُلَقَه بلَّغهُ الله درجة الصائم القائم» فهذا يحظى به مَنْ كان لطيفًا بأهله.
(المُعطى الرابع): وإذا كنَّا نقرأ في الروايات أنَّ «أول ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة حسن خُلُقِهِ»، وفي هذا السِّياق يأتي (اللّطفُ بالأهل).
(المُعطى الخامس): وإذا كنَّا نقرأ في الرِّوايات أنَّ النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال:
«إنَّ أحبَّكم وأقربَّكم منِّي يوم القيامة مجلسًا أحسنُكم خلقًا وأشدُّكم تواضعًا».
وقال (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) لأمير المؤمنين (عليه السَّلام):
«ألا أُخبرك بأشبهِكُمْ بي خُلُقًا؟ قال: بلى يا رسول الله. قال (صلَّى الله عليه وآلِهِ): أحسنُكم خُلُقًا، وأعظمكم حِلْمًا، وأبرُّكم بقرابتِهِ، وأشدُّكم مِن نفسِهِ إنصافًا»، وهذه المقامات العظيمة لن تخطأ أولئك الَّذين يعيشون اللطفَ والبرَّ وحُسْنُ الخُلْقِ مع زوجاتهم.
هذا هو مُستَوى تعاطي شريعةِ الله الممثَّلة في الإسلام مع (المرأة – الزوجة)، وأمَّا مستوى التعاطي مع (المرأة الأم) و(المرأة البنت) و(المرأة الأخت) و(المرأة القريبة) و(المرأة الإنسان) فتوجيهات الشريعة مشدَّدة ومغلَّظة.
فتِّشوا – بربِّكم – عن أرقى ما وصل إليه عقلُ البشرِ في هذا العصرِ، وعن أرقى (الوثائق الحقوقية) و(أرقى المدوَّناتِ والقرارات) الخاصة بشؤون المرأة وشؤون الأسرة، فما عساها تبلغ، إذا قورنتْ بما قرَّرتْهُ (شريعةُ الله)؟
إنَّه من السَّفَهِ كلِّ السَّفَهِ أنْ يتجرَّأ أحدٌ ليمارس مقارنةً بين تشريعاتٍ صادرةٍ عن عقولٍ بشريةٍ قاصرةٍ عاجزةٍ وتشريعاتٍ صادرةٍ عن خالقِ الإنسان، عن اللهِ العالمِ الحكيم البصير.
لا نريد أنْ نتنكر لإبداعاتِ العقلِ البشري وهي رشحةٌ من رشحاتِ الإبداع الإلهي، فعقل الإنسان في مجال الطبيعة قطع أشواطًا كبيرةً، وإنْ كانَ لا يزال يحبو في مساره نحو اكتشافِ أسرارِ الكون والطبيعة والإنسان.
وأمَّا قدراتُه في مجالاتِ التشريع لا زالتْ متعثرةً ومرتبكةً، فرغم الإنجازات في قضايا (حقوق الإنسان) وقضايا (الحرِّيات والأمن والسلم والقوانين والمواثيق) وقضايا (التطرف والعنف والإرهاب) وقضايا أخرى كثيرة…
رغم كلِّ الإنجازات لا زالتْ تشريعاتُ الإنسانِ تتخبَّط، وتتعثَّر، وتتغيَّر، وتتبدَّل، ممَّا أنتج مزيدًا من الأزماتِ والتعقيداتِ والإرباكاتِ حتى أصبحت حياة البشر في هذا العصر (حياةَ أزماتٍ فكريةٍ ونفسيةٍ وأخلاقيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ وأمنيةٍ… إلى آخر الأزماتِ…).
وفي زحمةِ هذه الأزماتِ أصابتْ قضايا المرأة في العالم الكثير من التعقيداتِ والإرباكاتِ وعُقدتْ مؤتمراتٌ تلو مؤتمراتٍ، وصدرتْ وثائق تلو وثائق، وقراراتٌ تلو قراراتٍ، ولا زالتْ المرأةُ حتى في أرقى الدّولِ تبحثُ عن (هُويَّتِها الضَّائعةِ)، فقد أغرقتْها مدنيةُ هذا العصرِ في دُنيا اللذائذِ والشَّهواتِ والمنكراتِ والموبقات، ممَّا زادَ في ضياعِها وغربتِها وحيرتِها.
واستورد سَماسِرةُ التغريبِ في مجتمعاتِ المسلمين بعضًا من ذلك (العفن) والَّذي أسموه مَدنيَّةً، وحضارةً، وتقدُّمًا، وتحرُّرًا، وتنوُّرًا، وبشَّروا به نِسَاءَ أمَّتِنَا واللواتي وَصَفُوهنَّ بالتخلُّفِ، والجهل، والانقيادِ للتقاليد والعاداتِ الموروثةِ، وكان الشعار الكبير الذي رفعه أولئك المأسورون هو (الدِّفاع عن قضايا المرأة) وهو عنوانٌ جذَّاب، استطاع أنْ يقتحم مساحاتٍ ليست صغيرة، خاصة والمرأة في عالمنا تعاني من أوضاعٍ ليست ناتجةً عن ثقافة الدِّين، وإنَّما أنتجها جهلٌ بالدِّين، وتمرُّدٌ على أحكامِهِ، وقيمِهِ، وتعاليمِهِ، أنْ نُحمِّلَ الدِّينَ ودُعَاةِ الدِّين مسؤولية الكثير من الأوضاع السَّيئة التي تعاني منها المرأة هي كِذبةٌ مفضوحةٌ تروّج لها وسائلُ مدفوعة الأجر من قبل جهات تعادي الدِّينَ وحملةَ الدِّين…
لستُ هنا في صدد الحديث عن (مشروعات الاختراق والتغريب) في بلدان المسلمين وتحت مُسمَّياتِ (جمعيات) و(مؤسَّسات) و(منظَّمات)، وإنَّما ما أردت تأكيدَهُ هنا أنَّه من الظلم كلّ الظلم أنْ نحمِّل الدِّينَ ودُعاةَ الدِّين الحقيقيين مسؤولية بعض الأوضاع السَّيئة التي تعانيها المرأة في بلدان المسلمين، المسؤولية يتحملها كلُّ الَّذين يعملون على تجهيل المرأة دينيًا، وكلُّ الَّذين يعملون على إضعافِ الالتزام بالدِّين عن المرأة، وكلُّ الذي يعبثون بقيم الطهرِ والعفةِ والسِّتر عند المرأة، وكلَّ الَّذين جعلوا من أنفسهم سماسرة لتسويق ثقافة التغريب والضياع والفسق والفساد…
وتبقى الضرورة قائمة لإصلاح أوضاع المرأة وفق منظور الشريعة، وليس وفقَ أيّ منظور آخر، والحديث عن إصلاح أوضاع المرأة لا يقتصرُ على مقاربة مشاكل الأسرة، والعنف الذي تتعرض له الزوجة، وقضايا الطلاق والخلافات رغم كلّ الأهمية لهذه المساحات من حياة المرأة، بل لا بدَّ من مقاربة كلّ مساحات الظلم الذي يطال المرأة ومن أبرزِ هذه المساحاتِ وأخطرها (الظلم السِّياسي والأمني والحقوقي) الَّذي تعاني منه المرأة في العديد من بلدان المسلمين.
فإذا كانت منظمات الدفاع عن قضايا المرأة في دولنا العربية والإسلامية تصرخُ مطالبةً بإيقاف عُنفِ الرجل ضدَّ المرأة فهذه صرخةٌ مشروعةٌ جدًّا، وهذه صرخةٌ مُحقَّةٌ ومطلوبةٌ…
ولكن لماذا لا نسمع صرخاتِ هذه المنظماتِ والجمعياتِ ضدَّ أشكالِ العنف السِّياسي والعنف الأمني وهو أقسى وأضرى من عنف الرَّجل ضدَّ المرأة.
فما دامتْ هذه المؤسَّساتُ والجمعياتُ تحمل شعار الدفاع عن قضايا المرأة، فلا مُبرِّر أنْ تصمتَ وتتغافل عن بعضِ مواقع الظلم في مساحاتٍ بالغةِ الأهمية، فالمرأة كما هِيَ زوجةٌ، هِيَ أمٌّ، وهِيَ بنتٌ، وهِيَ أنثى في كلِّ المواقع، وهِيَ المنتمية إلى وطنٍ، لها كلُّ حقوقِ المواطنةِ، كما أنَّ عليها كلَّ مسؤولياتِ الانتماءِ إلى الوطن…
وفي الختام أطرح هذا السُّؤال تاركًا الإجابةَ إلى لقاء آخر إنْ شاء الله تعالى، والسؤال هو:
•ألَا يُشكِّلُ غيابُ قانونِ الأحوالِ الشخصية بالنسبةِ لهذا المذهب أو ذاك تفريطًا صارخًا بحقوقِ المرأة؟