حديث الجمعة 424: الزَّهراءُ القدوةُ في العِفَّةِ والسِّتر (3) – كلمة أخيرة
بسم الله الرحمن الرّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين، فيستمر الحديث حول هذا العنوان:
الزَّهراءُ القُدْوةُ في العِفَّة والسِّتر [3]:
وقفتْ الكلمةُ عندَ (مسألةِ التبرُّج) والَّذي حَذَّرتْ منه الآية [33] من سورة الأحزاب حيث قالت: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ وتوحي هذه الآيةُ بوجودِ جاهلياتٍ أخرى، ولعلَّ الجاهليةَ المعاصرةَ هي أسوءُ الجاهلياتُ.
فإذا كان تبرُّج الجاهلية الأولى يعني أنْ تُلقي النِّساءُ خُمرهُنَّ عن رؤوسِهنَّ بحيث كانَ يظهر جزءٌ من صدورِهنَّ ونحورِهنَّ وقلائِدِهنَّ وأقراطِهنَّ…
فكيف هو تبرُّجُ جاهليةِ هذا العصر؟
فما عادت المرأة المتبرِّجةُ في عصرِنا الحاضرِ تكتفي بأنْ تظهر جزءًا من صدرِها ونحرِها وقلائدِها وأقراطِها…
بل أصبحت أشبه بالعارية، هذا إذا لم تَتَعدَّ ذلك لتصبح عاريةً تمامًا، وفي العالم اليوم نوادي للعُراة من الجنسين…
هكذا بلغ طيشُ جاهليةِ هذا العصر، وهكذا أصبحَ العبث بكرامةِ المرأة وعفَّتِها، في وقتٍ ترتفعُ الشعارات الكاذبة في الدِّفاعِ عن حقوق المرأة.
إنَّ قضيةَ المرأةِ في هذا العصر تعيشُ (شعاراتِ المزايدة) وهي (مزايداتٌ إعلاميةٌ).
المسألةُ ليست مسألةَ شعاراتٍ، وليست مسألةَ عناوين، المسألةُ كم هي صدقيةُ هذه الشِّعاراتِ؟، وكم هي صدقيةُ هذه العناوين؟، والمسألة ما هو الفهم المطروح لحقوق المرأة؟…
وحينما نتحدَّثُ عن (فهم) في مجتمعاتنا الإسلامية فإنَّنا نتحدَّث عن فهمٍ ينسجم مع رؤية الإسلام، ومع قيم الدِّين.
إنَّنا نصرُ على رفع شعارِ المطالبةِ بحقوق المرأةِ وشعارِ الدِّفاعِ عن قضايا المرأةِ، ولكنَّنا نرفضُ كلَّ الرفضِ أنْ يكون هذا الشِّعار خارجَ رؤيةِ الإسلام والدِّينِ، كون المرأة في مجتمعاتنا تنتمي إلى الإسلام، وتحملُ هُويةَ الدِّين، فالمشروعات التي تتبنَّى قضايا المرأة في أوطانٍ المسلمين يجب أنْ تستمد مكوِّناتِها من الإسلام، وقيم الدِّين، وإلَّا فهي مشروعاتٌ مرفوضةٌ ودخيلة على هذه الأوطان.
وربَّما يقول هؤلاءِ النَّاشطون أو النَّاشطاتُ في الدِّفاعِ عن قضايا المرأة في بلدانِنا: إنَّنا ننطلقُ من مسؤولياتِنا الوطنيةِ، ومن خلالِ ما أقرَّتْهُ وثيقةُ حقوقِ الإنسانِ العالمية، وفي ضوء ما جاء في الدساتير والمواثيق مِن ثوابت تؤكِّد المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوقِ والواجبات…
نقولُ لهؤلاء:
وإنْ كنَّا نحترم هذه العناوين والمنطلقات، إلَّا أنَّ هذا الاحترام مرهونٌ بمدى الانسجام والتلاؤم مع مقرَّرات الدِّين والشريعة، فلا يصح لنا – كمنتمين للدِّين والإسلام- أنْ نحترم أيَّ عنوان وأيَّ منطلق إذا كانَ هذا العنوان أو هذا المنطلق يتنافى مع ثوابت الشريعة وقيم الدِّين ومبادئ الإسلام.
لذلك فنحن حينما نطرح قضايا المرأة، وحينما ندافع عن حقوق المرأة فإنَّ خطابنا ينطلق من:
-نصوص القرآن.
-وروايات السُّنة.
-ومسلَّمات الفقهِ والشريعة.
-ومسؤولياتنا الشرعية وواجبنا الدِّيني.
فالفارق بين الخطابِ الدِّيني والخطاب الآخر أنَّ الأول يتحدَّث بلغة الدِّين والشَّرع، والآخر يتحدَّث بلغة أخرى.
قد يقال: هل يعني هذا أنَّكم تَدعون إلى أسلمة القوانين؟
لا نعتقدُ أنَّ هناك مُسلمًا صادقًا في انتمائِهِ إلى الإسلام لا يَرغبُ في أنْ يرى أحكامَ الله مُطبَّقة، وأنَّ شريعةَ اللهِ حاكمةٌ، وأنّ قيمَ الدِّين سائدةٌ…
غير أنَّنا هنا لسْنَا بصددِ الحديثِ عن (الأسلمةِ) أو (عدمِ الأسلمةِ)؛ فهذا موضوعٌ له تعقيداتُه، وإشكالاتُهُ، وجدليَّاتُهُ…
لكنَّنا مِن حقِّنا أنْ نقول: إنَّ دساتيرَ دُوُلِنَا تتصدَّرها هاتان المادتان:
المادةُ الأولى: الإسلامُ دينُ الدَّولةِ الرَّسمي.
المادة الثَّانية: الشريعةُ الإسلاميةُ المصدر الرئيس للتشريع أو مصدرُ رئيس للتشريع أو مصدر التشريع والفرق واضح بين هذه التعبيرات…
فما هو التطبيق العملي لهاتين المادتين؟
لستُ بصددِ محاسبةِ ما تزدحمُ به دُوُلنا من تشريعاتٍ تتناقضُ بشكلٍ صارخٍ مع هاتين المادتين، هذا الأمر أتركُهُ للقائمين على وضع التشريعات في دُوُلِنا الإسلامية…
ما يُعنيني هنا هو القول:
إنَّنا حينما نتحدثُ عن (قضايا المرأة) من خلال (منظور الدِّين والشرع) فيجب أنْ لا يستثير هذا حفيظة أولئك الَّذين حملوا (شعارات الدِّفاع عن حقوق المرأة) فليسُوا أكثر غيرةً على المرأةِ من الدِّين ومن حَمَلةِ الدَّينِ…
وليسوا أكثر فهمًا بأحكام اللهِ من الفقهاءِ والعلماءِ وأصحاب الاختصاص…
ثمَّ ماذا حقَّقتْ شعاراتُهم للمرأةِ؟
قالوا: إنَّنا نريدُ النهوض بواقع المرأة الثقافي والاجتماعي والسِّياسي…
هذا عنوانٌ جميل جدًا، لا نختلف معهم عليه، ولكن السؤال المطروح: كيف يجب أنْ نفهم النهوض؟
دعونا نحلِّل هذا السؤال إلى أكثر من تساؤل:
•التساؤلُ الأولُ: هل أنَّ التبرُّجَ والتبذُّلَ والتخلِّي عن العفَّة والسَّتر هو جزءٌ من مشروعِ النهوض بالمرأة؟
في منظور الدِّين هذا يُشكِّل هُبُوطًا وانحدارًا وضياعًا وتخلُّفًا وانحرافًا..
وفي منظور بعضِ حَمَلةِ تلك الشعارات هذا يُشكِّل رُقيًّا، ونُهوضًا، وتحضُّرًا، وتقدُّمًا…
فنحن أمام منظورين مختلفين في فهم مشروع النهوضِ بالمرأة، وأمام رؤيتين متباينتين، وأمام نهجين متعارضين…
•التساؤل الثاني: هل أنَّ توظيفَ قُدُراتِ المرأةِ في مجالاتِ ما يُسمى بالفنِ كالغناء والرقص والموسيقى والمسرح يقع في سياقِ مشروعاتِ النهوضِ بالمرأةِ؟
المنظورُ الإسلامي يرفض كلَّ ألوانِ الفنِ الهابط كالغناء الشايع في هذا العصر، والرقصُ الفاسقُ كما هو في الحفلات الماجنة، والموسيقى اللاهية التي تدمِّر القيم والأخلاق، وغير ذلك ممَّا أنتجته حضارةُ العُهرِ والدَّعارة…
أمَّا في منظورِ بعض أصحاب الشعارات، فتعتبر الكثيرُ من هذه الألوانِ التي يسمُّونها فنًا مظاهر حضاريةً، متقدِّمًة، وقيمًا راقيةً، وجزءًا من مسارات النهوض بالمرأة…
وهكذا تتناقضُ الرؤيتان، ويتباين المنظوران، ويتعارض الفهمان…
•التساؤلُ الثالث: إذا كانَ (الاختلاط) يُشكِّلُ أحدَ مظاهِر الحياة في هذا العصر، فكم هو مستوى الاقتناعِ لدى (دُعاةِ النهوض) بضرورة الالتزام بضوابطِ الشَّرعِ التي يجب أنْ تحكم هذا الاختلاط؟
بلا إشكال إنَّ هؤلاءِ يَرونَ أنَّ هذه الضوابط الشرعية تعتبر من معوِّقات النُهوضِ، ومن عواملِ التخلُّف، ومن أسباب الجمود…
في حين يرى الدِّينُ أنَّ تلك الضوابط تشكِّل سياجاتٍ ومحصِّناتٍ تحمي القيمَ والمُثُلَ والفضيلة وتمثِّل أحد أهم مكوِّنات النهوض الحقيقي.
فكم هي المساحة كبيرةٌ جدًا بين الرؤيتين، وبين القناعتين، وبين الاتجاهين.
•التساؤلُ الرَّابع: من أجلِ النهوضِ بالمرأة أُسَريًا واجتماعيًا وسياسيًا هناكَ (منظومةٌ حقوقيةٌ للمرأة) فكم هو التوافقُ أو الاختلافُ بين رؤية الدِّينِ وتلك الرُؤى الأخرى التي حملتْ شعارَ (الدِّفاعِ عن قضايا المرأة) ومن خلالِ عناوينَ كبيرةٍ، وعباراتٍ مثيرةٍ…
في الإسلامِ منظومةٌ حقوقيةٌ متكاملةٌ استوعبْت كلَّ حاجاتِ المرأةِ وضروراتِها، وكلَّ حقوقِها الأُسَريةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والسِّياسيةِ، وكلَّ مساحاتِ حياتِها وشؤونها، ولستُ هنا بصددِ الحديثِ عن هذه المنظومةِ الحقوقيةِ الإسلامية.
أمَّا الرُؤى الأخرى بكلِّ عناوينها وشِعاراتِها فمنظوماتُها الحقوقيةُ الخاصةُ بالمرأة، وعلى الرَّغمِ من كلِّ الدِّعاياتِ التي تروّج لها عبر كلِّ الأدواتِ الإعلامية المتوفِّرةِ، فهي منظوماتٌ فيها الكثيرُ من القصورِ والنقصِ والفشلِ والتخلفِ والارتباك.
ومن الطبيعي جدًا أَنْ يأتي الفارقُ كبيرًا وكبيرًا جدًّا بين تشريعاتٍ صادرةٍ عن الله سبحانه العالمِ البصيرِ الحكيم… وتشريعاتٍ صاغَتها عقولٌ محدودةٌ قاصرةٌ عاجزة…
وقد تجرأتْ هذه التشريعاتُ البشريةُ على أحكام الله، ومن المؤسفِ أنْ نجدَ في مجتمعاتِ المسلمين مَنْ يدعو إلى إلغاء نظام الطَّلاقِ، ونظام القوامة، ونظام الميراث الذي يميِّز بين الرَّجلِ والمرأةِ، كما ارتفعتْ أصواتٌ تدعو إلى إباحة الإجهاض.
قبل عشر سنواتٍ أو أكثر قرأتُ في إحدى صحفنا المحلية مقالًا لإحدى النساء البحرينيات الناشطات في مجال الدِّفاع عن قضايا المرأة، كاتبة المقال تدعو المرأة الخليجية إلى استلهامِ نِضالِ المرأة التونسية، وأشادتْ بقانون الأحوالِ الشخصية الذي أصدره في ذلك الوقت الحبيب بورقيبة…
وإنَّ مَنْ يقرأ قانونَ الأحوالِ الشخصيةِ التونسي الصادر في ذلك الوقت يجد فيه تجاوزاتٍ صارخةً لأحكامِ الشريعةِ الإسلاميةِ، ومن جملتها (إباحة الإجهاض) هذا هو إنجاز النضال الطويل والذي تدعو كاتبة المقال إلى استلهامِهِ، وتتمنى للمرأة الخليجية أنْ تكونَ قد قطعتْ أشواطَها الطويلة في الوصولِ إلى هذا الإنجاز الكبير…
من هنا كان موقف العلماء ولا زال هو التحذير من محاولاتِ الهيمنة على الأحكام الشرعية من خلال (التقنين) للأحوال الشخصية على يد غير متخصِّصين.
لسنا مع الفوضى في التعاطي مع أحكام الأسرة، ولسنا مع التسيّبات في معالجة قضايا الخلافات الزوجية، ولسنا مع أيِّ اعتداء على كرامة المرأة مهما كان شكل هذا الاعتداء إلَّا أنَّ لنا رؤيةً سَبَقَ وأنْ أعلناها وأوصلناها للجهاتِ المسؤولة، والأمر ليس تعنُّتًا، ولا تعصُّبًا، ولا رغبةً في المناكفة والمعارضة، الأمر في غاية الخطورة كونه يَمسُّ قضايا الأعراضِ، فيما هي أحكام الزَّواجِ والطلاق، ويمسُّ الشأنَ في مسائل الأنساب، ومسائل الميراث…
ثمَّ إنَّ لكلِّ مذهب خصوصياتِه في هذه القضايا والمسائل، فلا يسمح لغير فقهاء المذهب أنْ يقولوا كلمتهم في هذا الشأن، ولا يصح أنْ تُعطى المؤسَّساتُ الوضعية صلاحية إبداء الرأي الفقهي أو ترجيح رأي على رأي، إنَّ هذا من اختصاص الفقهاءِ المعتمدين لدى أبناءِ هذا المذهب أو ذاك.
لنا عودةٌ إلى هذا الموضوع إنْ شاء الله، فهو في حاجة إلى المزيد من التفصيل والتوضيح وإلقاء الضوء على أبعاده المتعددة، خاصة وأننا نقرأ كلمات هناك أو هناك تطالب بإقرار (قانون الأحوال الشخصية) فيما يسمونه (الشق الجعفري) والمسألة ليست مزايدات إعلامية، المسألة ما هو الموقف الذي يفرض التكليف الشرعي بعيدًا عن كلِّ المزايدات والمتاجرات أو تصفيق النَّاس.
كلمة أخيرة:
لقد صدر عن عدد كبير من العلماء بيان أكَّدوا فيه على مجموعة أمور تصبُّ في مصلحة الوطن، ولا تهدف إلى أيّ تأزيم أو تعقيد، وأهم ما جاء في هذا البيان:
أوَّلًا: إنَّ العلماء وكذلك أبناء هذا الشعب ما طالبوا ولن يطالبوا بدولةٍ مذهبيةٍ أو بدولةٍ ذات صبغة فقهية محسوبة على مذهب معيَّن.
ثانيًا: المطلب الأساسُ لهذا الشعب أنْ يتحقق إصلاحٌ حقيقي في هذا الوطن، بما يعنيه هذا الإصلاح من دلالاتٍ واضحةٍ كلّ الوضوح، ومن مكوِّناتٍ صريحة كلّ الصراحة.
وأكَّد البيان: أنَّ حقّ التساوي في المواطنة بلا تمييز بين الطوائف والمذاهب والمكوِّنات مطلب شعبي يعزِّز روح المحبَّة والتسامح والتآلف والتقارب.
ثالثًا: المطلب الإصلاحي هو تعبيرٌ عمَّا جاء في الميثاق الوطني، وعمَّا أكَّدته الوعود الرسمية (الشفهية والمكتوبة) التي سبقت وصاحبت التصويت على الميثاق، وهو كذلك ما تقتضيه المواثيق الدولية وتدعو إليه، وهذا ما لا تنكر الحكومة حقَّانيته.
رابعًا: الشعائر الدينية والمذهبية لا يجوز المساسُ بها إطلاقًا، ومسؤولية الدَّولة بكلِّ سلطاتها وأجهزتها أنّ تحمي هذ الشعائر وتحافظ عليها، هذا ما أكَّد عليه الميثاق الوطني والمواثيق الدولية وهو حقٌّ لا يمكن التنازل عنه بأيّ شكل من الأشكال.
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين.