حديث الجمعة 420: الحديث عن العَصَبيَّة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين..
الحديث عن العَصَبيَّة:
العَصبيَّة نوعان: عَصَبيَّةٌ مَذْمُومةٌ، وعصبيَّة ممدوحةٌ…
وحينما تُطلقُ كلمة العَصبيَّة فيقصد بها العَصبيَّة المذمومة..
ويُعتبر إبليسُ اللعينُ هو المؤسِّسُ لهذه العَصبيَّة…
صَدَرَ الأمرُ الإلهي إلى الملائكة أنْ يَسجُدوا لآدم: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾ (سورة الأعراف / آية 11)
فاستجابَ الملائكةُ طائعينَ ﴿فَسَجَدُواْ﴾ (سورة الأعراف / آية 11)
إلَّا أنَّ إبليسَ استكبرَ وأبى وتمرَّدَ وعَصَى ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ (سورة الأعراف / آية 11)
فخاطبه الله سبحانه: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾(سورة الأعراف / آية 12)
فأجابَ بكلِّ وقاحةٍ وغرورٍ واستعلاءٍ وعصبيَّةٍ: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾(سورة الأعراف / آية 12)
وكانَ مَصِيرُهُ الخزيَ والطردَ والحرمان: ﴿فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ (سورة الأعراف / آية 13)
• في كلمةٍ لأمير المؤمنين (عليه السَّلام) –يَذمُّ إبليسَ-:
(فافتخر على آدمَ بخَلْقِهِ، وتعصَّبَ عليهِ لأصلِهِ، فعدوُ اللهِ إمامُ المتعصِّبين وسَلَفُ المستكبرين، الذّي وضَعَ أساسَ العَصَبيَّة).
الإمامُ زينُ العابدينَ يَضَعُ مِعْيَارين للعَصبيَّةِ المذمومةِ:
• سُئِل الإمامُ زينُ العابدين (عليه السَّلامِ) عن العَصبيَّة فقال:
(العَصَبيَّةُ التّي يَأثَمُ عليها صَاحبُها أنْ يرى الرَّجلُ شِرار قَوْمِهِ خيرًا مِن خيارِ قومٍ آخرين، وليست مِن العَصَبيَّة أنْ يُحبَّ الرَّجلُ قَومَهُ، ولكنْ مِن العَصَبيَّةِ أنْ يُعِينَ قَومَهُ على الظُّلْمِ).
هنا يضعُ الإمامُ زينُ العابدينَ (عليه السَّلام) معيارين للعَصَبيَّةِ التي يأثم عليها صاحبُها:
المِعيار الأول: أنْ يرى الرجلُ شِرارَ قومِهِ خيرًا مِن خِيارِ قومٍ آخرين.
المِعيار الثاني: أنْ يُعِينَ قومَهُ على الظُّلمِ.
وهذه بعضُ تطبيقات للتعصُّبِ المذموم:
(1) التعصُّبُ للعشيرةِ والأسرةِ والقبيلةِ:
ليس من العصبية أنْ يُحبَّ الإنسانُ عشيرتَه وأسرَتهُ وقبيلَتَهُ وليس من العصبية أنْ يدافع عن عشيرتِه وأسرتِهِ وقبيلته ما دام مُحقًا.
• قال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
(خيركم المدافعُ عن عشيرتِهِ ما لم يأثم).
ولكن من العَصبيَّة أنْ يرى شِرارَ عشيرته وأسرتهِ وقبيلتِهِ خيرًا مِن خيارِ القبائلِ والأسرِ والعشائر الأخرى.
ومن العصبيَّة أنْ يُعينَ عشيرتَه وأسرتَهُ وقبيلته على الظُّلمِ.
• قال النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
(مَنْ أعانَ ظالمًا على ظُلمِهِ جاء يومَ القيامةِ وعلى جبهتِهِ مكتوبٌ: آيسٌ مِن رحمةِ الله).
• وقال (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم):
(مَنْ مشى مع ظالم ليعينَهُ وهو يعلم أنّه ظالمٌ فقد خرج من الإسلام).
قد يقال: إنّه جاء في بعض الأحاديث: (انصُرْ أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا).
يجاب عن ذلك: بأنَّ معنى (انصر أخاك ظالمًا) أنْ تردَّه عن ظُلْمِهِ…
وأنَّ معنى (انصُر أخاك مَظْلُوما) أنْ تُعينه على أخذِ حقِّهِ، ولا تُسْلِمْهُ، ولا تخذِلْهُ…
(2) التعصُّبُ للأرضِ والوطن:
ليس من العصبيَّةِ أنْ يُحبَّ الإنسان أرضَهُ ووطنه.
• جاء في الحديث:
(حبُّ الوطنِ من الإيمان).
وليس مِن العصبيَّة أنْ يدافع الإنسان عن أرضِهِ ووطنه ما دام مُحقًا..
• قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام):
(فو اللهِ ما غُزيَ قومٌ قط في عقر دارِهم إلّا ذلُّوا).
ولكن من العصبيَّة أنْ يرى شرارَ أرضِهِ ووطنِهِ خيرًا من خيار الأوطانِ الأخرى.
ومِن العصبيَّة أنْ يُعين وطنَه على الظُّلم.
(3) التَعَصُّبُ للقوميَّةِ واللغةِ:
ليسَ مِن العَصَبيَّة أنْ يُحبَّ الإنسانُ قومَهُ ولغتَهُ.
وليس مِن العصبيَّة أن يدافع الإنسان عن قومِهِ ولغتِهِ ما دام مُحقًّا…
ولكن مِن العَصَبيَّة أنْ يرى شرارَ قومِهِ ولغتِهِ خيرًا مِن خيارِ الأقوام واللغات الأخرى…
ومِن العَصبيَّة أنْ يُعين قومَه وأبناءَ لغته على الظُّلم.
(4) التعصُّبُ للدِّينِ والمذْهبِ والطائفة:
ليسَ من العَصَبيَّة أنْ يُحبَّ الإنسانُ دينه أو مذهَبهُ أو طائفته…
وليس مِن العَصَبيَّةِ أنْ يدافع الإنسان عن دينِهِ أو مذهبِهِ أو طائفتِهِ، إنْ كانْ مُحقًّا في هذا الدفاع.
ولكن من العصبيَّة أنْ يرى شرارَ دينهِ أو مذهبِهِ أو طائفِتِه خيرًا من خيارِ الأديانِ والمذاهب والطوائف الأخرى.
ومن العصبيَّة أنْ يُعين أهل دينِهِ أو مذهبِهِ أو طائفتِهِ على الظُّلم..
(5) التعصُّبُ السِّياسي:
هناك أنظمة حاكمة متعصِّبةٌ، وهناك قُوى سياسية متعصِّبة، وتعصُّب الأنظمة لا شك هو الأخطر..
أمَّا أنظمةُ الحكمِ المتعصِّبةِ فهي أنظمة ترى أنَّ كلَّ ما يصدر عنها من سياسياتٍ، وإنْ كانت ظالمةً وفاسدةً وسيئةً هي خيرٌ وصلاحٌ وحقٌّ وعدلٌ، وأنَّ كلَّ ما يَصدُر عن القوى المعارضةِ من مواقف ورؤى وإنْ كانت عادلةً وصالحةً وخيِّرةً هي شرٌّ وفسادٌ وباطلٌ وظلم…
وفي المقابل فإنَّ القُوى السِّياسيةَ المعارضة المتعصِّبة هي قُوى ترى أنَّ كلَّ ما يصدر عنها من رؤى ومواقف وقناعات هو خير وصواب وعدل وإنصاف ولا يشوبه شرٌّ أو خطأ أو ظلم أو إجحاف، كما ترى هذه القوى أنَّ كلَّ ما يصدرُ عن أنظمة الحكم هو الشر المطلق، والظلم المطلق، والفساد المطلق مهما حمل من خيرٍ وعدلٍ وصلاح…
إنَّ هذه العصبيَّة السِّياسية هي واحدة من أفحشِ العصبيَّات وأسوئها وأخطرها…
الإنصاف السِّياسي مطلوبٌ جدًّا من أنظمة الحكم، فلا يوجد نظام كلُّه خيرٌ، ومن الظلم كلّ الظلم أنْ تعتبر الأنظمة نفسها معصومة، ولا تسمح بأيِّ محاسبةٍ أو نقدٍ أو معارضةٍ، ومن الظلم كلّ الظلم كذلك أن تعتبر أنظمة الحكم أنَّ كلَّ أشكالِ المعارضة وإنْ كانت محقَّة هو ضَرْبٌ من العبثِ والفساد، والتمرُّد، والعصيان…
والكلام كذلك موجَّهٌ إلى القُوى السِّياسية التي تمارسُ دور المعارضة، هذا الدورُ الذي يُمثل حقًّا مشروعًا ما دام محكومًا للضوابط المشروعة..
هذه القوى مطلوبٌ منها كذلك أنْ تتحرَّر من كلِّ أشكالِ التعصُّبِ السِّياسي، لكي يحقَّ لها أنْ تحاسبَ أنظمةَ الحكم على تعصُّباتِها وجُنوحاتِها ومفاسدِها، فلا توجد ممارساتٌ سياسية معارضة لا تحمل أخطاءً وكلّما استطاعتْ قوى المعارضة أنْ تراجع وأنْ تحاسب استراتيجياتها ومساراتِها وخياراتِها كانت أقدر على الثباتِ والاستمرارِ وتجاوز كلِّ الأخطاء وكلِّ المعوِّقات… وكانت أقدر على إنجازِ الأهدافِ والغايات المشروعة.
وكلّما ارتقى مستوى الإنصاف لدى أنظمة الحكم، وتواضعتْ، وسمحت لنفسها أنْ تراجعَ سياساتها، وأنْ تفتح مسامعها لكلِّ الأصواتِ الصَّادقةِ، المخلصةِ، التي لا تريدُ إلَّا الخير لأوطانها، كان هذا هو المنطلق لحركة الإصلاح والتغيير والبناء، والخلاص من كلِّ الأزماتِ السِّياسية والأمنية والاقتصادية…
وهذا سوف يدفع قوى المعارضة أنْ تبادلَ الأنظمة إنصافًا بإنصافٍ، وتواضعًا بتواضعٍ، ومراجعةً بمراجعة، وانفتاحًا بانفتاح، وثِقةً بثقةٍ، وصِدْقًا بِصْدقٍ، وإخلاصًا بإخلاصٍ…
وهكذا تتكاملُ الأدوار في إصلاح الأوطان…
ولا يعني هذا أنْ تتساوى الأدوار، وتتساوى المسؤوليات، فلا إشكال في أنَّه ما هو مطلوبٌ من أنظمة الحكم أكبر بكثير ممَّا هو مطلوبٌ من الشعب، ومن كلِّ قواه…
صحيحٌ أنّه إذا غابَ الشعبُ وغابتْ قواه لا يمكن أنْ يَنطلق أيّ مشروع للإصلاح والتغيير، إلَّا أنَّه من بيده المبادرة هي أنظمة الحكم، وإذا تعطَّلتْ هذه المبادرة تعطَّلتْ كلُّ مساراتِ الإصلاح والتغيير…
فحينما تكونُ المبادراتُ جادَّةً وصادقةً ورشيدةً فلن تتردَّد الشعوبُ، ولن تتردَّد كلُّ القوى الفاعلةِ والمخلصةِ والصَّادقةِ والرشيدةِ في أنْ تتعاطى مع تلك المبادرات…
وحينما لا يحدث هذا التعاطي، فثمة خللٌ لدى الشعوب، ولدى تلك القوى…
نقول: ثمة خللٌ لدى الشعوب ولدى القوى حينما تكون المبادرات صادقة وجادَّة ورشيدة – كما تقدَّم- ولكن حينما لا تكون تلك المبادرات متوفرةً على الصدقِ والجدِّية والرشد، فالمسؤولية تتحمَّلها الأنظمة وليس الشعوب، وليس القوى…
في هذه المرحلة التي تشهدُ أخطر التحديات بكلِّ منتجاتها السِّياسية والأمنية والاقتصادية، وبكلِّ مآلاتها التي تهدِّدُ إنسانَ هذا العصرِ بكوارث مُرعبةٍ…
في هذه المرحلةِ ما أحوج الأنظمة الحاكمة وما أحوج الشعوب، وما أحوج كلّ القوى الدينيةِ والثقافيةِ والاجتماعية والاقتصادية والسِّياسية أن تعيد (مراجعاتها) في قراءةِ مُعطيات المرحلة، وفي البحث عن الحلول والعلاجات لأزمات الأوطان…
قبل أنْ تحدث الكوارث ولات ساعة مندم…
للحديث تتمة إنْ شاء الله..
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين..