حديث الجمعة 416: وتستمر الحربُ النفسية ضدَّ الإسلامِ ودعاتِهِ – الأئمَّة من أهلِ البيت ودورهم في التحصين العقيدي – مسؤوليات أنظمة الحكم في تجفيف منابع الإرهاب – استقلال المؤسَّسات الدِّينية – رحيل الع
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين، وبعد فمع هذه العناوين:
وتستمر الحربُ النفسية ضدَّ الإسلامِ ودعاتِهِ:
وكما بالأمسِ مارسَ أعداءُ الرسالةِ كلَّ الأساليب في حربهم ضدَّ النبيِّ الأعظم (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) وضدَّ دعوتِهِ، فكذلك اليوم تتحرك هذه الحرب ضدَّ الإسلام ودعاتِهِ..
وحينما نتحدَّث عن الإسلامِ ودعاتِهِ في هذا العصر لا نتحدَّث عن (تكفيريِّين) توشَّحُوا الإسلامَ كذبًا وزورًا، وتقمصُّوا الدَّعوةَ تمويهًا وتدليسًا، وراحوا يُمزِّقُونَ أوصالَ المسلمين، ويُكرِّسونَ العداواتِ والخلافاتِ والصِّراعاتِ بين المذاهبِ، ويؤجِّجُون الفتنَ بين الطوائفِ، ويُشكِّلُونَ نيرانَها لتأكل الأخضَر واليابِسَ… هذا الفصيل – انتمى إلى هذا المذهب أو إلى ذاك المذهب- ليس من دعاة الإسلام بل هو مضرٌ بالإسلام والمسلمين مهما حمل من (عناوين) ومن ألقابٍ دينية واجتماعية وثقافية، وكلَّما كانت العناوينُ والألقابُ كبيرةً وخطيرةً، فالضرر على الدِّينِ وعلى الأمةِ أكبرُ وأخطر…
فكم أوقد نيرانَ الفتن بين المسلمين شيوخُ دينٍ، وأصحابُ منابر، وأئمةُ جمعةٍ وجماعةٍ، ومواقعُ إفتاءٍ، وحَمَلةُ أقلامٍ، ورجالُ فكرٍ وثقافةٍ، وصُنَّاعُ أجيالٍ، هؤلاء حينما يُغذُّونَ المعتركاتِ الطائفية والمذهبية، وحينما ينشرونَ ثقافة الكراهية، وحينما يؤزِّمُون العلاقات بين المسلمين هُمْ يشكِّلونَ خطرًا على الإسلام والمسلمين أضرىوأشد من خطر الأعداءِ المكشوفين.
وكذلك حينما نتحدَّث عن الإسلام ودعاتِهِ لا نتحدَّثُ عن (إرهابيين) متعطِّشِينَ للدماء، والفتكِ بالأرواح، يمارسونَ القتلَ والذبحَ بنَهَمٍ مجنون، وبعقلٍ موبوءٍ، وبروحٍ مَسْعُورةٍ، وبأساليب طائشةٍ، وبطرقٍ مُرْعبةٍ، لا يستثنونَ طفلًا، ولا شابًا، ولا كهلًا، ولا شيخا، ولا رجلًا ولا امرأةً…
كما لا يستثنونَ دينًا، ولا طائفةً، ولا مذهبًا، ولا انتماءً، ولا مكوِّنًا، ولا شعبًا، ولا أمَّةً، ولا وطنًا، ولا بلدًا، ولا أرضًا، ولا بحرًا ولا جوًا…
مشروع هؤلاءِ الجناةِ أنْ ينتشر الرعبُ والعنف والتطرف والإرهاب في كلِّ الدُّنيا.
وأخطر ما لدى هؤلاء أنَّهم يمارسون إرهابَهم وتطرفَهم وعنفَهم، وعبثَهُمْ، ودمارَهُمْ، يمارسون ذلك باسم (الله)وباسم (القرآن) وباسم (النبيِّ صلَّى الله عليه وآله) وباسم (الدِّين) وباسم (الإسلام) وباسم (المسلمين)…
والله منهم بُراء، والقرآن منهم بُراء، والنبيُّ منهم بُراء وكذلك الدِّين والإسلام والمسلمون..
فالحديثُ عن الإسلام ودعاتِهِ في هذا العصر يشطبُ على هؤلاء (التكفيريين والإرهابيين) كونهم يشكلون (مُرُوقًا)فاضحًا عن الإسلامِ ومبادئِه وقيمِهِ وأحكامِهِ وأهدافِهِ ومناهجَهِ، ويمثلون بقعةً سوداءَ مُنْتنةً في جسم هذه الأمة التي أرادها الله أن تكون خير أمةٍ أخرجت للناسِ…
للحديث تتمَّةٌ إنْ شاء الله تعالى.
الأئمَّة من أهلِ البيت ودورهم في التحصين العقيدي:
لقد تصدَّى الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) –كما تقدَّم- إلى ظاهرة (الإلحاد والزندقة)، وكذلك بقية الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام)؛ كونهم الأمناء على عقيدة الأمَّة وعلى دينها، وعلى كلِّ مسيرتها…
نتابع الحديث عن هذا الدور، فنعرض إلى دورِ الإمام الصَّادق والأئمَّة (عليهم السَّلام) في مواجهة تيارين خطيرين تشكَّلا في وسط المسلمين (تيار النواصب وتيار الغلاة) وهما تيارات متضادان، فالأول يكفِّر الأئمَّة من أهل البيت والثاني يُؤَلِهُهُمْ…
نبدأ الحديث بتيار النواصب…
ولست هنا بصدد الحديث عن الأسباب والعوامل التي أنتجت هذا التيار، وأكتفي بالقول أنَّ وراء إنتاج هذا التيار التكفيري والعدائي لأئمَّة أهل البيت (عليهم السَّلام) (دوافع سياسية) حرَّكتها (أنظمة الحكم) في ذلك العصر، وأعطتها (غطاءً دينيًا) ووجد من (سدنةِ الدِّين الرسميين) مَنْ غذَّاها وشرعنها، كما الحال في عصرنا الحاضر حيث صنَّعت (دوائر السِّياسة) جماعات التكفير بغطاءات دينية… هذه المسألة في حاجة إلى معالجةٍ مستقلةٍ لا تتسع لها هذه الكلمة.
(النواصب) الَّذين تشكَّلُوا في عصر الأئمَّة من أهل البيت، وأعلنوا (فكرهم المعادي والتكفيري ضدَّ أهل البيت) كانوا بلا إشكال من إنتاج (أنظمة السِّياسة) المحاربة لأهل البيت…
ماذا كان موقف أئمَّة أهل البيت من هذا التيار؟
لم يعتمد الأئمَّة (عليهم السَّلام) (منهج الحوار) مع هؤلاء، كونهم –أي النواصب – لا ينطلقون من (التباساتٍ واشتباهاتٍ) فكرية أو عقيدية، وإنَّما هم (صنيعةُ أغراضٍ سياسيةٍ)، لذلك كان أسلوب الأئمَّة هو (تعريتُهم وإسقاطهُم والتحذير منهم) لحماية الأمَّة من تأثيراتِهم وضلالاتِهم ومقولاتِهم الفاسدة، لذلك لم تحدث لهم امتداداتٌ كبيرة في أوساط المسلمين…
خاصة إذا علمنا أنَّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) بدأ بتوجيهاتٍ مُكَثَّفةٍ تؤكِّد (محبة أهل البيت) وتحذِّر من (بغضِهم وعداوتِهم وظلمِهم).
وهذه الوصايا النبوية تمثِّلُ امتدادًا لتعليماتِ القرآن، فقد أكَّدت أغلبُ كتب التفسير والحديث والسيرة والتاريخ أنَّ آية المودة وهي قوله تعالى: ﴿قُللَّاأَسْأَلُكُمْعَلَيْهِأَجْرًاإِلَّاالْمَوَدَّةَفِيالْقُرْبَى﴾(سورة الشورى/23)لما نزلت قالوا: يا رسول الله مَنْ قرابتك هؤلاء الَّذين وجبت علينا مودتهم؟
قال (صلَّى الله عليه وآلِهِ): «علي وفاطمة وابناهما».
وفي رواية أخرى قال (صلَّى الله عليه وآلِهِ): «قربى رسول الله».
• وعن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ) أنَّه قال:
«مَنْ مات على حبِّ آلِ محمدٍ مات شهيدًا،
ألا ومَنْ مات على حبِّ آلِ محمدٍ ماتَ مغفورًا له،
ألا ومَنْ مات على حبِّ آلِ محمدٍ ماتَ تائبًا،
ألا ومَنْ مات على حبِّ آلِ محمدٍ ماتَ مؤمنًا مستكمل الإيمان،
ألا ومَنْ مات على حبِّ آلِ محمدٍ بشَّره ملكُ الموتِ بالجنَّة ثمَّ منكر ونكير،
ألا ومَنْ مات على حبِّ آلِ محمدٍ يُزفُّ إلى الجنةِ كما تُزفُّالعروس إلى بيت زوجها،
ألا ومَنْ مات على حبِّ آلِ محمدٍ فتح له في قبره بابان إلى الجنَّة،
ألا ومَنْ مات على حبِّ آلِ محمدٍ جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة،
ألا ومَنْ مات على حبِّ آلِ محمدٍ مات على السُّنةِ والجماعة،
ألا ومَنْ مات على بغض آلِ محمدٍ جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيسٌ من رحمة الله،
ألا ومَنْ مات على بغض آلِ محمدٍ مات كافرًا،
ألا ومَنْ مات على بغض آلِ محمدٍ لم يشم رائحة الجنَّة».
للحديث عن هذا العنوان تتمَّة إن شاء الله تعالى…
مسؤوليات أنظمة الحكم في تجفيف منابع الإرهاب:
تناولت الكلمة في الأسبوع المتقدِّم ثلاث مسؤوليات يجب أنْ تتحملها أنظمة الحكم:
• المسؤولية الأولى: تنقية المناهج الدراسية من كلِّ المفردات التي تغذِّي الطائفية والكراهية.
• المسؤولية الثانية: تحصين الإعلام الرسمي ضدَّ أيّ شكلٍ من أشكال التحريض الطائفي.
• المسؤولية الثالثة: التخلص من سياسات التمييز بين الطوائف والمذاهب والمكوِّنات.
نتابع الحديث بذكر:
• المسؤولية الرابعة: مطلوبٌ من أنظمة الحكم لكي لا توفِّر(المبرِّرات) لولادةِ متشدِّدين ومتطرِّفين ودعاةِ عنفٍ وإرهابٍ… مطلوبٌ منها أنْ تمارسَ (إصلاحاتٍ سياسيةً حقيقية) وليس (ترقيعاتٍ شكلية) أو (فرقعات إعلامية).
إنَّ غيابَ (الإصلاحاتِ السِّياسية الحقيقية) لدى الكثير من أنظمة الحكم في بلداننا العربية والإسلامية يُشكِّل عاملًا أساسًا في تغذية حالاتِ (التشدُّد والتطرُّف).
ويجب أن لا يفهم من هذا الكلام أنَّ الحركات المطالبة بالإصلاحاتِ السِّياسية العادلة هي حركات متشدِّدة ومتطرِّفة، وهذا ما تحاول الكثير من الأنظمةِ الحاكمةِ تسويقَه وترويجَه من أجلِ تشويه سمعةِ المطالبين بالإصلاحات وبالحقوق…
نعم إنَّ وجود (الفراغاتِ السِّياسية) و(غيابِ الإصلاحات الحقيقية) يهيِّئ أجواءً مناسبة يستغلها دعاةُ التشدُّد والتطرُّف…
وكثيرًا ما تمارس أنظمة الحكم (خلط الأوراق) و(خلط العناوين) فيتحوَّل دعاة الإصلاح السِّياسي –في نظر هذه الأنظمة- إلى متشدِّدين ومتطرِّفين وإرهابيِّين وهذا الخلط له أهدافه المكشوفةُ، وغاياتُه الواضحة.
استقلال المؤسَّسات الدِّينية:
نعود مرة أخرى لموضوع استقلال المؤسَّسات الدِّينية:
حينما نصرُّ على استقلالية مؤسَّساتِنا الدينية (مساجدنا، حسينياتنا، حوزاتِنا) لا ننطلق من عُقدةٍ في العلاقةِ مع السُّلطةِ؛ لأنَّنا لا نرى أيَّ مصلحةِ لهذا الوطن في أنْ تتعقَّد هذه العلاقة…
ولا ننطلق من رغبةٍ في تأزيم التواصل مع الحكم.
ولا ننطلق من نزعةٍ إلى تأكيد الهوية الطائفية.
كلُّ ذلك ليس هو منطلقنا، وإنَّما هي الرؤية الشرعية التي فرضت علينا هذا الموقف، وإنَّما هي التجربة التي تحركتْ في الكثير من بلدانِ المسلمين، حينما فرضت الجهات الوضعية كلَّ هيمنتِها على مؤسَّساتِ الدِّين، ممَّا جعل هذه المؤسَّسات مأسورةً تمامًا لإرادات الأنظمة السِّياسية، وإنْ كان ذلك على حساب الدِّين والشرع..
ونظرًا لحساسية وخطورة هذا الشَّأن، فهو في حاجةٍ إلى توجيه دائم ومستمر تحصينًا للواقع الدِّيني وحمايةً لمؤسَّساته…
فمطلوب من العلماءِ وكلِّ القائمين على الشأنِ الديني أنْ يكون لهم دورهم في التثقيف والتوعية بضرورة حماية المؤسَّسات الدينية من كلِّ أشكال الوصاية الوضعية.
وحينما نتحدَّث عن أشكال الوصاية الوضعية فهنا صور:
1- أنْ تكون المؤسَّسة الدينية تابعةً تمامًا لجهةٍ رسمية أو شبه رسمية، فهي واحدة من مرافقها كما المدارس الرسمية، وكما المستشفيات الرسمية، وكما الدوائر الرسمية…
2- أنْ تكون التبعية في الإشراف العام والتوجيه.
3- أن تكون التبعية في الشأن المالي فقط، كأن تعيِّن رواتب لأئمَّة المساجد، ولأساتذة وطلاب ومنتسبي الحوزات.
كلّ هذه الأشكال من التبعية تتنافي مع استقلالية المؤسَّسات الدينية والتي تفرضها الرؤية الشرعية، والمنطلقة من قراءة فقهية دقيقة، ومن دراسة موضوعية متأنية.
وإذا كان العلماءُ وكلُّ القائمين على الشأن الديني يتحمَّلون المسؤولية في حماية المؤسَّسات الدينية من كل أشكال الوصاية الوضعية…
فإنَّ جميع المؤمنين مطلوبٌ منهم أنْ لا يسمحوا لأيّ امتداداتٍ تؤسِّس للهيمنة والوصاية والتبعية، وحينما نحمِّل المؤمنين هذه المسؤولية لا ندعوهم إلى اعتماد أساليب مؤزِّمة وموتِّرة، فهذا مرفوض كلَّ الرفض، وإنَّما هو الموقف الشرعي المدروس والمحسوب وفق توجيهات العلماء الموثوقين المعتمدين…
كلمةٌ أخيرة:
مرَّت هذا الأسبوع ذكرى رحيل العلامة المجاهد الشيخ الجمري، ولابد من وقفةِ وفاءٍ واستلهام، فالراحل الكبير أحد الرموز الشاخصة في تاريخ هذا الوطن، وأحد أبرزِ العلماءِ العاملين المجاهدين،
ولا تفي كلمةٌ عاجلة بحقِّ هذا الرمز الكبير…
حاول العلامة الشيخ الجمري أن يزاوج بين مجموعة مكوِّنات، فهو أستاذُ حوزةٍ، وعالمُ دينٍ، وخطيبُ منبر، ومفكر، وباحثٌ، وأديب، وشاعرٌ، وداعيةٌ، ومبلِّغ، وناشط اجتماعي، وهو السِّياسيُّ الذِّي تصدَّى بكلِّ قناعةٍ وشجاعةٍ إلى قضايا وهمومِ ومطالبِ هذا الشعب، وتحمَّلَ كلَّ العناءاتِ الثقيلة دُونَ أنْ يتراجعَ أو يضعفَ أو يُساومَ ودُونَ أنْ تهتز مواقفُهُ وقناعاتُهُ.
فما أحوجَنَا ونحن نعيش مرحلةً هي الأعقدُ والأصعبُ في تاريخ هذا الوطن أنْ نستحضر هذا الرمزَ، وأنْ نُجذِّرَهُ في وعي أجيالِنا، وفي وجدانِها، وفي كلِّ حراكاتِها الثقافيةِ والاجتماعيةِ، والسِّياسيةِ.
تغمَّدَ الله شيخنا الجمري بوافرِ الرحمةِ والرضوان، وهنَّأه الله بصحبة الأخيار والأبرار والصَّالحين والصدِّيقين.
وآخر دعوانا أنْ الحمد للهِ ربِّ العالمين.