حديث الجمعة 410: مسؤوليَّات الخطاب العاشورائي – حول استمرار استدعاءات العلماء والخطباء والرواديد
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة الميامين، وبعد فمع هذه العناوين:
مسؤوليَّات الخطاب العاشورائي:
لا أعني هنا بالخطاب العاشورائي (خطابَ الثورة الحسينية نفسِها) والذي يُمثِّلُهُ (خطابُ الإمام الحسين) و(خطابُ أهلِ بيتِهِ) و(خطابُ أصحابِهِ)، وإنَّما أعني (خِطابَ الموسمِ العاشورائي) وينتظم هذا الخِطابُ مجموعة عناوين:
• خِطاب المنبرِالحسيني.
• خِطاب الرادودِ الحسيني.
• خِطاب الشيَّالِ الحسيني.
• خِطاب المحاضرِ الحسيني.
• خِطاب الإصدارِ الحسيني.
• خِطاب الشِعارِ الحسيني.
• خِطاب المسرحِ الحسيني.
• خِطاب المرسمِ الحسيني.
• خِطاب الموقعِ الحسيني.
فكلُّ خِطابٍ يُعبِّر عن عاشوراء الحسين فهو خطاب عاشورائي سواءً أكانَ منطوقًا أو مكتوبًا، أو مرسومًا أو مُعبَّرًا عنه بأيّ طريقة تخاطب جمهور عاشوراء.
ولعلَّ البعضَ لا يفهم من خِطاب عاشوراء إلَّا خطاب المنبر الحسيني، نعم هذا الخطاب هو المصداق الأجلى لخطاب عاشوراء، والأقوى تأثيرًا، وتعبيرًا عن قضية عاشوراء.
وهذا لا يعني أنَّ بقية العناوين لا تحمل أهميةً، إنَّها تحملُ كلَّ الأهمية، بل إنَّ بعضَ تلك العناوين أصبح منافسًا قويًّا لخطاب المنبر الحسيني، كما هو الشأنُ بالنسبة لخطاب الرادود الحُسيني، فجمهوره لا يقلُّ عن جمهور المنبر الحسيني وربَّما تفوَّق عليه، وهذا يفرضُ أنْ يقاربَ الحديث عن خطاب عاشوراء جميع تلك العناوين، ما دامتْ قد أصبح لها حضورُها المؤثِّرُ في الموسمِ العاشورائي.
وبقَدَرِ ما يكونُ الخطابُ العاشورائي – بكلِّ عناوينِهِ- مُجسِّدًا لمسؤولياتِ عاشوراء يُصبحُ خِطابًا ناجحًا، وبقَدَرِ ما يكونُ هذا الخطابُ متخلِّفًا عن أداءِ تلكَ المسؤولياتِ يصبح خطابًا فاشلًا.
وإذا أردنا أنْ نمركزَ مسؤولياتِ الخطابِ العاشورائي فيمكن أنْ نضعها في النقاط التالية:
النقطة الأولى: إحياء مأساة عاشوراء.
النقطة الثانية: إحياء مفاهيم عاشوراء.
النقطة الثالثة: إحياء قيم عاشوراء الروحية والأخلاقية والاجتماعية، والسِّياسية، والجهادية.
فالمسؤوليةُ الأُولى تصوغُ الوجدانَ العاشورائي.
والمسؤوليةُ الثانيةُ تصوغُ الوعيَ العاشورائي.
والمسؤوليةُ الثالثةُ تصوغُ السُّلوكَ العاشورائي.
ماذا إذا غابتْ بعضُ هذه المسؤوليات في الخطاب العاشورائي؟
فلو وُجِدَ خطابُ عاشورائي يتعاطى مع الوجدانِ العاشورائي فقط.
وبتعبير آخر، لو وُجِد خطابٌ يقاربُ مأساة عاشوراء، ويُحرِّك وجدانَ عاشوراء، ويستدرُّ دمعة عاشوراء ويقف عند ذلك، فلا يقاربُ مفاهيم عاشوراء، ولا يصنع وعي عاشوراء، وكذلك لا يُقارب قيم عاشوراء، ولا يصوغ سلوك عاشوراء.
فهل يعتبرُ هذا الخطابُ يحملُ مسؤولياتِ عاشوراء؟
إنَّه يحملُ بعضَ هذه المسؤوليات، ويفرِّط في بقية المسؤوليات، وهذا لا يجعله خطابًا عاشورائيًّا كفوءًا.
برز في الآونة الأخيرةاتجاه يؤكِّد على (مسألةِ النعي) وكفى، فالهدفُ الأساس لإحياء مجالس عاشوراء هو الحزنُ والدَّمعةُ على الإمام الحسين (عليه السَّلام)، كما أكَّدت ذلك الروايات الصَّادرة عن أهل البيت (عليهم السَّلام).
صحيح أنَّ الحزنَ والدَّمعة هدفٌ مركزي في الإحياء العاشورائي، إلَّا أنَّ القيمَة كلَّ القيمة لهذا الإحياء حينما يحملُ للأجيال مفاهيم وقيم عاشوراء، حينما يصوغ كلَّ الواقع في حياة هذه الأجيال، إنَّه ظلمٌ لعاشوراء حينما نبقيها دمعةً مفرَّغة من الوعي، والممارسة…
إنَّمضمونَ «أحيوا أمرَنا» لا يعني أن نتحدَّث فقط عن (الجانب المأساوي) في حياتهم (عليهم السَّلام)، رغم أنَّ هذا الجانب له أهميته وقيمته، وضرورة أنْ يبقى حاضرًا في وجدانِ الأجيال.
إلَّا أنَّ (إحياءَ أمرِ أهلِ البيت) عنوان كبيرٌ جدًّا، فأمرهم هو (الإسلامُ) كلُّ الإسلام، و(الدِّينُ) كلُّ الدِّين، و(القرآن) كلُّ القرآن…
فما أحيَينَا أمرَهُم إذا غيَّبنا الحديث عن الإسلام والدِّين والقرآن، وهل ضحَّى الإمام الحسين (عليه السَّلام)، وهل ضحَّى الأئمَّة من أهل البيت(عليهم السَّلام) إلَّا من أجل هذه العناوين؟.
وإذا كان هذا الاتجاه الذي يُغيِّبُ الوعيَ والمفاهيم والقيمَ لا يُعبِّر تعبيرًا حقيقيًّا عن عاشوراء فإنَّ الإتجاه المعاكس والذي يُغيِّب الدَّمعة والحزن والمأساةَ هو الآخر لا يعبِّر تعبيرًا حقيقيًّا عن عاشوراء، ففي مقابلِ الاتجاه الأول برز اتجاهٌ آخر يُقلِّلُ من قيمة الدَّمعة، ويؤكِّد على قيمة الوعي والفكر والمفاهيم.
هذا الاتجاهُ هو الآخر مرفوضٌ، فإنَّ تجفيفَ الدمعة، يُشكِّلُ مُصادرةً خطيرة للتفاعلِ الوجداني مع عاشوراء، وإذا مات هذا التفاعلُ خمدت العلاقة مع المفاهيم والقيم، وحتى لو وجدت علاقة مع مفاهيم وقيم عاشوراء فهي علاقة عقلية بحتة لا تملك القدرة أنْ تصنع الفاعليةَ والحركيةَ والانصهار والذوبان.
فكما أنَّ التعاطي العاطفيَ المفرَّغَ من الوعي ينتج انتماءًا ساذجًا غبيًّا.
فكذلك التعاطي العقلي المفرَّغَ من العاطفة ينتج انتماءًا راكدًا خامدًا.
وهناك اتجاهٌ ثالثٌ يُغيِّب الممارسة العاشورائية.
فهذا الاتجاه يُؤكِّدُ على قيمةِ الدمعةِ العاشورائية، ويؤكِّدُ على قيمة الوعي العاشورائي، إلَّا أنَّه لا يعطي أهمية للسلوك العاشورائي.
فهنا خطابٌ يُحرِّكُ المشاعرَ، ويعالجُ المفاهيمَ، إلَّا أنَّه لا يربِّي الجمهور على القيم العملية التي تحملها عاشوراء.
هذا الخطابُ ينتج بكَّائين عاشورائيين، وهذا الخطاب ينتج مثقفين عاشورائيين.
إلَّا أنَّه لا ينتج ملتزمين عاشورائيين.
ما قيمة أنْ يصنَع الخطابُ جمهورًا يعيش فورانًا عاشورائيًا، وما قيمة أنْ يصنع الخطابُ جمهورًا يحمل وعيًا عاشورائيًا…
إلَّا أنَّه لا يصنع جمهورًا يُجسِّد أهداف عاشوراء، ويلتزم سلوك عاشوراء، ويحملُ رسالة عاشوراء…
خطابٌ من هذا النوع لا يعبِّر عن عاشوراء الحسين، كما أنَّ خطابًا لا يصنع الوعي، وأنَّ خطابًا لا يحمل المأساة لا يعبِّر عن عاشوراء الحسين (عليه السَّلام).
نخلصُ ممَّا تقدَّم إلى النتيجةِ المهمَّةِ التالية وهي:
إنَّ الخطابَ لكي يكون عاشورائيًا بصدقٍ يجب أن يمارس ثلاث مسؤوليات متكاملة:
المسؤولية الأولى:
أنْ ينقل للأجيال ما حدث في يوم عاشوراء من فاجعة عظمى، ورزيةٍ كبرى، وحينما يتحمَّلُ الخطابُ العاشورائي هذه المسؤولية يجب أنْ يعتمد (الحقائق التاريخية) وليس (المرويات المكذوبة) المخترعة من أجل إنتاج الدَّمعة، فكثيرًا ما يلجأ الخطاب إلى تلك المرويات المصطنعة لكي يُبكي حُضَّارَ المجالس الحسينية، وربَّما اعتبر خطباء المنبر ذلك عملًا مشروعًا ما دامالهدف هو الإبكاء على الحسين (عليه السَّلام)، واستدرار الدَّمعة، الأمر ليس كذلك، إنَّ مشروعية الغاية لا تبرِّر اعتماد وسائل غير مشروعة.
رُبَّما يُقال: إنَّ بعض تلك (المرويات) مدوَّنة في بعض المصادر، أو أنَّ عددًا من كبار الخطباء ينقلونها، أو أنَّها مصاغة في قصائد الرثاء…
هذه كلّها ليست (مسوِّغات) لنقل ما هو غير ثابت، أو ما هو موضوع…
نعم إذا كان المصدر معتمدًا، وموثوقًا فلا مانع من النقل عنه، بشرط أنْ لا يكون في ذلك توهينًا بشخصية المعصوم (عليه السَّلام) أو برموز كربلاء.
المسؤولية الثانية:
أنْ ينقل الخطابُ للأجيال (المفاهيم الواعية لعاشواء)، وهذا يفرض أنْ يتوفَّر حمَلَةُ الخطاب العاشورائي على درجةٍ عالية من الوعي بمفاهيم عاشوراء، وبقدرة كبيرة في الطرح والأداء.
فلا جدوى من امتلاك الوعي بمفاهيم عاشوراء، إذا كان الخطاب لا يملك كفاءة الأداء والطرح.
كما لا جدوى من امتلاك هذه الكفاءة إذا كانَ الخطابُ لا يملك الوعي بمفاهيم عاشوراء.
وهنا نؤكِّد الضرورة إلى الخطيب العاشورائي المؤهَّل فكريًا وثقافيًا، والمؤهَّل لغةً وأداءً وطرحًا.
وممَّا يُؤسف له أنْ يهيمن على مساحة كبيرةٍ من جمهور عاشوراء (النزوع) إلى اعتماد (المهارات الصوتية) هي المعيار للتقويم وللقبول والرفض، ولا يعطون للمهاراتِ الفكرية والثقافية ومهاراتِ اللغة والأداء أيَّ قيمة.
لا نريد أنْ تقلِّل من قيمة (المعايير الصوتية) فلها كلُّ الأثرِ في اجتذابِ الجمهورِ العاشورائي إلَّا أنَّ هذا لا يبرِّر اغفال (المعايير العلمية والثقافية والفكرية) و(المعايير اللغوية والخطابية) فالخطيب الناجح والمؤهل هو مَنْ يمتلك:
• المهارات العلمية والثقافية.
• المهارات اللغوية والخطابية.
• المهارات الصوتية.
والحديث هنا طبعًا عن الخطيب العاشورائي وليس عن أيّ خطيب آخر..
المسؤولية الثالثة:
أنْ يحمل الخطاب العاشورائي (الهمَّ الرسالي)، وأعني بهذا الهمّ أنْ يمارس الخطاب دوره ومسؤوليته في (إعداد الأجيال العاشورائية)، وهي الأجيال الملتزمة عمليًا بقيم عاشوراء الروحية والأخلاقية والسلوكية والجهادية.
فليست أجيالًا عاشورائية تلك التي تبكي فقط.
وليست أجيالًا عاشورائية تلك التي تحمل الثقافة فقط.
أجيال عاشوراء هي التي صاغتها أهداف ثورة الحسين، وأنتجتها مدرسة عاشوراء، وانطلقت تحمل رسالة عاشوراء.
وهنا يتحتَّم على خطاب عاشوراء أنْ يكرِّس همَّهُ في صوغ هذه الأجيال.
وهذا يفرضُ على حملة الخطاب العاشورائي أنْ يكونوا (رساليين مبدئيِّين) فعاشوراء هي مدرسة الرسالية والمبدئية.
فمطلوبٌ من حملة الخطاب العاشورائي أنْ يكونوا هم نماذج لقيم عاشوراء الروحية والأخلاقية والسلوكية والجهادية.
وإلَّا فلن يكون للكلمة أثرُها، وخشية أنْ يكونوا مصداقًا لقوله تعالى:
• ﴿يَاأَيُّهَاالَّذِينَآَمَنُوالِمَتَقُولُونَمَالَاتَفْعَلُونَ * كَبُرَمَقْتًاعِندَاللهِأَنتَقُولُوامَالَاتَفْعَلُونَ﴾ (الصف: 2-3).
أو مصداقًا لقوله تعالى:
• ﴿أَتَأْمُرُونَالنَّاسَبِالْبِرِّوَتَنسَوْنَأَنفُسَكُمْوَأَنتُمْتَتْلُونَالْكِتَابَأَفَلاَتَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 44).
أو ممَّن ينطبق عليه الحديثُ الوارد عن النبيِّ الأكرم صلَّى الله عليه وآله حيث قال:
(يَطَّلعُ قومٌ مِن أهلِ الجنَّةِ على قومٍ مِن أهلِ النَّار فيقولون: ما أدخلَلكُمْ النَّارَ وقَدْ دخَلَنا الجنَّةَ لفضلِ تأديبِكُمْ وتَعْلِيمِكُمْ؟ فيقولون: إنَّا كُنَّا نأمرُ بالخيرِ ولا نفعلُهُ).
للحديث تتمَّةٌ إنْ شاء الله تعالى.
كلمة أخيرة:
لا زالتْ استدعاءاتُ العلماءِ والخطباءِ والرواديد ومسؤولي المآتم مستمرةً من دونِ أنْ تتضحَ حتى الآنَ أيُّ مبرِّراتٍ مشروعةٍ لهذا الإجراء، سوى المقولات المألوفة: التحريض، إثارة الفتنة، الإساءة إلى الرموز…
إنَّنا لا نجد في الخطاب العاشورائي أيَّ انزلاق في اتجاه التأزيم، والفتنةِ، والإساءةِ إلى رموز الإسلام، وقد أكَّد العلماء على ضرورة أنْ يبقى موسم عاشوراء بكلِّ مراسيمِه وشعائرهِ وفعَّالياتِه بعيدًا عن هذه المنزلقات، أمَّا أنْ يُعتبر الحديثُ عن مسؤولية عاشوراء في رفض الظلم والفسادِ، والإنحرافِ، والعبثِ… تحريضًا فأمرٌ لا مُبرِّر له.
وأمَّا أنْ يُعتبر محاسبةُ الجُناةِ التاريخيين الذين صنعوا فاجعةَ كربلاء… فتنةً، وإساءةً لرموزِ الإسلام فأمر لا معنى له.
إنَّنا نطالب أنْ تتوقف هذه الاستدعاءات في مرحلةٍ تحتاجُ إلى المزيدِ من تخفيفِ التوتُّراتِ والتَّأزماتِ، لكي تتسهَّل السبلُ للتواصلِ والتقاربِ من أجلِ البحث عن حلولٍ جادَّةٍ لأزماتِ هذا الوطن.
إنَّ عاشوراء تشكِّل منطلقًا لإنتاج المحبَّةِ والتسامحِ والتآلف، وترسيخ العدلِ والخير والإنصافِ، والكرامةِ والعزَّة…
فيجب أنْ لا يُقحم هذا الموسِمُ في أيِّ حِسَاباتٍ سياسيةٍ، وأمنيةٍ، وطائفية…
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.