حديث الجمعة 409: الخطابُ الدينيُّ ومُقاربةُ الشأنِ السّياسيّ: (4) – اليوم العالمي للديمقراطية
المقطع السياسي من حديث الجمعة للعلاّمة الغريفي بمسجد الأمام الصادق عليه السلام بالقفول
17/9/2015 الموافق 3 ذو الحجة 1436هـ
الخطابُ الدينيُّ ومُقاربةُ الشأنِ السّياسيّ:
تقدمَ الكلامُ عن الاتجاه الأولِ والذّي حاولَ أنْ يُبرّر لشروعيِ الحظرِ على الخطابِ الدّينيّ أنْ يُقارب الشأنَ السّياسيَّ وتقدّمتْ بعضُ ملاحظات على ذلك الاتجاه…
وهُنا تتناولُ الكلمةُ الإجاهين الثانيَ والثالثَ ..
الاتجاه الثانيُّ:
ويُعطي للخطاب الدّيني مطلقَ الحريةِ في أنْ يقتحمَ السَّاحة السّياسيةّ من كلِّ أبوابها، وأنْ يتعاطى كلِّ شُؤونِها، وشُجُونِها، ومعتركاتِها…
ويُبرّر هذا الاتجاه قناعتَه بأنّ ذلك التعاطي المُطلق هو حثٌ مشروعٌ للمنبرِ الدّينيّ، لا يجوزُ مصادرتَهُ أو الجرُ عليه، أو تقييدُهُ، فالتعاطي السّياسيّ مسموحٌ لكُلِ إنسانٍ يملكُ القُدرةَ أنْ يقُول الكلمةَ، وأنْ يُحاسب الأوضاع، مادام ذلك ضِمن الضوابطِ والمعاييرِ السَّليمةِ.
فماذا تُوضعُ القٌيودُ غيرُ المشروعةِ على الخطابِ الديّنيّ، ولماذا لا يُرادُ له الظهور في السّاحةِ السّياسيةِ.
إنّ في ذلك إعتداءًا صارًِا على حقِّ التعبير، ومُصادرةً لدورِ الكلمةِ…
ثُمّ إنّ المُبرّراتِ التي يطرحُها أصحابُ الاتجاه الأول هي مُبرّراتٌ مروضةٌ، ولا تقوم على أُسسٍ علميةٍ، ودعاوى فاقدةٌ للمصداقية…
والخلاصةُ – وفق الاتجاه الثاني – أنّ لا يصُحُّ إطلاقًا تقييدُ الخطابِ الدّينيّ ومُحاصرتُهُ في تعاطِيهِ مع الشأنِ السّياسيّ، مهما كان شكلُ مستوى ومساحة هذا التعاطي، لأنّ في هذا التقييدِ والمُحاصَرةِ تجاوزًا على حُرية الرأي المكفولة حسبَ الأنظمةِ والقوانينِ…
ويمكن أنْ يلاحظ على هذا الاتجاه:
أولاً: أنْ الاستغراقَ في الشأنِ السّياسيّ رُبّما أدّى إلى التفريط بالكثير من مسؤولياتِ الخطابِ الدّينيّ الروحيةِ والأخلاقيةِ، والعقيديةِ، والثقافيةِ، والفقهيةِ، والاجتماعيةِ، والتربويِةِ…
فإذا كانَ من حقِّ الخطابِ الدّينيّ أنْ يُقارِبَ المسألةَ السّياسّية، فهذا يجِبُ أنْ لا يكونَ على حِساب بقيّة المسؤولياتِ والتي تُشكّلُ المفاصل الأساس في هذا الخِطاب…
وإذا كان الشأن السّياسيّ يملُ درجةً عاليةً من الأهميةِ، فالمفاصل الأخرى كذلك تملك كلّ الأهمية وبدرجةٍ أكبر…
صحيح أنَّ تحدّيات السّياسة تفرض أنْ يكون للمنبر الدّينّي حضورهُ وكلمتهُ إلا أنّ تحدّيات العقيدةِ والفكر والأخلاق والاجتماع والسلوك في كلِّ امتداداته هي الأخطر..
ثانيًا: إنّ التأصيل العقيديّ والفكريّ والفقهيّ والأخلاقيّ هو ضرورةٌ لتسييجِ وترشيدِ وتحصين مسارات السّياسة، وإلاّ انفلتت هذه المسارات، وانحرفتْ آلياتُها، طاشتْ أدواتُها…
ما نُشاهدهُ في عالم السّياسةِ من إنفلاتاتٍ، وانحرافات، وانزلاقاتٍ نحو العنف، والتطرفِ والإرهابِ، سواءً أكان على مستوى أداءات الأنظمةِ، أو ممارسات الشعوبِ هو نتيجة لغياب (( المُحصّنات الرُّوحيةِ والأخلاقيّةِ)).
ربما يقال: في شؤون السّياسة هو الذي أنتج الكثير من الصّراعاتِ، والخلافاتِ، والتجاذباتِ، وكلّ المآلاتِ المتشدّدةِ، والمتطرفةِ…
فمن صالح الأوضاع السّياسيةِ أنْ تكون في منأى عن خلافات الدّين، وصراعاتِ المذاهب، وجدليات الفقه…
هذا الكلامُ صحيحٌ تمامًا، إلّا أنّنا حينما نتحدّث عن ((مُحصّنات رُّوحيةِ وأخلاقيّةِ)) إنّما نتحدّث عن ((ثوابت ومُسلّمات وضرورات)) لا جدل ولا خلاف فيها، فلا جدل ولا خلاف في أنَّ الظلم السّياسيّ مرفوض، وأنّ الفساد السّياسيّ مرفوض، وأن النفاق السّياسيّ مرفوض، وأنّ الكذب السّياسيّ مرفوض، وأنّ العنف مرفوض، وإن التطرف السّياسيّ مرفوض، وفي هذا السّياق تنتظم كلُّ الانحرافات السيّاسيّ بكلِّ أشكالِها، وألوانِها، ومساراتِها…
قد يُقال: إنّ هذه من الثوابت السّياسيّة التي أقرّتها الدساتير والقوانين، فما الضرورةُ لاعتمادِ الخطابِ الدّينيّ؟
واهمٌ كلَّ الوهم مَنْ يعتقد أنّ الدساتيرَ والقوانينَ الوضعية قادرةٌ أنْ تصنع ((ضميرًا سّياسًا نظيفًا)) فها هو الواقع السّياسي يضجُّ بانتهاكات الدّساتير والقوانين وبالتحايل عليها، وإخضاعها للأهواء والمصالح…
لا يحمي المسار السّياسي إلا ضميرٌ سياسيٌ نظيفٌ..
ولا يضيعُ لضمير السّياسيّ النظيف إلاّ ((قيم روحية نظيفة))..
ولا ينتج هذه القيم إلاّ ((الخشيةَ من الله))..
في الكلمة عن رسول الله صلىّ الله عليه وآلهِ وسلمّ ((جماعُ الخير خشيةُ الله)).
تصورُّوا سياسيًا يعيشُ الخشيةَ كلَّ الخشيةِ من الله، هل يمكن أنْ يظلمَ، أنْ يعتدي، أنْ يُفْسِدَ، أنْ يُنافقَ، أنْ يكذبَ، أنْ يخونَ، أنْ يتآمرَ، أنْ يبطشَ، أنْ يعنِفَ، أنْ يُفرطَ في شيءٍ من مسؤولياتِهِ؟
نلخصُ إلى القول بأنّ الخطاب الدّينيّ يجبُ أنْ يُحافظ على دورهِ الرّوحيّ والأخلاقيّ والشرّعيّ والإيمانيّ حتى وإنْ قاربَ أوضاعَ السّياسةِ، أما إذا تنازل عن هذا الدّور فسوف يسقط في مستنقعاتِ السّياسة، بدّا من أنْ ينتشلا من هذِهِ المستنقعاتِ…
كلمةٌ أخيرةٌ: اليوم العالمي للديمقراطية
احتفل العالم في هذا الأسبوع باليوم العالمي للديمقراطية، فهلْ يمكن اعتبارُ هذه المناسبةِ فرصةً لمُراجعاتٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ وحقوقيةٍ فب كلِّ البلدانِ التي تعيشُ أزماتٍ وتوتراتٍ واحتقاناتٍ بسبب غياب الديمقراطية وغياب الإصلاحات..
والسؤالُ المطروحُ هُنَا:
مَنْ المسؤولُ عن هذه المراجعات هلْ هي أنظمةُ الحُكم، أم القوى السّياسيةُ والحقوقيةُ المعارضةُ، أم حراكاتُ الشعوب الغاضبة؟
بكلّ تأكيدٍ يأتي على رأس القائمة أنظمةُ الحُكم، كونُها تملكُ كُلَّ القٌدراتِ لإصلاحِ الواقع السياسي والأمني والحقوقي، فمالم تُمارسْ هذه الأنظمةُ مراجعاتٍ جادّةٍ وخطو خطواتٍ حقيقيةً في اتجاه التغيير والإصلاحِ فإنّ الأوضاعَ لايُمكن أنْ تُصحح، بل سوف تتجهُ نحو الأسوءِ، والأعقدِ، والأخطرِ…
وهذا لا يعني أنَّ بقيةَ المُكوّنات من معارضين سياسيين، وناشطين حقوقيين، وقوى شعبية.. لا تتحمل مسؤوليةَ المراجعة والمُحاسبةِ، بل هي تتحملُ درجاتٍ عاليةً من المسؤولية، فربّما كان في أداؤاتِها بعضُ أخطاءٍ أو بعضُ فَشلٍ أو بعضُ تعقيداتٍ… فمطلوب أنْ تتكامل الجهودُ في مراجعات جادّةٍ وصادقةٍ، وصريحةٍ، وجريئةٍ، ورشيدةٍ، ومُنصفةٍ…
وهكذا يُمكنُ أنْ يتحول اليومُ العالمّيُ للديمقراطية فرصةً كبيرةً لتغييراتٍ حقيقيةٍ في تصحيحِ الأوضاع وإنهاءِ الأزماتِ…
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين