حديث الجمعة 408: من آثار الذُّنوب أنها تحبس الدعاء (3) – الخِطابُ الدّينيُّ ومقاربة الشّأنِ السّياسيّ (3) – الإفراج عن الأبناء المعتقلين
بسم الله الرحمن الرّحيم
الحمد لله ربَّ العالمين وأفضل والصّلواتِ على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّدٍ وعلى آله الهداةِ الميامين ..
نقرأ في دعاءِ كميل هذا المقطع: “اَللّهُمَّ اغْفِرْ لي الذُّنُوبَ الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاءَ”
في عدةِ مواضعَ مِن كتابِ الله جاءَ التأكيد على الدّعاء:
• “قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ” الفرقان:77.
• “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ” غافر:60.
• “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ” البقرة: 186.
هذه بعضُ آياتٍ، وغيرها كثير تحدّث عن الدّعاء.
وهنا سؤالٌ يطرح دائماً:
• فما لنا ندعو ولا يٌستجَاب لنا؟
الجوابُ باختصار شديد: إنَّ لعدم الإَجابة أسبابٌ أهمُّها ثلاثةُ أسباب:
السَّببُ الأولُ: عدمُ توفّرِ الشروط والأداب:
• في الحديث عن الإمامِ الصّادقِ (عليه السَّلام) قال:
“إحفَظْ آدابَ الدعاء… فإن لم تأتِ بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة… واعلمْ أنّه لو لم يكنِ اللهُ أمَرَنا بالدعاء لكُنّا إذا أخلَصْنا الدعاءَ تَفضَّل علينا بالإجابة، فكيف وقد ضَمِن ذلك لِمَن أتى بشرائط الدعاء ؟!”.
ومن أهم شرائط الدّعاء:
1- المعرفة:
• قال رسول الله (صلىّ الله عليه وآلِهِ):”يقول الله عزّوجلّ: مَن سألني وهو يعلم أنّي أَضُرّ وأنفع أستجيب له “
2- خلوص النيّة ونقاء القلب:
• قال الإمامُ الصّادقُ (عليه السَّلام):”إنّ العبد إذا دعَا الله تبارَك وتعالى بنيّةٍ صادقةٍ، وقلبٍ مُخلصٍ استُجيب له بعد وفائِهِ بعهد اللهِ عزّ وجلَّ ، وإذا دعا الله عزّ وجلَّ بغير نيّةٍ وإخلاصٍ لم يستجب له، أليس اللهُ يقول: “أَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ” فمَن وفى اوفي له.”
3- حضورُ القلبِ وقت الدُّعاء:
• عنه (صلىّ الله عليه وآلِهِ وسلّم):” اعلموا أنَّ اللهَ لا يقبل دعاءً من قلبٍ غافلٍ”
4- طهارةُ المأكلِ والمشرب:
• قال أحدهم إلى النبيّ (صلىّ الله عليه وآلِهِ وسلّم): أحبُّ أنْ يُستجابَ دعائي، فقال له النبيّ (صلىّ الله عليه وآلِهِ وسلّم): ” طهّرْ مأكلًك، ولا تُدخلْ بطنَك الحرام”.
السَّببُ الثاني: وجود الموانع من إجابة الدّعاء..
هنا موانع تحجب الدّعاء، يأتي ذكرها إنْ شاء الله..
السَّببُ الثالِث: أنْ تكونَ هناك حكمةٌ أو مصلحة لا يعلمها العبدُ..
• جاء في الزبور:
يقول الله تعالى: ” اِبنَ آدمَ تَسْأَلني فأمنعكَ لعلمي بما ينفعُكَ، ثَمَّ تُلُحَّ عليَّ بالمسألةِ فأعطيكَ ما سألتَ، فتستعين به على معصيتي، فأهمَّ بهتكِ سترِكَ، فتدعوني فأسترُ عليكَ، فكم من جميلٍ أصنعُ معكَ، وكم مِن قبيحٍ تصنعُ معي؟ يوشك أنْ أغصبَ عليكَ غضبةً لا أرضى بعدها أبداً”.
• وجاء في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام):
” لا يُقنَّطكَ إبطاءُ إجابتِهِ، فإنَّ العطيةَ على قدر النيّة، ورُبَّما أُخّرتْ عنك الاِجابةُ ليكون ذلكَ أعظمَ لأجر السّائِلِ، وأجزلَ لعطاءِ الآملِ، ورُبَّما سألتَ الشيء فلا تُؤتَاه وأُوتيتَ خيراً منه عاجلاً أو آجلاً ، أو صُرِفَ عنكَ لما هو خيرٌ لكَ، فَلَرُبَّ أمرٍ قد طلبَتهُ فيه هلاكُ دينك لو أوتيَتهُ”.
• قال الإمامُ الصّادقُ (عليه السَّلام):”إنَّ المؤمنَ ليدعو اللَّه تعالى في حاجةٍ، فيقول اللَّه: أخرتُ حاجَتُه شوقاً إلى دعائه، فإذا كان يومُ القيامةِ يقول اللَّه تعالى: عبدي دعوتني في كذا فأخرّتُ إجابَتكَ، وثوابُك كذا، قال: فيتمنّى المؤمنُ أنّه لم يستجب له دعوة في الدنيا لما يرى من حسنِ ثوابه”.
وأمّا الحديث عن الأسباب التي تحبس الدّعاء وتحجب الإجابة، فيأتي الحديث عنها إنْ شاء الله في لقاء قادم..
الخِطابُ الدّينيُّ ومقاربة الشّأنِ السّياسيّ:
في معالجةِ هذا العنوانِ برزتْ ثلاثةُ إتجاهات:
• إتجاهٌ يخطرُ على الخطاب الدّينيُّ مقاربة الشأنِ السّياسيّ.
• إتجاهٌ يُعطي الخطابَ الدّينيُّ مطلق الحقّ في مقاربة هذا الشأن.
• إتجاهٌ وسطيّ يوازنُ بين الخطر المطلق والسّماح المطلق.
وبدأنا الحديثَ عن الإتجاه الأول وفيما هي منطلقاتُه، الإتجاهُ الأولُ ينطلق من منطلقين:
1- المنطلقُ السّياسيّ. والمتمقل في فرضِ وصايةٍ رسمية على الخِطابُ الدّينيُّ..
ورُبَّما يبّررّ ذلك بالخشيةِ من إِنفلاتِ الخطاب وجنوحِهِ نحو التطرّفِ وإنتاجِ العنفِ والإرهابِ، وكذا الخشية من تكريسِ الكراهيةِ والفتنةِ والطائفيةِ مما يسيءَ إلى أمنِ الأوطانِ وإلى وحدةِ مكونهاتِها، ويدفعُ إلى تأزيمِ أوضاعها..
إنّنا لا ندافعُ عن خطابٍ من هذا الطراز؛ كونَهُ خطاباً لا ينتمي للهوية الدّينية، ولا يعبّر عن أصالةِ الإنتماء إلى الأوطان، ولا يعتمد الأدواتِ المشروعةِ..إنّما ندافعُ عن خطابٍ يعبّر عن قيم الدّينِ ونقائِهِ، واهدافِهِ، وتوابتِهِ، ومسلمّاتِهِ، وضروراتهِ..
إنّما ندافعُ عن خطابٍ يحمل قضايا الشعوب، وهمومها، ووحدتَها، ويحتضنُ همومَ الأوطان، ومصالحَها، ويحمي أمنها وإستقرارها..
إنّما ندافعُ عن خطابٍ لا تنفلتُ أدواتُهُ ووسائُلُه ولغتُهُ وكلماتّه..
فما الخشيةُ من خطابٍ هذه هويتُهُ، وصبغُتُه، وأهدافُهُ، وأدواتُه..؟؟
ولماذا الإصرارُ على إخضاعِهِ لقرارِ المؤسّساتِ الوضعية، ورغبةِ الأنظمةِ الرسمية..؟
2- المنطلق الفكري والذي اعتمد ثلاثةَ مبرّرات ٍ لا تصمدُ أمام النقدِ والمحاسبة..
فالمبرّرُ الأول يعتبرُ الشّأنَ السّياسيّ خارجاً عن وظيفةِ الخِطابِ الدّينيّ..
وفي هذا تحجيمٌ خطيرٌ لدورِ الدّين، ولوظيفة الخِطابِ الدّينيّ، فيما تفرضُه هذه الوظيفةُ من الدّفاع ِ عن قضايا الشعوب، والتعبيرِ عن هموِمها والآمِها ومعاناتِها.. وفيما تفرضُهُ من إعتمادِ “الكلِمة” فقط، وهذه الكلمةُ التي تحملُ ” الحكمةَ، والموعظةَ الحسنة، والمجادلةَ بالتي هي أحسن”
إسترشاداً بقول اللهِ تعالى:
• “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”
وهذه “محدّدات” الخِطاب الدّينيّ والتي لا يجوزُ الإنفلاتُ منها مهما كانت المبرّراتُ.. وسواءً أكانت المعالجاتُ عقيديةً وفكريةً وفقهيةً، أو كانتْ روحيةً وأخلاقيةً وسلوكيةً أو كانت إجتماعيةً وإقتصاديةً وسياسيةً..
فمادام الخطابُ مُحصّناً بهذه المحدّداتِ فلا مشكلة في أنْ يقاربَ أيَّ شأنٍ من شؤونِ الحياةِ..
إمّا المبرّرُ الثاني والذي يعتبر الخِطابَ الدّينيّ غير مؤهّلٍ لمعالجةِ شؤونِ السّياسةِ، فهو مبرّرٌ ساقطٌ، لا يملك قيمةً علميةً.
لا نريد أنْ ندّعي أنَّ كلَّ المنابرِ الدّينيةِ تملك رشداً سياسياً.. هذه دعوى باطلةٌ قطعاً..
ولكن أنْ يدّعي أنَّ كلَّ هذه المنابَرِ مُفلِسةً سياسياً، ولا تملك أيَّ رُشدٍ في هذه الشأن..
هذه الدعوى مِنها نرقٌ وطِشٌ، وتحمل جهلاً فاضحاً، فهلْ يمكنُ لكفاءاتٍ علميةٍ تخصّصتْ في أعقدِ المسائلِ الفقهيةِ والدّينية أنْ تكونُ عاجزةً في أنْ تفهمَ شيئاً من شؤونِ السّياسية، وأفكارِ السّياسة، هذه الشؤون التي أصبحت مفتوحةً أمامَ الرأي العام، وامامَ كلِّ المستويات..
لا أريدُ أنْ استهينَ بقيمةِ الوعي السّياسي..
ولا أريدُ أنْ أقول أنّه لا يوجد خبراء في الشأنِ السّياسي ..
ولا أريدُ أنْ أقول أنَّ من حقَّ أيّ إنسانٍ أنْ يكون مُنّظراً سياسياً وإنء كان لا يفهم (ألف باء) السّياسة..
ما أريدُ أنْ أقولَهُ أنَّ تجريدَ كلَّ أصحابِ الخطابِ الدّيني من كفاءاتِ السّياسة وقدراتِها أمرٌ لا يستندُ إلى مصداقيةٍ واقعيةٍ، ففي السّاحةِ علماءُ فقهٍ وشريعة، وقُدراتُ دينً يملكونَ من كفاءاتِ السّياسةِ ما يعترف به منظرٌ السّياسة في هذا العصر..
وما لا نشكُ فيه أنَّ التعاطي مع الشأنِ السّياسي في مساراتِه النظريةِ والعمليةِ يفترضُ التوافرَ على “القدراتِ والكفاءاتِ”، وإلاّ شكّلَ هذه التعاطي إرباكاً لمساراتَ السّياسة، ولا فرق في ذلك أن يكون المتصدّي عالمَ دينٍ أو غيرَه..
وثالث المبرّراتِ التي يطرحُها أصحابُ الإتجاهَ الأول والذي يخطرُ على المنبرِ الدّيني أن يتعاطى مع الشأنِ السّياسي هو الشفقة على حملةِ الدّين من التلوثات السّياسية..
وهذه كلمةُ حقٍّ يرادُ بها باطل كما قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام) حينما طرح الخوارجُ شعار”لا حكم إلاّ لله” ..
قد يبدو هذا المبرّرُ وجيهاً لدى البعضِ لسببين:
السَّببُ الأولُ: كون السّياسة في واقِعها المتحرك مشحونةً بالكذبِ والزيفِ والدّجل..
السَّببُ الثاني: الرغبةُ في الحفاظِ على المكانةِ الرّوحيةِ النقيّة لعلماءِ الدّين..
إلاّ أنّنا لا نسلّم بصحةِ هذا المبرّر لتعطيل دور المنابرِ الدّينية في التصدّي لهموم الناسِ وقضاياهم على كلِّ المستوياتِ الرّوحية والإجتماعية والثقافية والسّياسية.
نعم نوكّدُ إعتماد ” القيم والمعايير النظيفة” في التعاطي مع الشأنِ السّياسي، وهل مأساةُ السّياسةِ في هذا العصرِ وكلَّ عصر إلا غياب هذه القيم والمعايير..
إنّ النظافَة السّياسية من العناوين الكبيرة التي يجب العمل من أجل تحقيقها، وفي هذا حماية للأوطانِ وصلاحٌ للشعوب..
ومن أهم الوسائِل لإنتاج النظافةِ السّياسية، أنْ يكون القيّمون على شؤون السّياسة والمتصدّون لها يملكون درجاتٍ عالية من “النظافة”، وبقدر ما تتوافر هذه النظافةِ تتصحّح مساراتُ السّياسة، وتنجح مشروعاتُ الإصلاحِ والتغيير والبناءِ، وتتعزّزُ الثقةُ في النفوسِ..
للحديث تتمةٌ إنْ شاء الله تعالى..
كلمة أخيرة:
إنّنا مع كلَّ النداءاتِ التي تطالبُ بالإفراج هم أبنائنا المعتقلين، ليعودوا إلى مدارسهم، فموقعهم أنْ يكونوا على مقاعدِ الدّراسةِ وليس خلف القضبانِ، موقعهم أن يكونوا في المدراس وليس في السّجون، أمر مؤلمٌ أنْ تبقى عيونُ هؤلاءِ الأبناءِ مشدودةً إلى الأطفال أفواجاً أفواجاً يزحفون إلى المدراس وهم يقبعونَ في السّجون..
ما ينتظر هؤلاء من مستقبل؟
إنّه مستقبلٌ بلا دراسة، بلا علم، من حقّهم أنْ يدرسوا، أنْ يتعلموا لا أنْ يكونوا رهن الإعتقال..
قد يُقال: إنّها مسؤولية مَنْ زجًّ بهؤلاءِ الأطفال إلى الشوارعِ، وإلى أجواءِ السّياسة..
لا نريد أنْ نحاسب الأسبابَ التي تدفع الناس أنْ يكونوا في الشارع، وأن يكونوا معارضين..
ولا نريد أنْ نبرّر لأيّ عملٍ يحدثُ في الشارع..
إلاّ أنَّ الهمومَ الثقيلة التي يعيشها الناس، تدفه بهم أنْ يقولوا كلمةً، أنْ يعلنوا رفضاً، أنْ يكونوا في مسيرة، ولا فرق في ذلك بين كبير وصغير، ولا بين رجلٍ وأمرأة، ولكن حينما تتحرك الحكمةُ تصحح الأوضاع ..
إنَّ رجَّ الأطفال في المعتقلاتِ أمرٌ في غاية السّوء.. يجب أنْ تعالج قضايا هؤلاء بأساليب غير السّجون والمعتقلات…
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين