حديث الجمعة 407:من آثار الذُّنوب أنها تهتك العصم (2) – الخطابُ الدِّينيُّ ومقاربةُ الشَّأن السِّياسي (2) – تفجير كرانة
بِسمِ الله الرَحمنِ الرحيم
الحمد للهِ ربَّ العالمين، وأفضلُ الصلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين، وبعد فمع أكثر من عنوان…
من آثار الذُّنوب:
جاء في دعاء كميل هذا المقطع: «اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ».
ما معنى تهتك العصم؟
أي تفضح السِّتر، فمن الذُّنوب ما تُعرِّض الإنسان إلى الفضيحة بين النَّاس.
تحدَّثت الروايات عن بعض هذه الذنوب:
1. الغيبة:
• في الكلمة عن الإمام الصَّادق عليه السَّلام:
«إنَّ للهِ تباركَ وتعالى على عبدِهِ المؤمن أربعين جُنَّةً، فمتى أذنبَ ذنبًا كبيرًا رُفع عنه جُنَّةً، فإذا اغتاب أخاه المؤمن بشيئٍ يعلمُهُ منه انكشفت تلك الجُنَنُ عنه، ويبقى مهتوك السِّتر فيفتضح في السَّماء على ألسنةِ الملائكةِ، وفي الأرض على ألسنةِ النَّاسِ، ولا يرتكب ذنبًا إلَّا ذكروه، وتقول الملائكة الموكلون به: يا ربَّنا قد بقي عبدُك مهتوكَ السِّتر وقد أمرتنا بحفظِهِ، فيقول عزَّ وجلَّ: ملائكتي لو أردتُ بهذا العبد خيرًا ما فضحتُهُ فارفعوا أجنحتَكم عنه، فوعزتي لا يؤول بعدها إلى خير أبدًا».
2. تتبع عوراتِ المؤمين:
• قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«لا تتبعُوا عوراتِ المؤمنين، فإنَّه مَنْ تتبَّع عوراتِ المؤمنين تتبَّعَ اللهُ عورته، ومَنْ تتبَّعَ اللهُ عورتهُ فضحَهُ ولو في جوف بيتِهِ».
• وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«يا معشر مَنْ آمن بلسانِهِ ولم يصلْ الإيمان إلى قلبه، لا تتبعُوا عوارتِ المؤمين، ولاتذمُّوا المسلمين، فإنَّه مَنْ تتبَّعَ عوراتِ المؤمنين تتبَّعَ اللهُ عوراتِه، ومَنْ تتبَّع اللهُ عوراتِهِ فضحَهُ في جوفِ بيتِهِ».
3. مَنْ عيَّر مؤمنًا بشيئ:
• قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«مَنْ أذاع فاحشةً كان كمبتدئها, و مَنْ عيَّر مؤمنًا بشيئٍ لم يمت حتَّى يرتكبه».
4. مَنْ تكلَّم في عيوبِ النَّاس:
• قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«كان بالمدينة أقوام لهم عيوبٌ، فسكتوا عن عيوب النَّاس، فأسكت اللهُ عن عيوبهم النَّاس فماتُوا ولا عيوب لهم عند النَّاس، وكان في المدينة أقوامٌ لا عيوب لهم فتكلموا في عيوبِ النَّاس فأظهر الله لهم عيوبًا لم يزالوا يُعرفون بها إلى أنْ ماتوا».
5. شرب الخمر:
• قال الإمام الصَّادق عليه السَّلام: د
«والذنوبُ التي تهتك السِّتر شرب الخمر…».
6. مَنْ أسرَّ ما يُسخط الله تعالى:
• قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«مَنْ أسرَّ ما يُرضي الله عزَّ وجلَّ أظهر اللهُ له ما يُسِّرهُ، ومَنْ أسرَّ ما يُسخط الله تعالى، أظهر الله له ما يخزيه».
• قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«مَا أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيرَةً, إِلَّا أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا، إِنْ خيرًا فخيرٌ وإِنْ شرًّا فشرٌّ»
• وقال الإمام الصَّادق عليه السَّلام:
«ما مِن عبد أسرَّ خيرًا فذهبت الأيام أبدًا حتى يظهر الله له خيرًا، وما مِن عبدٍ يسرُّ شرًّا فذهبت الأيام حتى يظهر الله له شرًّا».
هكذا تهتك العصم، وتنفضح الأستار بسوء أعمال العباد، رغم أنَّ الربَّ الجليل ستَّار ستَّار على عبادِهِ، لا يريد لهم الافتضاح.
• قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:
«للمؤمن اثنان وسبعونَ سترًا، فإذا أذنب ذنبًا انتهك عنه سترٌ، فإنْ تاب ردَّهُ الله إليه وسبعةً معه، فإنْ أبى إلَّا قُدُمًا قُدُمًا في المعاصي تهتك عنه أستارُهُ..
فإنْ تابَ ردَّها اللهُ إليه، ومع كلِّ سترٍ منها سبعة أستار،
فإنْ أبى إلَّا قُدُمًا قُدُمًا في المعاصي تهتك عنه أستارُه وبقي بلا ستر،
وأوحى الله إلى ملائكتِهِ أن اسْتُرُوا عبدي بأجنحتِكُم، فإنَّ بني آدم يعيِّرون ولايغيرون، وأنا أغير ولا أعيِّر،
فإنْ أبى إلَّا قُدُمًا قُدُمًا في المعاصي شكتْ الملائكةُ إلى ربِّها، ورفعتْ أجنحتَها: يا ربِّ إنَّ عبدَكَ هذا قد أقدمنا ممَّا يأتي من الفواحشِ ما ظهر منها وما بطن،
فيقول الله تعالى: كفّوا أجنحتَكم، فلو عمل بخطيئةٍ في سوادِ الليل أو في ضوء النَّهار، أو في مغارةٍ، أو في قعرِ بحر، لأجراها الله على ألسنةِ النَّاس، فسلوا الله تعالى أن لا يهتك أستاركم».
الخطابُ الدِّينيُّ ومقاربةُ الشَّأن السِّياسي:
طرحت في حديث الجمعة الماضية هذا السؤال:
هل يحقُّ للخطاب الدِّينيّ أنْ يقاربَ الشأنَ السِّياسي؟
هنا ثلاثة اتجاهات في الإجابةِ عن هذا السؤال:
(الاتجاه الأول):
يحظر حظرًا تامًا على الخطاب الديني أن يقتحم السَّاحةَ السِّياسيةَ وأنْ يُقارِبَ شؤونها.
وينطلق هذا الاتجاه من أحد منطلقين:
الأول: المنطلق السِّياسي البحت:
فالسِّياساتُ الحاكمة لها أهدافُها وأغراضُها، وفي سياقِ هذه الأهدافِ والأغراض يأتي إصرارُ الأنظمة على عزل الخطاب الدِّيني عن مساراتِ السِّياسة، ربَّما بدافع الهيمنة على توجيه الخطاب، وربَّما لقناعاتٍ أخرى، ودوافع أخرى…
النتيجة أنَّ هذا الحظر هو حظر سياسيٌّ بحت، لا أتحدث هنا عن صحة أو خطأ هذا المنطلق.
الثاني: المنطلق الفكري:
ويعتمد هذا المنطلق مجموعة مبرِّرات:
المبرِّرُ الأولُ:
إنَّ المساحةَ السِّياسية لا تدخلُ ضمن وظائف الخطاب الدِّيني، هذه الوظائف التي تتمركز حول معالجة الشأن الدِّيني، فيما هي العلاقة بين الإنسان وخالقه، وفيما هي عباداته، وأخلاقه، وشؤونه الأسرية والاجتماعية والاقتصادية، وأمَّا الشأنُ السِّياسيّ بكلِّ متغيراته الزمانية والمكانية فهو متروك للعقل البشري المتجدِّد، ولحاجاتِ الإنسان المتطورة، ولا علاقة للدِّين بها.
المبرِّرُ الثاني:
إنَّ المقارباتِ السِّياسية في حاجةٍ إلى مؤهلاتٍ كفوءةٍ قادرة، وهي مفقودةٌ لدى المتصدِّين للشأنِ الدِّيني، كونهم متخصِّصين في هذا الشأنِ، وأمَّا الشأن السِّياسي فله رجالُهُ، وكفاءاتُه، وقدراته، فكما لا يحقُّ لمن هم خارج التخصُّص الدِّيني أنْ يقتحموا المساحةَ الدِّينية، كذلك لا يحقُّ لمن هم خارج التخصُّص السِّياسي أنْ يقتحموا المساحةَ السِّياسية ويربكوا أوضاعها، ما داموا لا يملكون خبرة هذه السَّاحة، فليتركوا السَّاحة لرجالها.
المبرِّر الثالث:
إنَّ السَّاحةَ السِّياسيةَ تزدحم بالكثير من التلوثاتِ وبما تحتضنه من ألاعيبَ وأكاذيبَ ودجلٍ ونفاقٍ، وهذا يتنافى مع المكانةِ القدسيةِ لحملةِ الدِّين، هذه المكانة التي تفرض مواصفاتٍ روحيةً وأخلاقيةً تأبى الانزلاق في عالم السِّياسة المملوء بكلِّ الأوباء والمفاسد والمصالح والتناقضات والتجاذبات والخلافات، فمن أجل أنْ يحتفظ علماءُ الفقه وحملةُ الدِّين بنظافتهم وطهرهم ونقائهم يجب أن يبتعدوا عن هذه السَّاحة الملوثة والموبوءة والمشحونة بالمنزلقاتِ الخطيرة، ويجب أن لا يضحُّوا بقيمهم ومثلهم من خلال الولوج في أجواء شديدة التلوث الروحي والأخلاقي.
هذه المبرِّرات الثلاثة قد تبدو لأول وهلةٍ أنَّها مبرِّرات علمية ومنطقية، إلَّا أنَّها ليست كذلك، وفيها الكثير من المغالطات، ولا تتسع الكلمةُ هنا للتفصيل في المناقشة والمحاسبة، وأكتفي ببعض ملاحظات سريعة:
المبرِّر الأول (الشأن السِّياسي خارج وظائف الخطاب الدِّيني)
ونلاحظ عليه:
أولًا: إنَّ الدِّين ينتظم كلَّ علاقاتِ الإنسان الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسِّياسية، فخطاب الدِّين يجب أن يتسع لكلِّ هذه العلاقات، وإنَّ أيّ محاولةٍ لاجتزاء هذا الخطاب تعبِّر عن فهمٍ مغلوط للدِّين، وتعبِّر عن رؤية تحاول إقصاء الدِّين عن مواقع الحياة.
ثانيًا: حينما نتحدَّثُ عن خطابٍ دينيّ يقارب شأنًا سياسيًا لا نريد أنْ نحوِّل المنبرَ الدِّينيَّ إلى أحد متاريس السِّياسة في مواجهاتِها ومعاركِها وصداماتِها وانشغالاتها، ممَّا يجعل الخطاب الدِّينيّ منحازًا عن أهدافه في الدَّعوة والتبليغ، والمناصحةِ والتوجيهِ، وترشيدِ أوضاعِ السَّاحةِ، وملامسةِ قضايا النَّاس وهمومهم، والتعبيرِ عن رؤى الشرع وأحكامِهِ، وعن مفاهيمِ الدِّين، ومبادئِه، وقيمهِ، وأخلاقِهِ.
فهذه المساحةُ هي من صميم مسؤوليات المنبر الدِّيني، والتخلِّي عنها يشكِّل تخلِّيًا عن الوظيفة الشرعية والتكليف الإلهي.
فحينما نتحدَّث عن مساحة المسؤوليات فهي تتسع باتساع مساحة الدِّين، وامتداداته.
إلَّا أنَّ الخطابَ في تعاطيهِ مع هذه المساحةِ، وهذه الامتداداتِ يجب أنْ تحكمه شروطٌ موضوعية، وإلَّا وقع الخطابُ الدِّيني في منزلقاتٍ خطيرة، فأمام الخطاب محذوران صعبان:
المحذور الأول:
التفريط في المسؤوليات كما حدَّدها الدِّين، وكما هي مساحاتُه الروحية والأخلاقية والعقيدية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
المحذور الثاني:
الإفراط في تجاوز الشروط الموضوعية، والتي تعطي للمسؤلياتِ مساراتها كمًا وكيفًا.
فالمحذور الأول أنتج خطابًا دينيًا مُتقاعسًا، مُتخاذلًا، مُفرطًا، صمتَ حيث يجبُ النطقُ، وضعُفَ حيثُ تجبُ الشجاعةُ، وهربَ حيثُ يجبُ الثباتُ، وداهَنَ حيث تجبُ المصارحة، وساوَمَ حيث تجبُ المكاشفة…
والمحذور الثاني أنتج خطابًا دينيًّا منفعلًا متشدِّدًا مرتبكًا مرتجلًا مفرطًا خاسرًا منزلقًا…
أخلص إلى القول:
أنَّ تعاطي الخطاب الدِّيني مع الشَّأن السِّياسي – إذا كان وفق الضوابط – هو من صميم مسؤولياتِه، وسَمِّي هذا التعاطي ما شئتَ، سمِّه دينيًا، سياسيًا، ثقافيًا، حقوقيًا…
وإذا كانت التسمية هي المشكلة، فلنعطها أي اسم إلَّا (السياسة) ما دام هذا العنوان ينتج حساسيةً مفرطةً، المهم أنْ يبقى الخطاب الدِّنيي يمارسُ مسؤولياتِه كما حدَّدها التكليف الشرعي، رغم أن عنوان (التكليف الشرعي) باتَ يشكِّل عقدةً لدى البعض.
نتابع الحديث – إن شاء الله تعالى – في مناقشة مبرِّرات (الاتجاه الأول) والذي يحظر على الخطاب الديني اقتحام السَّاحة السِّياسية، وكذلك نتابع – إن شاء الله – الاتجاهين الآخرين.
كلمة أخيرة:
إنَّ ما حدث في قرية كرانة من تفجير أمرٌ شائن جدًا، ندينُهُ، ونستنكرُهُ، فللأرواحِ والدماءِ حرمتُها، فالاعتداء عليها انتهاك لهذه الحرمة، وتجاوز لأحكام الدِّين والشرع.
إنَّ مَنْ يمارس هذه الأعمال لا يريد خيرًا لهذا الوطن، ولا يريد أمنًا لهذا الشعب.
إنَّ الاستنكاراتِ والإدانات لأعمال العنف والإرهاب والتطرُّف مطلوبة وبشدَّة، وتشكِّل ضرورة، إلَّا أنَّ التصدِّي الحقيقي لهذه الأعمالِ الضَّارة بالأوطان أن تعالج أسباب الأزمات معالجة حقيقية، وأن يؤسَّس لمشروعاتٍ قادرة أن تنقذ البلدان من أوضاعها المعقَّدة…
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين