حديث الجمعة 406: الخِطابُ الدِّينيُّ… المسؤلياتُ والإشكالاتُ
بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيم
الحمد للهِ ربَّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين، وبعد فأتناول في حديث الليلة هذا العنوان
الخِطابُ الدِّينيُّ… المسؤلياتُ والإشكالاتُ:
عنوانٌ يحملُ درجةً كبيرةً من الخطورةِ والحساسية، كونَ الخطابِ الدِّيني يُشكِّلُ الموجِّهَ الأساسَ لوعي النَّاسِ، ولحركتِهم، ولمواقفِهم على كلَِّ المستوياتِ، مادام الدِّينُ ينتظمُ كلَّ حياةِ الإنسانِ، فإذا استقامَ هذا الخطابُ استقامَ دينُ النَّاسِ، واستقامتْ حياتُهم، وإذا زاغَ هذا الخطابُ شكَّلَ خطرًا على دين الناسِ، وبالتالي على كلَِّ واقِعهم العقيدي والفكري والروحي والأخلاقي والحياتي..
وربَّما قاد النَّاسَ إلى منزلقاتٍخطيرة…
هنا تكونُ الخطورةُ في التعاطي مع هذا العنوانَ، ثمَّإنَّه عنوانٌأصبح محطًّا لتجاذباتٍ صعبة في هذا الزمن، وكذلك أصبح موقِعًا للكثير من الاستهدافاتِ والتشكيلاتِ والاستقطابات…
أبدأ حديثي بإعطاءِ توضيحٍ لمعنى الخِطابِ الدِّيني.
فماذا يعني هذا المُصطَلح؟
شاع في أدبياتِ هذا العصر استعمالُ مفردةِ(الخِطاب الدِّيني)(الخِطابُ السِّياسي)(الخِطابُ الثقافي) وأنواع أخرى من الخِطاب…
مُصطلحُ الخِطاب يعني مجموعةَ رؤى وأفكارٍ يُخاطبُ بها النَّاسُسواءًأكانت مكتوبةً أو منظومةً.
فإذا كانتْ هذِه الرُؤى والأفكارُ دينيةً سُمِّيَ الخِطابُ(خطابًا دينيًّا) أو (خِطابًا إسلاميًّا).
وإذا كانتْ هذه الرُؤى والأفكارُ سياسيةً سُمِّيَ الخِطابُ(خِطابًا سياسيًا).
وهكذا بقيةُ التسميات (الخِطابُ الأدبي)(الخِطابُ العلمي)(الخِطابُ الحقوقي)(الخِطابُالاقتصادي)… إلى آخر التسميات.
والخِطابُ قد يُمثِّل شخصًا فيقال: “خِطابُ فلان”.
وقد يُمثِّل جماعة فيقال: “خِطابُ العلماء” “خِطاب الأطباء” “خِطاب المثقفين”.
وقد يُمثِّل مؤسَّسة أو جمعية فيقال: “خِطابُ المؤسَّسة” أو “خِطاب الجمعية”.
وقد يُمثِّلُ شارعًا فيقال: “خِطابُ الشارع”.
وقد يمثِّل سلطةً أو نظامًا أو دولةً فيقال: “خِطابُ السلطة” أو “خِطابُ النِظام” أو “خِطابُ الدَّولة”.
حديثنا هنا عن (الخِطاب الدِّينيّ)، والحديث عن الخِطابُ الدِّيني الإسلاميّ وليس عن أيّ خطابٍ ديني آخر.
ويُطلق الخِطابُ الدِّيني الإسلاميُّ على نمطين من الخِطاب:
(النمط الأول):
النصُّ الدِّيني نفسُهُ، ونعني بالنصِّ الدِّيني:
1- الآيات القرآنية الشريفة.
2- السُّنة النبوية المطهَّرة.
ويُلحقُ بالسُّنة -وفق المنظور الشيعي الإمامي -ما صدَرَ عن الأئمةِ من أهلِ البيت عليهم السَّلام.
(النمط الثاني):
ما يُستنبط من الكتابِ والسُّنةِ أو أيَّ مصدرٍ ثَبُتَتَ حُجيتُهُ، ويعبِّر عن هذا النمط بـ (النِتاجاتِ الاجتهادية) فيما هي قضاياالفقهِ، أو قضايا المفاهيم الدِّينية.
وبين النمطين من الخِطاب الدِّيني فوارقُ جوهرية:
الفارقُ الأولُ:
النصُّ الدِّيني (الكتاب والسُّنة) مقدَّسٌ، فلا يجوز المساسُ به بأيِّ شكلٍ من الأشكال، ولا تجوزُ مخالفتُه، أو الاعتراض عليه.
ولا مانع من أنْ تتعدَّد القراءات في فهم (النص) متى ما كانت هذه القراءاتُ مُؤَهَّلةً وكفوءةً.
وأمَّا (النتاجاتُالاجتهادية في فهم النصِّ) فلا تحملُ قداسةَ النصَّ، ويجوزُ نقدُها، ومحاسبتُها، ومخالفتُها لمن يملكُ(ادواتِ الاجتهادِ والنقدِ والمحاسبة).
الفارقُ الثاني:
النصُّ الدِّيني معصومٌ بخلافِ النتاجاتِ الاجتهاديةِ فيمكن أنْ تُصيبَ، ويمكنُ أنْ تُخطِئ.
نعم هذه (النتاجاتِ الاجتهاديةِ) تُشكِّل (حُجةً شرعيةً) تُعتَمد، متى ما توفرَّت شروطُ الحُجية.
الفارقُ الثالثُ:
النصُّ الدِّينيُّ(الكتابُ والسُّنة)مصادرُ تشريعيةٌ لاستنباطِ أحكامِ ومفاهيمِ الدِّين.
بخلافِ(النتاجاتِ الاجتهاديةِ) فهي معطياتٌ للمصادر التشريعية، وهي (حُجَةٌ) في مقام التبنيِّ والعمل بالنسبة للفقهاء أنفسهم أو مَنْ يعتمد أراءَهم.
ونتيجة للخلط المتعمد بين النمطين من الخطاب وجدنا بعض الكتَّاب (الحداثويين) يطلقون هذه العبارات:
نقدُ الفكر الدِّيني
نقدُ العقلِالدِّيني
نقدُ الخِطاب الدِّيني
دونما تفريق بين (النصّ المتمثِّل في الكتاب والسُّنة) و(التفسيرات الاجتهادية) وهذا خلطٌ له أغراضٌ سيِّئةٌ ومشبوهة.
صلاحياتُ الخِطابِ الدِّيني:
وهنا سؤالٌ مهمٌ جدًّا يجب أنْيُطرح:
مَنْ الَّذي يُحدِّدُ صلاحياتِ الخِطابِ الدِّيني؟
تُطرح عدَّةُ إجابات:
الإجابةُ الأولى:
إنَّ السُّلطة السِّياسية هي التي تحدِّدُ صلاحياتِ أيّ خطاب، دينيًا كان أو سِياسيًا، أو ثقافيًا…
كون هذه السُّلطة هي المعنية بالشأن العام، وهي المعنية برعاية مصالح البلاد والعباد.
فالخروج على قراراتِ السُّلطة له أثار خطيرة على أوضاعِ الأوطانِ، وأوضاعِ الشعوب فمن حقِّ أيّ سلطة سياسية أن تُحدِّد وظائف الخِطابِ الدِّيني وغيره…
الإجابةُ الثانيةُ:
إنَّ الشعبَ هو صاحب القرار في أنْ يمنح الخطابَ الدِّيني أو السِّياسي أو الثقافي صلاحياتِه ومسؤولياتِه، كون الشعب هو مصدر السُّلطات، فمن حقِّه أنْ يمنح للخطاب صلاحياتِه، أو أنْ يمنعَها، أو أنْ يحدِّد مساحاتها.
وفي ضوء ذلك يحب أنْ يستنطق أصحابُ الخِطاب الدِّيني أو السِّياسي رأيَ الشعب، وأنْ يكون خطابُهم معبِّرًا عن إرادةِ هذا الشعب، فيما هي مضامينه، وفيما هي مساحاتُه، وصلاحياتُه…
ويفقد الخطاب دينيًا أو سياسيًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا شرعيته حينما يصطدم مع إرادةِ الشعب، والحديث هنا ليس عن إرادةِ أفراد أو جماعات وإنَّما عن إرادة كلِّ الشعب أو أغلبيته.
الإجابةُ الثالثةُ:
إنَّ المرجعَ في تحديدِ صلاحياتِ الخِطابِ الدِّيني هو الدِّينُ نفسُهُ.
فالخطابُ الدِّيني هو أداةُ التبليغ الذي أمَرَ بهِالدِّينُ حيث قال:
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَوَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾ (الأحزاب:٣٩)
النصُّ يتحدَّث عن الأنبياء، إلَّا أنَّ حمَلةَ الدِّينِ هم امتدادٌ لحركةِ الأنبياء، فهم يحملون مسؤولياتِ التبليغ لدين الله والخطابُ الدِّيني هو أداةُ الدَّعوة إلى اللهِ التي أمر بها الدِّينُ حيثُ قال:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَالْمُسْلِمِينَ﴾ (فُصّلت:٣٣)
والخِطابُ الدِّيني هو أداةُ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر الذين أمر بهما الدِّين حيث قال:
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَعَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(آل عمران:١٠٤)
والخِطابُ الدِّيني هو أداةُ الإصلاح الَّذي أَمَرَ بهِ الدِّينُ حيثُقال على لسان نبيِّ الله شعيب:
﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّاالْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِأُنِيبُ﴾) هود:٨٨)
فإذَا كانَ الخِطابُ الدِّيني هو أداةُ التعبير عن (التبليغ) و(الدّعوةِ) و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و(الإصلاح).
وما دامتْ هذه العناوين قد حدَّد الدِّين مساحاتِها،ومسؤولياتِها، وصلاحياتِها، وحدَّد وسائلها وأدواتها.
فمن الطبيعي جدًا أنْ يكون الدِّينُ قد حدَّدَ للخطاب الدِّيني الصَّلاحياتِ والمسؤوليات والأدوات ولم يترك الأمر لأيّ جهةٍ أخرى مهما كان موقعُها وقيمتُها أنْ تحدِّد ذلك.
وإذا كانَ الدِّينُ نفسُهُ هو الذي يحدِّد صلاحياتِ الخِطابِ الدِّيني فلا يُقصد بالدِّين تلك الآراءُ الزائفةُ، المتطرِّفةُ، الطائشةُ ، التكفيريةُ، التي تُشرعِنُ للقتلِ، والفتكِ، والعُنفِ ، والإرهاب، وإنتاجِ الفوضى والعبثِ والاقتتالِ والفتنِ، والصراعاتِ، الطائفيةِ والمذهبية.
هذا ليس دينًا منزلًا من الله، إنَّما هو أهواء شيطانيةٌقُمِّصتْ لباسَ الدِّين.
خِطاب الدِّينُ يجب أن يكون خِطابَ العدلِ والحقِّ والإنصافِ و المحبَّةِ والتسامحِ والتآلفِ والأمنِ، خِطابَ الخيرِ كلَّ الخير للإنسان والأوطان.
خِطاب الدّين ليس خطاب تكفير وتمييز وطائفية وتحرِيض، وليس خِطابَ عنفٍ وتطرُّفٍ وإرهاب وفوضى وعبث…
فإذا مارسَ الخِطاب هذه العناوين فلا يصح أن ينتسب إلى الدِّين الحقِّ.
إشكالية:
تواجه الإجابةَ الثالثة..
تقولُ هذه الإشكاليةَ:
إنَّنا لا نرفضُ أنْ يكونَ الدِّينُ هو المرجع في تحدِيدِ صلاحِياتِ ومسؤولياتِ الخِطابُ الدِّيني، ما دام الخِطابُ دينيًا، وما دام يمارسُ وظيفتَه الدِّينية، وأمَّا إذا تحوَّل خطابًا سياسيًا، وأمَّا إذا أصبح جزءًا من الحراكِ السِّياسيّ، وأما إذا اقتحم معتركاتِ السِّياسةِ وتجاذُباتِ السِّياسةِ…
فلم يَعُدْ خِطابًا دينيًّا، فلا يمكن أنْ تطبَّق عليه حيثياتُواشتراطاتُ ومواصفاتِ الخِطابِ الدِّيني، فالاتكاءُ على مرجعيةِ الدِّين مغالطةٌ مفضوحةٌ، وتدليسٌ مكشوف.
في الإجابةِ عن هذه الإشكالية نطرح سؤالًا مهمًا جدًا، هذا السؤال يقول:
هل يحقُُُّ للخِطابِ الدِّيني أنْ يقاربَ الشَّأنَ السِّياسي؟
أو يتعاطى مع قضايا السِّياسة؟
هناك ثلاثةُ اتجاهاتٍ في الإجابةِ عن هذا السؤال:
1. اتجاهٌ يحظر حظرًا تامًا على الخِطابِ الدِّيني أنْ يقتحمَ السَّاحةَ السِّياسيةَ وأنْ يقاربَ شؤونها.
2. اتجاهٌ يُعطي للخِطابِ الدِّيني مطلق الحقّ في أنْ يقتحمَ هذا الميدانَ بكلَِّ حرية، وأنْ يقاربَ شُؤونَ السِّياسةِ في كلَِّ امتداداتِها ومساحاتِها.
3. اتجاهٌ يُعطي للخِطابِ الدِّيني الحقَّ في أنْ يتعاطى مع بعضِ مساحات ِالسِّياسية، وليس مع كلِّ مساحاتِها وشؤونِها.
نتناولُ هذه الاتجاهاتِ بالتفصيل في حديثٍ قادمٍ إنْ شاء الله تَعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين
والصَّلاة والسلام على محمد وأله الطيبين الطاهرين.