حديث الجمعة 402: كيف نحافظ على العطاءاتِ الروحية للشهر الفضيل؟ – قضيَّة البعثات – كلمة أخيرة حول تفجير سترة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلواتِ على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين محمَّد، وعلى آله الهداةِ الميامين.
كيف نحافظ على العطاءاتِ الروحية للشهر الفضيل:
في الشهر الفضيل تعبَّأنا رُوحيًا، عِشنَا عُشقَ الصَّلاةِ، والدعاءِ، والذكرِ، والتلاوةِ، وعَرَفنا لذَّة العبادةِ، والذوبانِ مع اللهِ، أحْسَسَنَا بقيمةِ الانقطاعِ إليه سبحانه، شَعَرنا بمعنى الطاعةِ، والتقوى والورع، وشَمَلتنا النفحات الربانيةُ، والفيوضاتُ الإلهيةُ، تمنَّينا لو طالتْ ليالي الشهرِ وأيامُهُ، لنتملَّى أكثر فأكثر من عطاءاتِ هذا الشهر ومن بركاتهِ، وخيراتهِ، ولنحظى بالمزيدِ من آلائِهِ ونعمهِ وكرامتهِ…
فماذا بعد فراقنا للشهر الفضيل؟
منِ النَّاسِ، وهم النماذجُ الراقيةُ جدًا، لا أتحدث عن المعصومين فأولئك لهم خصوصياتهم، أتحدثُ عن نماذج ارتقت
في مستوى إيمانِها، وربانيَّتها، وروحانيَّتها، وتَقواها، وصلاحِها، وُطهرِهِا ونقائِها.
هذه النماذج وإنْ ودَّعْت الشهر الفضيلَ زمانًا إلَّا أنَّها لم تفارِقهُ في عطاءاته، وفي كل فيوضاتِهِ، بمعنى أنها تبقى تستحضرُ شهرَ اللهِ في عبادتِها وصلاتِها وذكرِها وتلاوتِها، وذوبانِها مع الله، وعُشقِها للتهجدِ في الأسحارِ وفي إصرارِها على الطاعةِ والتقوى والورعِ والاستقامةِ.
وصنف ثاني من الناسِ وهم أقلُّ درجةً من الصنف الأول، وهم الذين يحتفظونَ ببعضٍ من عطاءات الشهر الفضيل، وببعضٍ من رَوحانيَّتِهِ، وعبادتِهِ، ويندرج ضمن هذا الصنفِ عدة مستوياتٍ، حسب درجاتِ الاحتفاظ بالعطاءاتِ والروحانيَّة والعبادة والطاعةِ والاستقامة، ولا يندرج ضمن هذا الصنف إلَّا من امتلك نسبةً يعتد بها من العطاءات ودرجات الروحانيَّة، وإلَّا كان ضمن الصِّنفِ الثالث الذي نذكره لاحقًا، وكلما ارتقى المستوى كان قريبًا من الصنفِ الأول وكلمَّا انخفض اقترب من الصنفِ الثالثِ .
والصنفُ الثالثُ من الناسِ يُودِّعُونَ الشهر الفضيلَ، ويُودِّعُونَ كلَّ عطاءاتِهِ الروحيةِ والعبادية، وربما احتفظوا بنسبةٍ ضئيلةٍ جدًا من هذه العطاءات، فتتراجع كثيرًا عباداتهم، وتلاوتِهم، وحضورهم في المساجد، وتنخفض كثيرًا المستويات الرُّوحية، وربَّما تلاشتْ وانتهتْ، هذا النمطُ من الناس يخسرون الكثير ممَّا ربحوه في موسم الضيافة الربَّانية، فبقدر ما تبقي العطاءات تبقى الأرباح، وبقدر ما تنتهي العطاءات تنتهي الأرباح، فمن الشقاء كلُّ الشقاء أنْ يضيِّع الإنسان أرباح الشهر الفضيل .
كيف نحافظ على العطاءات والمكاسب؟
هنا مجموعة خطوات:
(1) أنْ نواجه كلَّ الأسبابِ التي تُصادر العطاءاتِ والمكاسب الرمضانية:
وأبرز هذه الأسباب:
1- تلوُّث القلب:
فما دمنا محافظين على نقاء القلب وصفائه وطهارته، فإنَّنا نحصِّنُ العطاءات والمكاسب.
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. (الشعراء: 88 – 89)
«لولا أنَّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت».
فالخطر كلُّ الخطر حينما يتلوَّث القلب، حينما يُصاب القلب بالعمى، حينما يمرض.
﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾. (الحج:٤٦)
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾. (البقرة:١٠)
عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:
«إنَّ للهِ آنيةٌ في الأرْضِ، فأحَبُّها إلى اللهِ مَا صَفَا مِنْهَا وَرَقَّ وصَلبَ، وهيَ القُلوب، فأمَّا مَا رقَّ منها: فَالرِّقَّة عَلَى الإخوان، وأمَّا مَا صَلبَ منها: فَقولُ الرَّجُل في الحقِّ لا يَخَافُ في الله لَوْمَةَ لائِمٍ، وأمَّا مَا صَفَا: مَا صَفَتْ مِن الذُّنوبِ».
وجاء في الكلمة عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
«مَا مِنْ عَبدٍ إلَّا وفي وجْهِهِ عَينَان يُبْصرُ بِهِما أمْرَ الدُّنيا، وعَيْنان في قَلبِهِ يُبصِرُ بهما أمْرَ الآخِرَة، فإذَا أرَادَ بِعبدٍ خَيرًا فتحَ عَيْنَيه اللَّتَينِ في قَلبِه، فأبْصَرَ بِهِمَا مَا وَعَدَهُ بالغَيبِ، فآمَنَ بِالغَيبِ عَلى الغَيبِ».
فالحفاظ على ما اكتسبناه من روحانيةِ الشهر الفضيل ومن معطياتِهِ الإيمانيَّةِ، ومنِ آثارِهِ العملية، وما توفَّرنا عليه إنْ شاء الله من لطفٍ ورحمةٍ وحسناتٍ، الحفاظ على ذلك يعتمد أول ما يعتمد على حماية القلب وتزكيتِهِ وتطهيره، ومراقبته، ومحاسبته.
فما بقي القلب سليمًا، نقيًا، نظيفًا، طاهرًا، توفَّرت أسباب الحصانة للمكتسبات الروحانية والمعطيات الإيمانية، والرصيد الكبير من الحسنات.
ومتى تلوَّث القلبُ، وفَقَد نقاءَهُ، ونظافتَهُ، وطُهرَهُ، انهارت كل المحصِّنات، وتراجعت كلُّ المكتسبات والمعطيات، وإنهار الرصيد من الحسنات… فيا لهُ من خُسران، ويا لهُ من حرمان، فالعاقلُ كلُّ العاقلِ من يحافظ على الأرباح، لا مَنْ يُفرط فيها.
في حديث قادم – إن شاء الله – نتناول الخطوة الثانية من خطوات المحافظة على العطاءات والمكتسبات الرمضانية.
قضيَّة البعثات:
لن أستخدم عبارة (مجزرة البعثات) لأنَّها قد تُكدِّرُ بعضَ الخواطر، وخشية أنْ أمارس في هذا تحريضًا على مؤسَّسةٍ
رسميَّة لها تاريخُها العريق.
وإنَّما أستخدمُ عبارة (قضية البعثات)، هُنا (قضية) تحرَّكت عبر وسائل الإعلان، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، فور توزيع وتصنيف البعثات بالنسبة للطلاب المتفوِّقين والطالبات المتفوِّقات.
ماذا تعني هذه القضية؟
هل هي قضية حقيقية؟
ما أسبابُها، وما خلفياتها؟
الذين سمّوها (مجزرة البعثات)، والغالبية من الطلاب والطالبات الذين يعتبرون أنفسهم مغبونين، ومساحة كبيرة من أبناء هذا الوطن غير راضين عن (نتائج التوزيع) واتَّهموا (الوزارة) بتحكيم (معايير طائفية وسياسية).
وأمَّا المعنيون في وزارة التربية، فينفون كلَّ التهم والادعاءات، ويرون أنَّ الضجَّة مفتعلة، وبدوافع مشبوهة، فالوزارة قد
اعتمدت (المعايير العلمية البحتة) بعيدًا عن كلِّ الحِسابات السِّياسيَّةِ والطائفيَّة.
أينَ هي الحقيقية؟
ما شاع على لسانِ العددِ الكبير من أصحاب الـمُعدَّلات العالية من تظلُّمٍ واضح، حيث قالوا بأنَّهم حُرِمُوا من رغباتهم
العلمية الأولى، بل البعض حُرِمُوا من البعثات، وكان نصيبهم ما يُسمَّى بـــ (المنح الدراسية)؟!
أم ما يُؤكدهُ المسؤولون في وزارة التربية من نزاهةِ وعدالةِ التوزيع؟
ما يحسمُ الموقف، ويكشفُ الحقيقةَ، ويُنهي هذا الجدلَ هو أن تُنشَر عبر وسائلِ الإعلامٍ كُلُّ الكشوفات بمعدلاتِ
المُتفوِّقين والمُتفوِّقات، وتحديد الرغبات الأولى في التخصُّصات، وكيف تمَّت التوزيعات، عندها فقط نستطيع أنْ نَحكمَ للوَزارةِ أو عليها.
فما المانعُ من نشر هذه الكشوفات، وهذه الرغبات والتخصُّصات، والتوزيعات؟
الشفافية، والمُكاشفة، والمُصارحة هي الطريقُ لمعالجة الكثيرِ من الأزمات في كلِّ المجالات، وهو الطريقُ لإنهاءِ
التعقيداتِ بين مؤسَّساتِ السُّلطةِ والمُواطنين، وهو الطريقُ لتأسيس حقوق المواطنةِ الصالحةِ .
هكذا تُحمى الأوطان، كلَّما تَحَصَّن الداخلُ كانت الأوطان في أمنٍ وأمان.
وكيف يَتَحصَّنُ الداخل؟
يتمُّ مِنْ خِلالِ تأسيس المواطنةِ الصالحةِ. ومتى تتأسَّسُ المواطنة الصالحة؟
حينما يتوفَّرُ مُكوِّنانِ:
المكوِّن الأول: حقوق المُواطنةِ.
المكوِّن الثاني: مسؤوليَّات المُواطنةِ.
فأنظمةُ الحُكم مطالبةٌ بتوفيرِ الحقوقِ للشعوب، والشعوب مطابقةٌ بأن تُمارس المسؤوليات.
وهنا سؤالٌ يُطرح:
هل المكوِّنانِ مُتلازمانِ وجودًا بمعنى لا حقوقَ بلا مسؤوليات، ولا مسؤوليات بل حقوق، أم هما مترتبان؟
وإذا قلنا أنَّهما مترتِّبان، فأيُّهما يجب أنْ يكون الأسبق، الحقوق أم المسؤوليات؟
فإن قلنا بأسبقية الحقوق، فهذا يعني أنْ لا تطالبُ الشعوبُ بالمسؤوليات قبل أن تتوفَّر لها الحقوق.
وإنْ قلنا العكس، فهذا يعني أنَّ الشعوب إذا لم تمارسْ مسؤوليات المواطنة فلا يحق لها أن تطالب بالحقوق.
ويبدو أنَّ القول بأسبقية الحقوق هو الأقرب إلى المنطقِ.
وهكذا يتمُّ إنتاج المواطنة الحقيقية الصَّادقة من خلال قيامِ الأنظمةِ بتوفير كلِّ الحقوقِ العادلةِ المدوَّنة في المواثيق
والدساتير والقوانين الصَّالحة.
ويترتبُ على ذلك قيامُ الشعوب بكلِّ المسؤولياتِ تجاه الأوطانِ، من خلالِ الممارسةِ والتطبيقِ، وليس من خلال الكلماتِ
والشعاراتِ. فتغييب الحقوقِ له أثارهُ الخطيرةُ المُدمِّرةُ للأوطان، وكذلك تغييبُ المسؤوليات فكيف تُبنى أوطانٌ بلا مسؤوليات.
هنا يأتي دورُ التفاهم والحوارات في تحصينِ الحقوق، وفي تفعيل المسؤوليات، وأيُّ خيارٍ آخر يقودُ إلى منزلقاتٍ
خطيرة، فما أحوج الأوطان في هذه المرحلةِ الصعبةِ بكلِّ تحدِّياتها القاسية إلى درجاتٍ عاليةٍ من الحكمةِ، لا أعني بهذا التهاون في مواجهة الأخطار، وإنَّما التعاطي المدروس، والذي يُعزِّز الثقة بين الأنظمةِ والشعوب، وبين مكوِّنات
الشعوب، وبمقدار ما تتعزَّز هذه الثِّقة تكون الأوطان والشعوب أقدر على مواجهة الأخطار التي باتت مُرعبة.
كلمة أخيرة:
في هذا الزمن المسكون بالرُعب أصبحت التفجيرات التي تطال الأرواح والممتلكات، تُهدِّد أمن الأوطان ظاهرة تطاردُ
الحياةَ والإنسان في كلِّ مكان، وفي كلِّ البلدان.
هذه التفجيراتُ أعمالٌ محرَّمة ٌ شرعًا، ومُدانة ٌ وفق كلِّ المعايير الإنسانية، ولا يُبرِّرها إلَّا حملة الفكرِ
المتطرِّف، وهُواةُ العُنفِ، وصُنَّاعُ الإرهاب، ومرضى الضمائر.
ما حدث في سترة من تفجير أودى بحياة اثنين من رجال الأمن، وأصاب آخرين عملٌ شائنٌ، ومُجرَّمٌ، ومُدانٌ، ومرفوضٌ،
ويُمثِّل جُنُوحًا نحو العنف، والعبث، وتأزيمِ الأوضاع، ونشر الفوضى.
ما أحوج الوطن في هذه المرحلةِ الصعبةِ، والمملوءة بالتحدِّيات إلى جُهودٍ حقيقيةٍ صادقةٍ في مواجهة الأزماتِ،
ومعالجةِ الإشكالات، لكي نُغلق الطريق أما حملةِ التطرُّفِ، ومُهندِسي الفتن، وصُنَّاع العنفِ، وكلِّ العابثين بأمنِ الأوطان.
المسألة ليست مسألة بيانات واستنكارات رغم ضرورتها وأهمِّيتها، وإنَّما هو العملُ الجادُّ لمعالجة كلِّ الأوضاع الخاطئة، وتجذيرُ، روح الثِّقة، وإنتاجُ المحبَّة والتسامح، والتأسيسُ لمواطنةٍ حقيقية، والتصدِّي لكلِّ مُنتجاتِ العنفِ والتطرُّف، وبالأخص الخطابات المشحونة بالتكفير والكراهية.
نعم نريدُ للخطاب أن يكون جريئـًا، بشرط أن يكون نظيفًا، صادقًا، مُنصِفًا، واعيًا، حكيمًا.
إذا كان الخطاب كذلك حقَّق أثرهُ الكبير ودورهُ الفاعل في الدِّفاع عن الأوطانِ، وحماية الشعوب من كلِّ الأخطار
والتحدِّيات والتأزُّمات والتوتُّرات، ومن كلِّ الاختراقات.
وأمَّا إذا فقد الخطابُ الدينيُّ أو السِّياسيُّ أو الثقافي جُرأَتهُ، وصدقَه، ونظافتهُ، وإنصافهُ، ووعَيهُ، وحكمتهُ كان خطرُه كبيرًا على الأوطان والشعوب، وأزَّم وَوَتَّر، وأربك …
نكرِّر ونشدِّد الإدانة لكلِّ أعمال العنف من أيِّ جهةٍ صدرت، ومهما كانت المُبرِّرات والمُسوِّغات المَطروحة، ومطلوبٌ أن تتوحَّد الجُهودُ في مواجهةِ كلِّ أشكال العُنف، وكلِّ أسباب التأزيم، وكلِّ منتجاتِ الفتن والصراعات، وكلِّ عوامل الفساد…
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.