حديث الجمعة 396: في ذكرى مولدِ الصِّديقة الزهراء (ع) – شهيدُ العصرِ السَّيد محمد باقر الصّدر (1) – نُريدُ خِطابًا يَحملُ همَّ الوطن (2)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلينَ محمَّدٍ وعلى آله الهُداةِ الميامين، وبعد فهذه بعضُ عناوين…
في ذكرى مولدِ الصِّديقة الزهراء (ع):
مَنْ هيَ الصِّدّيقةُ الزهراء (ع):
• عرّفها أبوها صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم وهو خيرُ مَنْ يُعرِّفها فقال:
«فهِيَ فاطمةُ بنتُ محمَّد، وهِيَ بضعةٌ مِنِّي، وهِيَ قلبي وروحي التي بين جنبي، مَنْ آذاها فقد آذاني، ومَنْ أحبَّها فقد أحبَّني، ومَنْ سرَّها فقد سرَّني».
• وقال عنها أبوها صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم:
– «إنَّ الله ليغضب لغضبِ فاطمة، ويرضى لرضاها».
– «فاطمةُ سيِّدةُ نساءُ العالمين».
– «فاطمةُ سيِّدةُ نساءُ أهلِ الجنة».
هذه هيَ الصِّديقةُ الزهراء…
هكذا أراد أنْ يُعرِّفَها رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم، وهكذا أرادَ للمسلمين أنْ ينفتحوا على معرفةِ الزهراءِ، ومعرفةِ شخصيتِها الإيمانية والروحية والرسالية.
فكم هي الزهراءُ حاضرةٌ اليومَ- ولا أتحدَّث عن التّاريخ – في وجدانِ المسلمين، وفي عُقُولِهم، وفي حياتِهم؟
الزهراء فاطمةُ غائبةٌ ومُغيَّبة…
غائبةٌ ومُغيَّبةٌ لدى الغالبيةُ العظمى من المسلمين.
غائبةٌ ومُغيَّبةٌ لدى الكُتَّابِ والباحثين والمفكرين.
غائبةٌ ومُغيَّبةٌ في برامج الإعلامِ والتلفازِ والإذاعةِ والصحافةِ.
غائبةٌ ومُغيَّبةٌ في مناهج التعليم والتربية.
غائبةٌ ومُغيَّبةٌ في منابرِ الدِّينِ والثقافة.
لماذا كلّ هذا الغيابُ والتغييب لأعظم امرأة في تاريخ الدُّنيا؟
هل لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليهِ وآلِهِ وسلَّم لم يُذكِّر المسلمين بموقعِ الزهراء، ومكانةِ الزهراء، وقيمةِ الزهراء؟
هل لأنَّ المسلمين لم يقرأوا ذلك؟
بلى ذكَّرهم رسول الله صلَّى الله عليهِ وآلِهِ وسلَّم بذلك…
بلى ودوَّنت ذلك مصادرُ المسلمين..
بلى وذكَّرهم القرآن بذلك في آيةِ القربى (المودَّة) وآيةِ المباهلة، وآيةِ التطهير، وآيةِ الكوثر، وفي آياتٍ كثيرة…
• أكَّدت كتبُ التفسير، ومصادر الحديث والسِّيرة أنَّه لمَّا نزلت هذه الآية ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى…﴾ {الشورى/23} قالوا: يا رسول الله مَنْ قرابتُك هؤلاء الذين وجبت علينا مَودَّتُهم؟
قال صلَّى الله عليهِ وآلِهِ وسلَّم: «عليٌّ وفاطمةُ وابناهما».
• وأجمعت كُتب التفسير أنَّه لمَّا نزلتْ هذه الآية ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ {آل عمران/61}
خرج رسولُ اللهِ صلَّى الله عليهِ وآلِهِ وسلَّم وعليه مِرْط [كساء] كم شعر أسود، وكان احتضن الحسين، وأخذ بيد الحسن، وفاطمةُ تمشي خَلفَهُ، وعليٌّ خلفها، وهو يقول: «إذا دعوتُ فأمِّنوا».
فلمَّا جَثَا النبيُّ صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم على ركبتيه للمباهلة…
قال أسقف النصارى: جثا والله كما جثا الأنبياءُ للمباهلةِ…، ثمَّ قال: إنِّي لأرى وُجوُهًا لو سألوا الله أنْ يزيلَ جبلًا مِن مكانِهِ لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرضِ نصرانيٌ إلى يوم القيامة».
• وتواترت الرواياتُ عن نزول آية التطهير فيهم، جاء في صحيح مسلم بالإسناد إلى عائشةَ أم المؤمنين قالت: خرجَ النبيُّ صلَّى الله عليهِ وآلِهِ وسلَّم غداةً وعليه مِرْط [كساء] مِن شعر أسود، فجاء الحسنُ بن عليٍّ فأدخله، ثمَّ جاءَ الحسين فأدخله معه، ثمَّ جاءتْ فاطمةُ فأدخلها، ثمَّ جاء عليٌّ فأدخَلهُ، ثمَّ قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ {الأحزاب/33}.
هذه هي فاطمةُ، وهؤلاءَ هم أهلُ البيت، فلماذا يُغيَّبون في ثقافةٍ، أو إعلامٍ، أو مناهجَ، أو منابرَ؟
هل أصبحوا ضمنَ سجالاتِ (المذهبية)؟
همُ لكلِّ المسلمين، فمنْ يحاولُ أنْ (يُمذهبَهم) فقد أساءَ فهمَهُمْ…
همُ كما القرآن لكلِّ المسلمين، فإذا كان القرآنُ عنوانًا لكلِّ المسلمين، فإنَّ أهلَ البيت كذلك عنوانٌ لكلِّ المسلمين…
• ألم يتواتر عن رسول الله صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم أنَّه قال:
«إنِّي تاركٌ فيكم الثقلينَ كتابَ الله وعترتي أهل بيتي ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدًا».
مِنْ الممكن أنْ نَعُدَّ فقيهًا كبيرًا جليلًا كالإمام أبي حنيفة صاحبَ مدرسةٍ اجتهاديةٍ، ومؤسِّس مذهبٍ من مذاهب المسلمين المعتمدة، وكذلك الإمامُ مالك، والإمامُ الشافعي، والإمامُ أحمد، أنْ نعدَّ هؤلاءِ الفقهاءَ الأجلَّاء أصحابَ مدارسٍ اجتهاديةٍ، ومؤسِّسي مذاهبَ معتمدةً لدى المسلمين…
إلَّا أنَّه لا يصحُّ أنْ نعتبرَ الإمامَ الباقر، أو الإمامَ الصَّادق، أو الإمامَ الكاظم، أوالإمامَ الجواد، أو أيَّ واحدٍ مِن أئمَّة أهلِ البيت أنْ نعتبره صاحبَ مدرسةٍ اجتهاديةٍ، أو مؤسِّس مذهب، إنَّهم – وفق قناعتنا – ليسوا مجتهدين، ولا أصحابَ رأي، وإنَّما هم (أئمَّة يُشكِّلون امتدادًا للنبيِّ صلَّى الله عليهِ وآلِهِ وسلَّم) ويُمثِّلون (سُنَّتَهُ) و(خزائنَ علمِهِ).
• نقرأ عن الإمام الصَّادق عليه السَّلام – سادس من أئمَّةِ أهلِ البيت – أنَّه قال:
«حديثي حديثُ أبي، وحديثُ أبي حديثُ جدِّي، وحديثُ جدِّي حديثُ الحسينِ، وحديثُ الحسينِ حديثُ الحسنِ، وحديثُ الحسنِ حديثُ أمير المؤمنين، وحديثُ أميرِ المؤمنينَ حديثُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم وحديثُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليهِ وآلِهِ وسلَّم قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ».
فأهلُ البيت عليهم السَّلام فوق الانتماءِ المذهبي، فيجب أنْ يأخذوا موقعَهُم وحضورَهم لدى كلِّ المسلمين في ثقافتهم، وأدبِهم، وإعلامِهم، وبرامِجهم، ومناهِجهم، ومنتدياتِهم، ومؤتمراتِهم، وفي جميع منابِرهم…
فكمنتمنى أنْ يكون يومُ مولدِ الصِّديقة الزهراء يومًا للمرأةِ المسلمةِ في كلِّ عالمنا الإسلامي، فلا يوم أغنى للمرأة المسلمةِ من يومِ الزهراءِ، ولا مَثَلَ للمرأةِ المسلمةِ بل لكلِّ امرأةٍ في العالمِ من الصِّديقة الزهراء…
لماذا يحتفي المسلمون بمناسباتٍ مُصدَّرة لهم، ولديهم ذخيرةٌ كبيرةٌ من مناسباتٍ وشخصياتٍ غنيَّةٌ بالعطاء الإيماني والرُّوحي والأخلاقي والثقافي؟
نتابعُ الحديث عن الصِّديقةِ الزهراء إنْ شاء الله تعالى.
شهيدُ العصرِ السَّيد محمد باقر الصّدر:
في التاسع من أبريل (نيسان) سنة 1980 ميلادية أُعدِمَ شهيدُ العصرِ السَّيد محمد باقر الصَّدر، وأُعدمتْ شهيدةُ العصرِ آمنة الصَّدر (بنت الهدى) رضوان الله عليهما وذلك على يد طاغية العراق صدَّام…
وبعد ثلاثٍ وعشرين سنة، وفي نفسِ التاريخ التاسع من أبريل (نيسان) سقط نظامُ الطاغيةِ في العراق – بغض النظر عن أسباب هذا السقوط وعوامله ومَنْ وراءه -، وأخيرًا أعْدِمُ الطاغية على يد أبناءِ الشهيد الصَّدر وتلامذته…
أهي مصادفةٌ عمياء؟
لا أعتقد ذلك، إنَّما هي إرادةُ اللهِ وحِكمتُه، إنَّها المشيئةُ الرَّبانيةُ، وأنْ يثأر دمُ الشَّهيدين الصَّدرِ وأختِهِ العلويةِ من القاتلِ جلَّادِ العراق…
هذا قصاصُ الدُّنيا، وهو قصاصٌ أمدُهُ قصيرٌ وعاجلٌ وحجمُهُ محدودٌ ومعدودٌ، أمَّا القصاصُ الأعظم والأقسى هو قصاصُ الآخرة، وحينما تُنصبُ محكمةُ العدلِ الإلهيةِ الكبرى، فيقف طاغيةُ العراقِ موقفَ ذِلٍّ وخزيٍ وعارٍ مذعورًا مرعوبًا، وهو يستمعُ إلى شهيدِ العراقِ السَّيد محمد باقر الصَّدر يقدِّم ظلامَتَه وشكواه إلى ربِّه، يقف متشخبًا بدمِهِ، قائلًا: ربِّ وإلهي هذا قتلني، وقتل شقيقتي، وقتل شعبي، إنَّ الله تعالى مُطَّلع على كلِّ شيئ، إلَّا أنَّها محكمة العدل الكبرى تسمح لكلِّ المظلومين أنْ يُقدِّموا ظلاماتِهم…
والشهيدُ الصدر لا يحملُ ظلامَتهُ فقط، بل يحمل ظلامةَ شعبٍ عانى القهرَ والعذابَ والظلمَ والحرمان…
وهكذا يُقدِّم الشَّهيد الصَّدر ظلامَة شعبِهِ…
يا ربِّ.. هذا الذي أعدمَ وقتل، وسفكَ الدِّماءَ..
هذا الذي دفنَ أبناءَ العراق أحياءَ في مقابر جماعية..
هذا الذي ملأ السجون بعشرات الآلاف من الأحرار..
هذا الذي هتك الأعراض، سحق الكراماتِ، صادرَ الحرياتِ، حاربَ الشعائرِ، دمَّر المُدنِ والقرى، أدخل العراقَ في أسوءِ حُرُوبٍ كان ضحيَّتها الملايينَ من البشر.
ويستمرُ الشَّهيدُ الصَّدرُ يحملُ شكواه وشكوى شعبِهِ إلى ربِّه الحَكَمِ العَدْلِ، ويصدرُ الحُكْمُ العَدْلُ من ربٍّ عدلٍ.
﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ {*} ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ {*} ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ {الدخان/47-48-49} [فَاعْتِلُوهُ: اسحبوه بعنف وقسوة]
بعضُ لقطاتٍ مِنْ حياة الشَّهيد الصَّدر:
(1) عُمرُ الشَّهيدِ الصَّدرِ في يومِ إعدامِهِ:
تعدَّدت الأقوالُ، نظرًا للاختلاف في تاريخ مولده:
أ- عُمْرهُ في يوم استشهادِهِ خمسة وأربعون سنة.
ب- عُمْرهُ في يوم استشهادِهِ سبعٌ وأربعون سنة.
ج- عُمْرهُ في يوم استشهادِهِ ثمانٍ وأربعون سنة.
د- عُمْرهُ في يوم استشهادِهِ تسعٌ وأربعونَ سنة.
ولا يهمُّنا كثيرًا تعدُّد الأقوالِ في عمر الشَّهيدِ الصَّدرِ، فإنَّه رضوانُ اللهِ عليه أصبح عنوانًا أكبرَ مِن كلِّ الزمن، وتحوَّل رمزًا تجاوز مساحة السِّنين، اقتحم كلَّ العصورِ فكانَ مَعْلَمَ حضارةٍ، ومَشْعَلَ هدايةٍ، وصَنَّاعَ أجيالٍ، ومؤسِّسَ هُويةٍ، وبَنَّاءَ أصالةٍ…
فالقيمةُ ليس في (كَمِّ) السِّنين، القيمةُ لمنتجاتِ هذا الكمِّ مِن السِّنين، لقد طالَ عُمْرُ الكثيرينَ، إلَّا أنَّه عَمْرٌ لا يحملُ إلَّا الشَّرَّ، والعبثَّ، والفسادَ، والظلمَ، والجريمةَ، والطيشَ، والضَّلال، والتيهَ، والخواءَ، وكلَّ السُّوء…
وماذا عن عُمْرِ الشَّهيدةٍ بنت الهدى؟
كان عُمْرهَا في يوم استشهادِها ثلاثًا وأربعين سنة وهو عَمْرٌ غنيَّ كلّ الغنى بالعطاءِ، والخيرِ، والعلمِ، والجهادِ، والفيضِ، والبركةِ، ولنا حديث – أكثر تفصيلًا – عن الشَّهيدة بنت الهدى إنْ شاء الله…
(2) معاناة الحجز والحصار:
فرضوا حصارًا على منزلِ السَّيد الصَّدرِ استمر تسعة أشهر، وانتهى بالشهادة…
– منعوا كلَّ الزيارات…
– قطعوا الكهرباءَ والماءَ والهاتف لمدة خمسة عشر يومًا…
– منعوا المواد الغذائية عنه…
• يقول الشيخ النعماني: نظرتُ إلى السَّيد وهو يتغذى بخبز يابسٍ، فتأثرتُ كثيرًا، وقلتُ: سبحانَ اللهِ نائب المعصوم يأكلُ من هذا الفتات، بينما يأكل الطغاة ما لذَّ وطاب..
فقال السَّيد: إنَّ هذا الطعامَ ألذُّ طعامٍ ذقتُهُ في حياتي لأنَّه في سبيل اللهِ، ومن أجلِ الله…
كان السَّيد الصَّدر ينظر إلى أطفالِهِ وهم جياع، وينظر إلى والدتِهِ المريضةِ المقعدةِ تطلب الدواء ولا دواء، ويرى طفلةً له تتلوى من ألم الأسنانِ، وهو لا يستطيع أنْ يوفِّر لها قرصًا مسكّنًا…
ماذا كان يقول؟
(سيموتُ هؤلاءِ جوعًا بسببي، ولكن ما دام ذلك يخدم الإسلام فأنا سعيدٌ به، ومستعدٌ لما هو أعظم، إنَّ ذلك بعين الله…).
وكان يقول: (إنِّني مستعدٌ لأنْ أبقى مع عائلتي محتجزًا مدى العمر، أو أضحي بنفسي وبهم، إذا كان ذلك يحقِّق للإسلام نصرًا في العراق).
[نقلًا عن شهيد الأمَّة وشاهدها للنعماني]
(3) الاعتقال الأخير:
اعتقلوه أربعة اعتقالات:
الأول: سنة 1972
الثاني: سنة 1977
الثالث: سنة 1979
الرابع (الأخير): في 5/4/1980
جاءوا إلى منزله وأبلغوه بأمر الاعتقال وأخذه إلى بغداد، وكأنَّه أحسَّ أنَّه على أبواب الشَّهادة…
قال لهم: انتظروني حتى أغتسل وأبدل ملابسي وأودِّع أهلي، دخل فاغتسل غسلَ الشَّهادة، وصلَّى لربِّه ركعتين، ثمَّ توجَّه إلى والدتِهِ المذهولة المكروبة، وأخذ يدها وضمَّها إلى صدره بين يديه، ثمَّ رفعها إلى فيهِ يلثُمها في حنو، وطلبَ منها الرِّضا والدُّعاء…
ثمَّ احتضن أطفالَهُ يضمُّهم ويقبِّلهُم في لحظاتٍ مملوءة بالدُّموعِ والآهات…
وصرفتْ واحدةٌ من بناتِهِ وجهَهَا إلى الجدار جاهشةً بالبكاء، ضمَّها بين ذراعيه وخاطبها: (ابنتي كلُّ إنسانٍ يموتُ، والموتُ في سبيلِ اللهِ أفضلُ وأشرف، إنَّ أصحابَ عيسى نشروا بالمناشير، وعُلِّقُوا بالمسامير على صلبانِ الخشب، وثبتوا من أجلِ موتٍ في طاعةٍ، لا تكترثي يا صغيرتي، فكلّنا سنموتُ، اليومَ أو غدًا، وإنَّ أكرمَ الموتِ القتل، بنيَّتي أنا راضٍ بما يجري عليَّ).
وجاء دورُ الوداعِ لزوجتِهِ وشريكةِ حياتِهِ، اقترب منها وقال: (يا أختَ موسى، بالأمسِ أخوكِ، واليومَ النديمُ والشريكُ والحبيب، اليوم أنا، لكِ اللهُ جنَّتي وفردوسي تصبَّري، إنَّما هي البيعةُ مع الله، قد بعناهُ ما ليس بمرجوع، وهو قد اشترى سبحانَهُ، يا غريبة الأهل والوطن، حملكِ ثقيلٌ، ولكِ العيالُ، أسألكِ الحلِّ، فأؤلئك هم سودُ الأكباد على بابِكِ ينتظرون، وأنا ذاهبٌ، وعند مَليكٍ مقتدر لنا لقاء).
ثمَّ توجَّه للخروج، فكانت أختُه بنت الهُدى وشريكةُ جهادِهِ بانتظاره عند الباب وهي تحمل القرآن الكريم، فمرَّ من تحتِهِ، ثمَّ قبَّلهُ بهدوء وخرج.
نقلًا عن كتاب (شهيد الأمَّة وشاهدها) للنعماني..
لم تحدِّثنا المصادر أنَّه جرى بينَهُ وبين شقيقتِهِ وَدَاع في تلك اللحظات، لأنَّه على موعدٍ معها في يوم الشَّهادة…
أخذوا الشهيد الصَّدر إلى بغداد وهو يحملُ عنفوانَ وشموخَ جدِّه الحسين عليه السَّلام…
• كيف اعتقلوا الشَّهيدة بنت الهُدى؟
• كيف مارسوا أقسى ألوان التعذيب مع الشهيد الصَّدر، والعَلَوية بنت الهُدى.
• كيف تمَّت عملية الإعدام؟
هذا ما أتناوله في حديث قادم إنْ شاء الله..
نُريدُ خِطابًا يَحملُ همَّ الوطن:
نُتابع هذا العنوان، وهو عنوانٌ يُشكِّل ضرورة وحاجة، فمقاربته ليست من أجلِ الاستهلاك السِّياسي، والترضية والممالأة، والمداهنة على حِساب مصلحة الوطن والشعب، بل هي مقاربة تحاولُ أنْ تُساهمَ في التصحيح والإصلاح، والبحثِ عن مساراتِ التهدئةِ والحلولِ الحقيقيةِ، لكي لا تطولُ محنةُ هذا الوطنِ، ولكي لا تستمرَ معاناة هذا الشعب.
وهذا يفرضُ أنْ تكون المقاربات السِّياسية رشيدةً،صادقةً، جريئةً، معتدلةً، وإلَّا كانت سببًا في مزيدٍ من التأزيم، والإرباكِ، وإضاعة الفرص الحقيقية لإنقاذِ الوطن، ومعالجةِ أوضاعه…
تقدَّم الحديث عن واحدٍ من أبرز هموم الوطن وهو (الأمن)، فأيّ خطابٍ لا يحملُ هذا الهمّ فهو خطاب لا يُعبِّر عن انتماءٍ صادقٍ للوطنِ، ولا يعبِّر عن وعي بمصالح الوطن.
نتناول هُنا همًّا آخر لا يقلُّ أهميةً وقيمةً عن الهمِّ الأوَّل، هذا الهمُّ هو (الوحدة والتقارب)، فمهما تعدَّدت الانتماءات والمكوِّنات والطوائف والمذاهب وهو أمر مشروعٌ بكلِّ تأكيد، مادام قائمًا على أساسِ الحرية في الاعتقاد والانتماء والاختيار، أقول مهما تشكَّل هذا التعدُّد فإنَّ الوطنَ يحتضنُ كلَّ هذه التنوّعات، ليصهرها في الهمِّ المشترك والهدف الموحَّد.
وهذا ما يفرض على الخطاب الدِّيني والثقافي والسِّياسي أنْ يحمل همَّ الوحدة والتقارب بين أبناء الوطن الواحد، وبين أبناء الأمَّةِ الواحدة.
فما أحوج المرحلة وهي تواجه أعقد التحدِّيات، وأشرس المؤامرات، وخطابات التمزيقِ والتفتيتِ، وإنتاج الصِّراعات والعداوات، واستباحة الدِّماء والأعراض والأموال، ونشر الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية…
ما أحوج هذه المرحلة إلى لغةِ المحبَّةِ والتسامحِ، وخطاب الوحدةِ والتآلفِ والتقاربِ…
فلا رابحَ من الفتنَ والصِّراعات إلَّا أعداءُ الوطن، وأعداءُ الأمَّة…
ولا خاسرَ إلَّا الوطن وأبناء الوطن، ولا خاسر إلَّا الأمَّة، وشعوب الأمَّة…
إنَّ الخطاب الذي ينتج صراعًا طائفيًا ومذهبيًا هو خطابٌ لا يحمل همَّ الوطن، مهما تبرقع أصحابه بألفِ برقع وبرقع، وبألف شعار وشعار، كاذب هذا الخطاب، ومدمِّر هذا الخطاب، ومرفوض هذا الخطاب، وخائن هذا الخطاب…
وما دمنا نعيش ذكرى شهادة السَّيد الصَّدر رضوان الله عليه، وهو الذي جسَّد خطاب الوحدة أروع تجسيد، وهو الذي كرَّس حياتِهِ لقضايا الأمَّة بكلِّ مذاهبها وطوائفها وانتماءاتِها، نستشهد بواحد من خطاباتِهِ التي وجَّهها للشعب العراقي، وقد تجلَّى فيه بوضوح هذا النَفَسُ المُتعالي على الكراهية وعلى كلِّ الانتماءاتِ والصِّراعاتِ المذهبية والطائفية، والمحلِّقُ في الآفاقِ الرحبة المنفتحة على المحبَّة والوحدة والتآلف والتقارب…
• (أيُّها الشعبُ العظيم إنِّي أُخاطبُك… بكلِّ فئاتك وطوائفك، بعربك، وأكرادك، بسنّتك وشيعتك…)
• (وإنِّي منذ عرفتُ وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمَّة بذلت هذا الوجودَ من أجلِ الشيعي والسُّني على السَّواء من أجلِ العربي والكردي على السَّواء…)
• (فأنا مَعَكَ يا أخي وولدي السّني بقدر ما أنا مَعَكَ يا أخي وولدي الشيعي، أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام…).
هذا هو الخطاب الذي يخدم أهداف الشعوب، ويكرِّسُ وحدتها، ويُحصِّنَ أمنها، واستقرارها، وازدهارَها، ويدفع عنها كلّ المكائد والمؤامرات…
وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ العَالَمِينَ