حديث الجمعة 391: فاطمةُ سَيِّدةُ نِسَاءِ العَالمِينَ – وسائلُ التفقُّهِ في الدِّين – كلُّنا نحبُّ أنْ يتعافى الوطن..
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلينَ محمَّدٍ وعلى آله الهداةِ المعصومين، وبعد فهذه بعضُ العناوين:
فاطمةُ سَيِّدةُ نِسَاءِ العَالمِينَ:
لقدْ تسَالمتْ رواياتُ المسلمينَ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم قال: «فاطمةُ سيِّدةُ نِسَاءِ العَالمينَ»، دوَّنتْ هذا الحديثَ كلُّ مَصادرِ المُسلمينَ السُّنيةِ والشِّيعية.
هُنَا يُطرحُ هذا الإشكال:
إنَّ هذا الحديثَ يتعارضُ مع ما جاءَ في القرآنِ حيثُ قال تعالى في سورةِ آلِ عمرانَ (الآية 42): ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾.
فيظهرُ مِنْ هذا النصِّ القرآني أنَّ مريمَ ابنةَ عِمران هي المرأةُ الأولى التي اصطفاها اللهُ تعالى على نساءِ العالمينَ.
فكيف نجيبُ عن هذا الإشكالِ، وكيف نوفِّقُ بين النصِّ القرآني، والرِّواياتِ الصحيحةِ الثابتةِ عند المسلمين، وأيُّهما يُقدَّم حينَ التعارض: القرآنُ أو الرِّوايات؟.
سيتضحُ لنَا مِنْ خلالِ الإجابةِ عن هذا الإشكالِ أنْ لا تعارضَ إطلاقًا بين هذا النصِّ القُرآني والرِّواياتِ الصحيحةِ الثابتة.
والإجابةُ عن الإشكالِ المذكُورِ يُمكنُ أنْ نَضَعَها ضمنَ صيغتين، كلُّ صيغةٍ تكفي وحدَها للإجابة عن الإشكال:
الصِّيغةُ الأُولى:
إنَّ اصطفاءَ مريمَ ابنةِ عمرانَ المذكور في الآية القرآنية هو اصطفاءٌ في مجالاتٍ محدَّدة، وليس في كلِّ المجالات وهذا ما صرَّح به القرآن.
ذكر القرآنُ الكريم بعضَ مظاهر هذا الاصطفاء، نذكر هنا مظهرين:
المظهرُ الأولُ:
إنَّ اللهَ اصطفى مريمَ ابنةَ عمرانَ للخدمَة والعبادةِ في بيتِ المقدسِ، ولم يتقبَّلْ غيرها مِن النساءِ حيث كان الأمرُ مقصورًا على الرجال فقط.
• ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ {آل عمران/35}
عِمْران المذكور هنا ليس هو عِمْران والد نبي الله موسى، إذ بينهما ألف وثمانمائة سنة.
فزوجة عِمْران والد مريم، نذرت لله تعالى أنْ يكونَ الحملُ الذي في بطنها ﴿مُحَرَّرًا﴾يعني متفرِّغًا للخدمةِ وللعبادةِ في بيت المقدس، وكان أملُها الكبير أنْ يكونَ المولود ذكرًا، لأنَّ التفرغَ للخدمةِ والعبادةِ لا يكون إلَّا للذكور فقط.
• ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا…﴾ {آل عمران/36} جاءَ المولودُ على خلاف ما كانت تتمنَّى، فأصابها الخجلُ والاستحياءُ.
• ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى…﴾ {آل عمران/36} وكأنّها تريدُ أنْ تعتذر إلى الله تعالى، حيث نذرتْ أنْ يكون ما في بطنها محرَّرًا للخدمة والعبادة في بيت المقدس، ظنًّا منها أنْ يكون المولود ذكرًا، إلَّا أنَّه جاء أنثى، فهتفت بكلماتٍ يائسةٍ معتذرةٍ ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى…﴾ وما كانت في حاجةٍ إلى هذا الإعلانَ، لأنَّ الله تعالى ﴿أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ…﴾.
ثمّ تابعت كلامها قائلةً﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى…﴾ فالأنثى لا تصلحُ للخدمةِ في بيت المقدس، لأنَّ هذه الخدمة من شؤون الذكر.
• ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ {آل عمران/36}
مريم في لغتهم تعني العابدة والخادمة.
وهكذا تؤكِّدُ هذه الأمُ الصالحةُ أنْ تكون ابنتُها في خط العبادة والخدمة لله تعالى، فاختارت لابنتها هذا الاسم المعبِّر عن درجةٍ عالية من الروحيةِ الإيمانية، ثمَّ اتجهت إلى الله سبحانه أنْ يُحصِّن هذه البنتَ، وأنْ يُحصِّن ذريَتها مِن عبثِ الشيطانِ ووساوسِهِ الخبيثةِ.
وكم هي إشارةٌ جميلةٌ ومهمةٌ إلى ضَرُورةِ أنْ يعيش الإنسانُ المؤمنُ همَّ مستقبلِ أولادِهِ، بأنْ يكونوا مؤمنينَ، صالحينَ، طائعينَ لله تعالى، مما يَدفَعُهُ إلى التفكير والتخطيط لحمايتِهم مِن كلِّ المنزلقاتِ الشيطانية.
• ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ…﴾ {آل عمران/37}
أي قبل الله سبحانه هذه المولودةَ الأنثى لتكونَ في خدمةِ بيت المقدس، ولم يقبل قبلها أنثى وهذا أحدُ مظاهِر الاصطفاءِ الذي أشارتْ إليه الآية ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾.
المظهر الثّاني:
من مظاهر اصطفاء مريم ابنة عمران أنَّ الله سبحانه أعدَّها إعدادًا خاصًا لتكونَ أمًّا للسَّيد المسيح عليه السَّلام، ولتكون هذه الولادة من غير أب.
الصِّيغة الثانية:
أنْ نُعطي الاصطفاءَ زمانًا محدودًا، فإذا كان الله قد اصطفى مريمَ ابنةَ عمرانَ على العالمين، فهو اصطفاءٌ في مساحة من الزمنِ لا تمتد أكثَر من زمانِها، وأكثَر من عالمِها.
وهذا ما أكَّدته الرِّواياتُ الصّحيحةُ الصَّادرةُ عن المعصومين.
• عن النبيّ ِصلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم قال:
«أربعُ نسوة ساداتُ عَالَمِهنَّ: مريم بنت عمران، وآسيةُ بنت مزاحم، وخديجةُ بنت خويلد، وفاطمةُ بنت محمَّد صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم، وأفضلهنَّ عالمًا فاطمة».
• وجاء في بعض الأحاديث أنَّ«مريمَ ابنة عِمران سيدةُ نساءِ عالمها» وأنَّ «فاطمة سيدةُ نساء العالمين من الأولين والآخرين».
• ويؤكِّد هذا المعنى الأحاديثُ الصَّادرةُ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم: أنَّ«فاطمة سيِّدةُ نساءِ أهل الجنَّة» وهذا يعني أنَّها «سيِّدةُ نساءِ العالمين» وهكذا يمكن التوفيق بين النص القرآني والرِّوايات…
وهذا نظير قوله تعالى في سورة البقرة:
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾{البقرة/47}
وقوله تعالى في سورة آل عمران:
﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ…﴾ {آل عمران/110}
أي أمَّة نبيِّنا محمَّد صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم.
والجمع: (1) بني إسرائيل فُضِّلوا على عالمي أهل زمانهم.
(2) المراد تفضيلهم في أشياء مخصوصة: إنزال المن والسلوى، وما أنزل فيهم من الرُّسل، وأنزل عليهم مِن الكتب وغيرها من النِّعم فتفضيلهم في أشياء مخصوصة لا يعني أنْ يكونوا الأفضل على الإطلاق.
نتابع الحديث – إنْ شاءَ الله تعالى – عن الصِّديقة الزَّهراءِ عليها السَّلام.
وسائلُ التفقُّهِ في الدِّين:
تقدَّمَ الكلامُ عن أهميةِ وضرورةِ التفقُّه في الدِّين، كما أكَّدت ذلك الأحاديث الكثيرة، وتقدَّمَ الكلام أيضًا عن معنى التفقُّهِ في الدِّين بما يحملُهُ هذا التفقُّهُ من امتدادٍ لكلِّ المساحاتِ العقيديةِ والفكريةِ والفقهيةِ والروحيةِ والأخلاقيةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والسِّياسيةِ، وبقية نواحي الحياة، ولا شكَّ أنَّ خللًا يحدثُ في حياةِ الإنسانِ المسلم، إذا أهملَ التفقُّهَ في بعضِ جوانب حياته.
فمثلًا لو تفقَّه في عباداتِه، ولم يتفقَّه في معاملاتِه..
لو تفقَّهَ في عباداتِه، ولم يتفقَّه في علاقاتِه الاجتماعية..
لو تفقَّه في عباداتِه، ولم يتفقَّه في شؤونه الأسرية..
لو تفقَّهَ في عباداتِه ولم يتفقَّه في ممارساتِه السِّياسية…
هنا سوف ترتبكُ مساحاتٌ كبيرةٌ في حياته، بل قد تنحرفُ هذه المساحاتُ عن الدِّين.
وهل يمكن أنْ يكونَ الإنسانُ المسلمُ متديِّنًا في بعضِ مساحاتِ حياتِه، وغيرَ متديِّنٍ في مساحاتٍ أخرى، أنْ يكونَ متديِّنًا في عباداتِه، وغير مُتديِّنٍ في معاملاتِه التجارية، أو غيرَ مُتديِّنٍ في علاقاتِهِ الاجتماعية، أو غيرَ مُتديِّنٍ في شؤونِهِ الأسريةِ، أو غيرَ مُتديِّنٍ في ممارساتِه السِّياسية؟
وعبارة أخرى: هل يمكنُ تفكيكُ التديُّن؟
أنْ يكون تقيًّا في صلاتِه، وصيامهِ، وحجِّهِ، وفاسقًا في معاملاتِه، وعلاقاتِه، وشؤونِه الأسرية، وممارساتِهِ السِّياسية؟
هل يُمكنُ هذا التفكيك؟
الجواب: لا يمكنُ التفكيك، فالتديُّن لا يبقى حينما تسقط بعض مساحاته، والتقوى تسقط حينما تسقط بعض مواقعها.
وهذا الموضوع في حاجةٍ إلى معالجةٍ أوسع.
نعود للحديث عن وسائل التفقُّهِ في الدِّين:
الوسيلةُ الأولى:
السُّؤال:
• قال الله تعالى:
﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ {النحل/43}
هذا النص القرآني يؤكِّد مبدأ (السُّؤال) بالرجوع إلى أهل الاختصاص في كلِّ المجالات، ومن أهم هذه المجالات (مجال الدِّين)، فكلُّ مَنْ لا يملك المعرفة بالدِّين ومفاهيمه وأحكامه يجب عليه أنْ يتوفر على هذه المعرفة بالرجوع إلى العلماء بالدِّين، ومِنْ أهم الوسائل لتحصيل المعرفة الدِّينية (السُّؤال) وهو أيسر وأسهل الوسائل، وأسرع الوسائل، خاصة بعد أنْ تطوَّرت وسائل الاتصال.
• تقدَّم الحديث النبوي:
«أفٍ لكلِّ مسلمٍ لا يجعل في كلِّ جمعة يومًا يتفقَّه فيه أمر دينه ويسأل عن دينه».
أكَّد هذا الحديث عن ضرورة السُّؤال من أجلِ التفقُّهِ في الدِّين، فعلى الإنسانِ المسلمِ أنْ لا يتحفَّظ عن أيِّ سُؤالٍ، ما دام هو في حاجةٍ إلى الجواب، حتى لا يبقى جاهلًا أو أنْ يمارسَ عملًا مخالفًا لشرع الله تعالى.
• وقال صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم:
«العلمُ خزائنُ ومفاتيحُهُ السُّؤالُ، فاسألوا يَرحمْكُم اللهُ، فإنّه يُؤجر [في السؤال] أربعة: السَّائل، والمتكلِّم [المعلِّم]، والمستمع، والمحبّ لهم».
• وقال صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم:
«السُّؤال نصفُ العلم».
• وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام:
«إذا سألتْ فاسأل تَفقُّهًا ولا تسأل تعنُّتًا فإنَّ الجاهلَ المتعلِّم شبيهٌ بالعالم، وإنَّ العالمَ المتعسِّفَ [المتعنِّف] شبيه بالجاهل [المتعنِّت]».
تعنُّتًا: طلبًا للزلَّة، والإحراج، وليس من أجل التعلُّم، وربّما من أجل المباهاة.
ولا مانع من أنْ يسأل الإنسانُ العارفُ بالجواب من أجل أنْ يستفيد الآخرون.
وقد يكونُ السؤالُ للاستهلاكِ وإضاعةِ الوقت، حيث لا ثمرةَ ولا فائدةَ من هذا السؤال.
وربَّما لغرض الاستخفاف والاستهزاء.
كما حدث لأمير المؤمنين عليه السَّلام حينما قال:
«سلوني قبل أنْ تفقدوني، فلأنا بطرقِ السَّماءِ أعلم منِّي بطرق الأرض…» قام إليه رجلٌ فقال: «كم شعرة في رأسي ولحيتي».
السؤال يجب أنْ يكون بهدف التعلُّم والتفقُّه والتبصُّر في الدِّين أو في شؤون الحياة.
إشكالية تواجه الكثيرين في طرح السُّؤال:
هذه الإشكالية هي إشكالية الخجل.
كثيرون يعيشونَ عقدة الخجل، فلا يسألون ويتورَّطون في مخالفاتٍ شرعية، وربَّما يمارسونَ عباداتٍ باطلة، من صلاةٍ أو صيامٍ أو حجٍ أو وضوءٍ أو غسلٍ…
أو يمارسون معاملات تجارية محرَّمة من دون أنْ يكلِّفوا أنفسهم السؤال، والسبب في كلِّ ذلك الخجل.
هل أنَّ الخجل يعتبر مَعِّذرًا شرعيًا لهم؟
بكلِّ تأكيد ليس مُعذِّرًا.
ويترتب على الجهلِ بطلانُ العبادةِ في بعض الحالات، كما لو توضأ وضوءًا باطلًا أو اغتسل غسلًا باطلًا أو طاف طوافًا بالطلًا…
هنا لا يُعذر الجاهل قاصرًا أو مُقصِّرًا.
كما لا يُعفى من المسؤولية الأخروية…
• قال الإمام الصَّادق عليه السَّلام في تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ…﴾ {الأنعام/149}:
«إنَّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة:
عبدي أكنت عالمًا؟
[يعني حينما تركت ما يجب فعله أو فعلت ما يجب تركه]
فإنْ قال: نعم
قال [الله تعالى] له: أفلا تَعلَّمتْ حتى تعمل، فيخصم، فتلك الحجَّةُ البالغة».
فالخجلُ عن السُّؤالِ لا يُعذرُ الإنسانَ أمام الله تعالى يوم الحساب.
نتابعُ الحديثَ – إنْ شاء الله تعالى – حول (الخجل المذموم) و(الحياء الممدوح) كما نتابع الحديث – إنْ شاء الله – عن بقية وسائل التفقُّه في الدِّين.
كلُّنا نحبُّ أنْ يتعافى الوطن..
لا أعتقدُ أنَّ إنسانًا ينتمي إلى هذه الأرضِ لا يَهمُّهُ أنْ يرى الوطنَ يتعافى.
لا أعتقدُ أنَّ إنسانًا ينتمي إلى هذه الأرضِ لا يَهمُّهُ أنْ يرى البحرينَ بخير.
لا أعتقدُ أنَّ إنسانًا ينتمي إلى هذه الأرضِ لا يَهمُّهُ أنْ يرى هذا الشعبَ في أمنٍ وأمانٍ.
فلا مصلحةَ لأحدٍ صادقٍ في انتمائه لهذه الأرضِ أنْ يبقى الوطنُ عَليلًا، وأنْ تبقى البحرينُ في عناءٍ، وأنْ يبقى الشعب مأزومًا لا يعيشُ الأمَن والأمان.
إذا وُجدَ إنسانٌ يرى المصلحةَ في كلِّ هذه الأوضاعِ السَّيئة فهو قطعًا لا ينتمي لهذا الوطن، ولهذه الأرضِ، ولهذا الشعب.
لا أريدُ أنْ أصنِّف أبناءَ هذا الوطن، فالتصنيفاتُ الظالمةُ أرهقتنا كثيرًا، ومزَّقت اللحمةََ فيما بيننا، وكرَّسَتْ الخلافاتِ والصراعات، وأنتجت الضغائن والعداوات.
كُلُّنا نحبُّ أنْ يتعافى هذا الوطن، أنْ تنتهيَ كلُّ أزماتِهِ، أنْ تختفيَ كلُّ محنِهِ وبلاءاتِهِ، وآلامهِ ومعاناتِهِ، وكلُّ ما يكدِّرُ أوضاعَهُ، وكلُّ ما يُشوِّشُ أمنَهُ وأمانَهُ.
أنْ تعودَ البسمةُ إلى كلِّ الشفاه، أنْ تَملأَ المحبَّةُ كلَّ القلوب، وأنْ ينغرسَ التسامُح في كلِّ النفوسِ، وأنْ لا نسمع أصواتَ الفتنةِ، أن لا نسمع لغة التخوين والتحريض، أنْ لا نجد في الشارعِ ملاحقاتٍ ومطارداتٍ، أنْ لا نجد في المدنِ والقرى مواجهاتٍ ومصادمات، أنْ لا نجد في هذا الوطن اعتقالاتٍ وزنزاناتٍ وإعدامات.
كلُّنا نحبُّ أنْ يتعافى الوطنُ…
بالرفقِ لا بالشِدَّةِ يتعافى الوطن…
باللطفِ لا بالعنفِ يتعافى الوطن…
بالرأفةِ لا بالقسوةِ يتعافى الوطن…
بالرحمةِ لا بالرَّصاصةِ يتعافى الوطن…
بالورودِ لا بالحجارةِ يتعافى الوطن…
بالمحبةِ لا بالكراهيةِ يتعافى الوطن…
بالتأليفِ لا بالتفتيتِ يتعافى الوطن…
بالتسامحِ لا بالشتائمِ يتعافى الوطن…
بالكلمةِ الطيِّبة لا بالكلمة السَّيئةِ يتعافى الوطن…
الشدَّةُ، العنفُ، القسوةُ، الرصاصةُ، الحجارةُ، الكراهيةُ، التفتيتُ، الشتائمُ، الكلمةُ السيئة…
مفرداتٌ تُدمِّرُ الوطنَ، تقتلُ أمنَهُ، تُمزِّقُ شعبَهُ، تزرعُ البؤسَ في أرضِهِ، تنشرُ الرُّعبَ في أرجائه، تسْرُقُ البهجة في عيون أطفاله…
فما أحوجَ هذا الوطنَ لكي يتعافى؛ أنْ يُنهي مِن قاموسِهِ هذه المفرداتِ المُدمِّرة، وأنْ يستبدلَ عنها مُفرداتِ الرفقِ، اللّطفِ، الرّحمةِ، الرأفةِ، المحبَّةِ، الورودِ، التآلفِ، التسامحِ، الكلمةُ الطيِّبة…
هذه المفرداتُ الخيِّرة أكَّدت عليها نصوصُ الدِّين:
• نقرأ في الرأفة والرحمة قوله تعالى متحدِّثًا عن نبيِّهِ محمَّدٍ صلَّى الله عليهِ وآلِهِ وسلَّم: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ {التوبة/128}
إنَّه درسٌ للقادةِ والحكَّام أنْ يعيشوا آلام شعوبهم ومعاناة شعوبهم، وأنْ يحملوا همومهم، وأنْ يكونوا الرُّحماء الرؤفاء بكلِّ مَنْ يحكمونهم…
• ونقرأ في الرفق قوله صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم:
«إنَّ الرِفقَ لم يُوضع على شيئٍ إلَّا زانَهُ، ولا نُزعَ من شيئٍ إلّا شانه».
ما أحوجَ مَنْ يتصدَّى لمواقعِ المسؤوليةِ والقيادة والحكم أنْ يحمل درجة عالية من (الرِفقَ) وبذلك يملك القلوب والأرواح.
بخلاف مَنْ يكونُ شديدًا، عنيفًا، قاسيًا، غليظًا، فإنَّ القلوبَ تنفرُ منه، وتكرهُهُ.
• قال تعالى في مدح نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ {آل عمران/159}
• وجاء في دعاء النبيِّصلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم:
«اللَّهُمَ مَنْ وُليَ شيئًا من أمور أمَّتي فرفق بهم فارفق به، ومَنْ شقَّ عليهم فاشقق عليه».
وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.