حديث الجمعة 373: أنْ نكون ضيوفًا لله تعالى
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلينَ محمَّدٍ وعلى آله الهداةِ الميامين وبعد..
أنْ نكون ضيوفًا لله تعالى:
يستمر بنا الحديث حول الخطبة الرمضانية لرسول الله صلَّى الله عليه وآله والتي هيَّأ من خلالها المسلمين لاستقبال الشهر الفضيل معتمدًا – كما تقدَّم القول – مجموعة أساليب:
الأسلوب الأول: التذكير بأهمية الشهر الفضيل.
الأسلوب الثاني: التذكير بقيمة وثواب الأعمال في هذا الشهر وقد مضى الحديث عن هذين الأسلوبين.
وفي حديث الليلة نتناول:
الأسلوب الثالث: التذكير بالضيافة الرَّبانية في هذا الشهر العظيم..
• قال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في خطبته الرَّمضانية:
«هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله…».
والسؤال المطروح هنا: كيف نكون ضيوفًا لله في شهر الله؟
للضيافة الرَّبانية شروطها، نذكر هنا أهم هذه الشروط:
(الشرط الأول):
الإخلاص لله تعالى (تصفية النية):
• «فاسألوا الله ربَّكم بنيات صادقة».
النية الصادقة (الإخلاص لله) هو الشرط الأساس لأن يكون العملُ العباديُّ مقبولًا عند الله تعالى، صلاةً كان هذا العملُ، أو صومًا، أو حجًا، أو عمرةً، أو تلاوةً، أو دعاءً، أو أيَّ عمل يراد التقرُّب به إلى الله تعالى سواءً أكان عملًا ثقافيًا أو اجتماعيًا، أو رساليًا أو سياسيًا… صحيح أنَّ الأعمال التوصلية – حسب المصطلح الفقهي – لا يشترط في صحتها (نية القربة إلى الله) إلَّا أنَّ الثواب متوقف على هذه النِّية…
أيُّها الأحبَّة لكي نحظى بفيوضات الله الرَّبانية في هذا الشهر الكريم نحتاج أنْ نخلص العمل لله تعالى، والإخلاص هو تنقية النِّية من كلِّ الشوائب لتبقى مشدودةً إلى الله وحده حبًّا له تعالى، أو طمعًا في ثوابه أو خوفًا من عقابه…
ومتى ما دخل الرِّياء عملًا أفقده قيمته عند الله تعالى:
• ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ {الماعون/4-5-6-7}
• ﴿يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ {النساء/142}
• ﴿كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ…﴾ {البقرة/264}
• قال النبي صلَّى الله عليه وآله:
«وتصعد الحفظةُ بعمل العبد من صلاة، وزكاة، وصيام، وحجّ، وعمرة، وخلق حسن، وصمت، وذكر الله تعالى… وتشيِّعه ملائكة السَّماوات حتَّى يقطع الحجب كلَّها إلى الله، فيقفون به بين يديه، ويشهدون له بالعمل الصَّالح المخلص لله…
قال: فيقول الله تعالى لهم: أنتم الحفظةُ على عمل عبدي وأنا الرقيب على نفسه، إنَّه لم يردني بهذا العمل، وأراد به غيري فعليه لعنتي، فتقول الملائكة كلُّهم عليه لعنتكَ ولعنتنا، وتقول السماواتُ كلُّها عليه لعنة الله ولعنتُنا، وتلعنه السماوات السَّبع ومَنْ فيهنَّ».
فالإخلاص الإخلاص إذا أرادنا أنْ نكونَ ضيوف الله في شهر الله ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ {الكهف/110}
(الشرط الثاني):
طهارة القلب:
• «فاسألوا ربَّكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أنْ يوفقكم لصيامه، وتلاوةِ كتابه، فإنَّ الشقي مَنْ حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم».
متى ما كانت قلوبنا ملوَّثة، وغير نقيَّة، فلا يمكن أنْ نحظى بشرف الضيافة الرَّبانية، فضيوف الله يحملون قلوبًا كلّها نقاء وصفاء وطهر، وقلوبًا يملأها حبّ الهدى، وحبّ الطاعة، ويملأها العطف، والرَّحمة، والتسامح…
• «مَنْ بات وفي قلبه غش لأخيه المؤمن بات في سخط الله، وأصبح في سخط الله، وإنْ مات على ذلك مات على غير دين الله».
والمشاحن أحد الأربعة الذين لا يحظون بعطاءات ليلة القدر لقد غفر الله إلَّا أربعة: «مدمن الخمر، والعاق والديه، والقاطع الرحم، والمشاحن».
فكلّما كان القلب أنقى وأطهر كان صاحبه أرقى في مراتب الضيافة الرّ!بانية…
وكلّما كان الأكثر تلوثًا وفسادًا كان صاحبه الأبعد في مراتب هذه الضيافة..
• «لو لا أنَّ الشياطين يحومون حول قلوب ابن آدم لنظروا إلى ملكوت السَّموات…».
فلنجد ولنجتهد في تطهير القلوب وتنقيتها من الشوائب والتلوثات استعدادًا لضيافة الله، والمسألة في حاجة إلى صبر ومعاناة وترويض ومحاسبة جادَّة وصادقة…
(الشرط الثالث):
الإقلاع عن المعاصي والذنوب:
فالمعاصي والذنوب لها منتجاتٌ خطيرة جدًّا، نذكر بعضًا منها:
(1) المعاصي والذنوب تسبِّب قسوة القلب:
• «مَنْ أكل الحرام اسود قلبه، وضعفت نفسه، وقلَّت عبادته، ولم تستجب دعوته».
• ((ما جفت الذنوب إلّا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب))
إنَّ الضيافة الرَّبانية في حاجة إلى قلوب خاشعة، ندية، ليِّنة، منفتحة، وليس إلى قلوب جامدة، قاسية، متحجِّرة، منغلقة…
(2) المعصية تسبِّب الكسل العبادي:
• «كيف يجد لذة العبادة من لا يصوم عن الهوى».
• جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين عليه السَّلام فقال:
إنِّي حرمت صلاة اللَّيل..
فقال له أمير المؤمنين عليه السَّلام: «أنت رجل قد قيَّدتك ذنوبك».
• «إنَّ العبد ليذنب الذنب فيمنع من قيام اللَّيل».
إنَّ ضيوف الله في شهر الله عشَّاقُ عبادة، عشَّاقُ صلاة، ودعاء، وذكر، وتلاوة…
إنَّ ضيوف الله في شهر الله من المتهجِّدين بالأسحار.
• ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ {السجدة/16-17}
• ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ {*} وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ {الذاريات/17-18}
• ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ {الفرقان/64}
هؤلاء هم ضيوف الله في شهر الله وليسوا من الذين قال الله فيهم: ﴿وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى…﴾ {النساء/142}
(3) المعصية تمنع قبول الأعمال:
• ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ {المائدة/27}
• ومن اغتاب مؤمنًا أو مؤمنة لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يومًا إلَّا أن يغفر له صاحبه…
كيف يكون ضيفًا لله من يمارس العاصي والذنوب التي تمنع من قبول صلاته، وصيامه، ودعائه، وتلاوته، ونفقاته، وطاعاته..؟
(4) المعصية تحرق الطاعات:
فكما تشكِّل المعاصي (مانعًا) لقبول الأعمال، فكذلك تشكِّل (سببًا) لإحراق الطاعات…
• روي عن النبي صلَّى الله عليه وآله أنَّه قال:
«مَنْ قال: سبحان الله والحمد الله ولا إله إلَّا الله والله أكبر غرست له شجرةٍ في الجنَّة…
فقام رجل من الصحابة فقال: فما أكثر أشجارنا في الجنَّة…
فقال صلَّى الله عليه وآله: ولكن لا ترسلوا عليها نارًا فتحرقوها».
• وورد عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله أنَّه قال:
«أتدرون مَنْ المفلَّس؟
قالوا: المفلَّس فينا مَنْ لا درهم له ولا متاع له.
فقال صلَّى الله عليه وآله: المفلَّس من أمَّتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم وقذف هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أنْ يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثمَّ طرح في النَّار».
• «الغيبة حرامٌ على كلِّ مسلم، وإنَّها تأكل الحسنات كما تأكل النَّار الحطب…».
• «كمْ من صائم ليس له من صيامه إلَّا الظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلَّا العناء».
فالحذر الحذر من المعاصي والذنوب لكي لا يخسر الصائمون أرباح ومكاسب هائلة في هذا الشهر الفضيل…
(الشرط الرَّابع):
تصفية الخلافات…
• «يا أبا ذر إياك وهجران أخيك فإنَّ العمل لا يقبل مع الهجران».
• «لا تدابروا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، هجرُ المؤمنين ثلاثًا، فإنْ تكلَّما وإلَّا أعرض الله عزَّ وجلَّ عنهما حتَّى يتكلَّما».
• «إيّما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثًا لا يصطلحان إلَّا كانا خارجين من الإسلام، ولم يكن بينهما ولاية، فأيُّهما سبق إلى كلام أخيه كان السَّابق إلى الجنَّة يوم الحساب».
• «في أول ليلة من شهر رمضان يغلُّ المردة من الشياطين ويغفر في كلِّ ليلة سبعين ألفًا، فإذا كان في ليلة القدر غفر الله بمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم إلَّا رجل بينه وبين أخيه شحناء فيقول الله عزَّ وجل: انظروا هؤلاء حتَّى يصطلحوا».
أخوَّة الإيمان – هنا في الدُّنيا – تهيِّئ لأخوة الجنَّة ﴿الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ {الزخرف/67} فلا أتقى ولا أصفى ولا أطهر من أخوة يصنعها الإيمان، وتصنعها التقوى، وشهر الله العظيم هو أغنى موسم لإنتاج (الأخوة الإيمانية) ولإنتاج (المحبّة في الله) فمطلوب من الطامعين في ضيافة الله في شهر الله أنْ يستثمروا موسم الضيافة الرَّبانية في تجذير أو أصر المحبَّة الإيمانية والتحرر من كلِّ الخصومات التي تصنعها أهواء النفس، وأغراض الدنيا، وإملاءات الشيطان…
هذه بعض شروط تفرضها استحقاقات الضيافة الرَّبانية في شهر الله الفضيل، وبقدر ما نرتقي في مستوى هذه الشروط، يرتقي لدينا مستوى الضيافة، فضيوف الله في شهر الله على درجات ومستويات، فليتنافس المتنافسون في الحصول على الدرجات والمستويات العالية ليكونوا من الأبرار المقربين ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ {*} وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ {*} عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ {المطففين/18-28}
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين