حديث الجمعة 365: الشهيد السَّيد محمد باقر الصَّدر.. عناء وبلاء في الله
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة المعصومين وبعد فمع هذه العناوين…
الشهيد السَّيد محمد باقر الصَّدر.. عناء وبلاء في الله:
عاش الشهيد السَّيد محمد باقر الصدر أقسى ألوان العناء والبلاء في ظل النظام الحاكم في العراق ورغم العناءات والبلاءات والعذابات التي عاشها كان يحتسب ذلك قليلًا قليلًا ما دام من أجل الله، وما دام ذلك بعين الله… كان راضيًا صابرًا محتسبًا، مرددًا صبرًا على قضائك، رضىً بما قسمت…
هكذا كان يتمثَّل في كلِّ مواقفه جدَّه الحسين بن علي في يوم عاشوراء، كان الحسين في زحمة المعاناة وقد أثقلته الجراحات، يرفع طرفه إلى السَّماء قائلًا: «صبرًا على قضائك يا ربِّ لا إله سواك».
كان الحسين وقد أصاب الحجر جبهته الشريفة يقول: «اللَّهم إنَّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء».
كان الحسين وقد اخترق السَّهم المثلث قلبه المقدَّس يناجي ربَّه: «هوَّنَ عليَّ ما نزل بي أنَّه بعين الله».
كان الحسين وقد اشتدَّ به الحال، وأرهقه نزف الدماء، وازدحمت عليه الضربات والطعنات وافترقوا عليه بالسيوف والرِّماح والسِّهام والحجارة يخاطب ربَّه: «إلهي إنْ كان هذا يرضيك فخذ حتَّى ترضى».
الشهيد الصدر استمد صبرَه من صبر جدِّه الحسين، فكان الراضي المحتسب، يشعر بلذة العطاء في طريق الله، ومن أجل دين الله…
أطرح هنا بعض مقاطع من معاناة الشهيد الصَّدر رضوان الله عليه:
(1) طوَّقوا منزله ومنعوا عنه كلَّ الزيارات، قطعوا الكهرباء والماء والهاتف، منعوا خادمه الحاج عباس أنْ يوفِّر ما تحتاجه عائلة السَّيد الصدر من مواد غذائية…
يقول الشيخ النعماني وكان ملازمًا للسيد في أيام الحصار: «نظرت إلى السَّيد الصدر وهو يتغذَّى بخبز يابس، فتأثَّرت كثيرًا وقلت: سبحان الله، نائب المعصوم يأكل من هذا الفتات، بينما يأكل الطغاة ما لذَّ وطاب…
فقال السَّيد الصدر: إنَّ هذا الطعام ألذّ طعامٍ ذقتهُ في حياتي، لأنَّه في سبيل الله ومن أجل الله…
(2) كان السَّيد الصدر – في أيام الحصار – ينظر إلى أطفاله وهم جياع، وينظر إلى أمَّه المريضة المقعدة تطلب الدواء ولا دواء، ويرى طفلةً له تتلوى من ألم شديد وهو لا يستطيع أن يوفِّر لها قرصًا يسكِّن ألمها…
ماذا كان يقول:
كان يقول: «سيموت هؤلاء جوعًا بسببي، ولكن ما دام ذلك يخدم الإسلام فأنا سعيد به، ومستعدٌّ لما هو أعظم، وإنَّ ذلك بعين الله، إنَّ الناس سبقونا إلى ما هو أعظم ممَّا نحن فيه، إنَّ قاسم شبر عانى من التعذيب ما لم نعاني نحن بمقدار عشره».
أقف قليلًا مع إعدام السَّيد قاسم شبر:
السيد قاسم المبرقع عالم جليل جاوز عمره التسعين سنة اعتقلوه… أحضروه إلى جلسة المحاكمة
قال القاضي: ما اسمك؟
أجاب: اسمي السيد قاسم شبر.
قال له: إنَّك إيراني وغريب على الوطن…
فأجاب: وهل للمسلم وطن؟ ولكن اعلم يا هذا إنِّني ابن رسول الله صلَّى الله عليه وآله، والغريب على الوطن هو عفلق بن مُيشيل ومَنْ تبعه…
قال له: إنَّك مجرم.
أجابه السَّيد: المجرم من هتك العباد والبلاد وسلَّمها للإنجليز والصليبيين.
قال له: أما تخجل وقد أشرف عمرك على التسعين تحارب حكومة البعث التقدمية؟
أجاب السَّيد: هذا هو حسن العاقبة، أنْ أحاربَ أمثالكم الكفَّار.
فاشتاط غضبًا وضرب المنضدة بيده وكسر قلمه وقال: حكمتك المحكمة إعدامًا رميًا بالرصاص.
فابتسم السَّيد قائلًا: ما أجملها من ليلة، كنت انتظرها طول عمري أن أقتل في سبيل الله على يد أشرِّ خلق الله…
وأخذ السَّيد يكرِّر: يا لها من فرحة، إنَّها والله الشهادة، إنَّها والله الأمنية أن أكون مثل جدِّي الحسين عليه السَّلام.
ثمّ التفت إلى القاضي قائلًا: إنَّكم من الذين يحاربون الله ورسوله، ويقتلون أولياء الله، ويعيثون في الأرض الفساد، وإنَّ الله لكم بالمرصاد…
وفي ليلة 15 شعبان 1399هـ (2/7/1979م) تمَّ إعدام السَّيد قاسم شبر رحمه الله رميًا بالرصاص، ولم يتم تسليم الجثة إلى ذويه، ولم يعلم أين دفن رحمه الله…
ولما بلغ السَّيد الصدر نبأ إعدام الشهيد السَّيد قاسم شبر وعشرات آخرين من العلماء المؤمنين قبض على شيبته الكريمة ورفع رأسه إلى السَّماء وقال: (إلهي بحقِّ أجدادي الطاهرين ألحقني بهم سريعًا، واجمع بيني وبينهم في جنَّاتِك).
وكان السُّلطة تخبر السَّيد الصدر هاتفيًا وبشكل يومي بأسماء المعدومين من تلامذته والمقربين إليه ومريديه، وذلك إمعانًا منها في إيلامه والتنكيل به…
(اعتمدنا في نقل وقائع السيد قاسم شبر على ما أورده أبو زيد العاملي في كتابه [محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق]).
(3) لمَّا جاء جلاوزة النظام لاعتقال السَّيد الصدر الاعتقال الأخير بعد أنْ فرضوا حصارًا على منزله دام تسعة أشهر…
قال لهم: انتظروني حتى أغتسل وأودِّع أهلي.
ودخل السَّيد الصَّدر فاغتسل بنية غسل الشهادة وصلَّى لربِّه ركعتين.
ثمَّ اتجه إلى والدته المذهولة المكروبة، وأخذ يدها، وضمَّها إلى صدره بين يديه، ثمَّ رفعها إلى فيه يلثمها في حنوٍ، وطلب منها الرضا والدعاء…
ثمَّ احتضن أطفاله يضمّهم ويقبلهم في لحظاتٍ مملوءة بالدموع والآهات…
وصرفت واحدةٌ من بناتِه وجهها إلى الجدار جاهشةً بالبكاء، ضمَّها بين ذراعيه: ابنتي كلُّ إنسان يموت، والموت في سبيل الله أفضل وأشرف، إنَّ أصحاب عيسى نُشروا بالمناشير، وعُلِّقوا بالمسامير على صلبان الخشب، وثبتوا من أجل موتٍ في طاعة، لا تكترثي يا صغيرتي، فكلُّنا سنموت اليوم أو غدًا، وإنَّ أكرم الموت القتل… بُنيَّتي أنا راضٍ بما يجري عليَّ…
وحان الوقتُ لوداع زوجته…
اقترب منها وقال لها: يا أخت موسى، بالأمسِ أخوكِ، واليوم النديم والشريك والحبيب…
اليوم أنا، لكِ الله يا جنتي وفردوسي، تصبَّري إنَّما هي البيعة مع الله، وقد بعناه ما ليس بمرجوع، وهو قد اشترى سبحانه، يا غريبة الأهل والأوطان حِملُكِ ثقيل، ولكِ العيال، أسألكِ الحل، فأولئك هم سود الأكباد على بابكِ ينتظرون، وما من مفر، أنا ذاهبٌ وعند مليكٍ مقتدرٍ لنا لقاء.
ثمَّ توجَّه للخروج، فكانت أخته بنت الهدى (آمنة الصدر) بانتظاره تحمل القرآن الكريم، فمرَّ تحته، ثمَّ قبَّله بهدوء وخرج…
لماذا لم يودِّع شقيقته بنت الهدى، كما ودَّعَ والدته، وزوجته، وأطفاله…
لأنَّه على موعد معها في يوم الشهادة، وسوف يكون حديث عن مواقف وصمود وجهاد زينب العصر (آمنة الصدر = الشهيدة بنت الهدى).
(4) أمَّا ما لاقاه الشهيد الصدر من عذاب مرعب أثناء الاعتقال فأمر مهول جدًا لا تصدِّقه العقول إلَّا أنَّ نظامًا شرسًا مسكونًا بكلِّ اللؤم والدناءة أذاب أجساد المجاهدين وهم أحياء في أحواض (التيزاب) يصدر منه كلّ هذا…
ماذا صنعوا مع السَّيد الصدر رضوان الله عليه؟
كانوا يُعذِّبونه تعذيبًا قاسيًا…
والتعذيب القاسي – في قاموسهم – عنوانٌ مفتوحٌ على كلِّ أساليب التعذيبِ المجنونةِ المنفلتة من كلِّ القيم والضوابط، تصوَّروا جلاوزةً مات في داخلهم الدين والضمير وبين أيديهم رمز الجهاد والصمود الذي تحدَّى بكلِّ شموخ وعنفوان نظامهم وأفتى بكفرهم، أيّ تعذيب أنزلوه بالسَّيد الصدر، وبشقيقته العلوية بنت الهدى؟
وإذا تحدَّثت بعضُ الروايات عن بعض أشكال التعذيب فهو شيئ ممَّا استطاع أنْ يتسرَّب…
– كانوا يُقيِّدون السَّيد الصدر بالحديد الثقيل…
– كانوا يُهشِّمون رأسه ووجهه بسياط بلاستيكية صُلبة…
– كانوا يشتمون السَّيد الصَّدر بكلِّ ما في قاموسهم من ألفاظ وعبارات نابية وهي الأقبح في قاموس الشتائم…
ولعلَّ هذا التعذيب النفسي هو الأقسى والأصعب على السَّيد الصَّدر تهون أمامه عذابات الجسد.
– وذكر الشيخ محمد رضا النعماني أنَّه تمَّ ثقبُ جسدِ السَّيد الصدر بالثقاب الكهربائي…
– وروى البعضُ: أنَّهم قبل إعدام السَّيد الصدر أمروا بإحراق لحيته تشفيًا، وسملوا عينيه، وغرزوا مسمارًا في رأسه…
أمّا كيف أعدم الصَّدر، والسّيدة بنت الهدى؟
رواية تقول: إنَّ صدَّامًا أفرغ بعض رصاصاتٍ من مسدسه في رأس السَّيد الصدر، وفي قلبه، فسقط على الأرض مضرَّجًا بدمائه…
وأفرغ رصاصاتٍ أخرى في قلب العلوية بنت الهدى وسقطت مضرجة بدمائها…
وهكذا تعانقت أرواحهما، وتعانقت دماؤهما…
عاشا معًا الجهاد، وعاشا معًا العناء، وعاشا معًا الشهادة…
إلَّا أنَّ الشهيد السَّيد الصدر شاءت إرادة الله تعالى أنْ يكشف قبره، وأن يصبح عَلَمًا، ومزارًا…
أمّا الشهيدة بنت الهدى فشاءت إرادة الله أنْ يبقى قبرها مخفيًا، ليكون وثيقة إدانة لا تُمحى…
وربَّما لا يكون لها قبر، ففي بعض الأقوال إنَّ جثمانها الطاهر قد أذيب بالمواد الكيماوية…
وفي بعض الروايات عن مجريات الإعدام:
إنَّ صدَّامًا أمر أحد جلاوزته أنْ يوجِّه رصاصات مسدسه إلى السَّيد الصدر، وخلع الإمام الجليل عمامته السَّوداء مجابهًا رصاص الجلاد المحترف، لكنَّ يد الجلاد اهتزَّت ولم تستطيع إطلاق الرَّصاص، فتم تكليف جلَّاد ثان، لكنَّ يده اهتزَّت كذلك، ولم يستطع أحد من الجلَّادين المحترفين هؤلاء أن يطلقوا الرصاص على الإمام الجليل، ممَّا اضطر صدَّام أنْ يقوم بنفسه بعملية إطلاق الرَّصاص، وقتل الإمام الشهيد.
إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون…
تغمَّد الله شهيدنا الصَّدر وأخته العلويَّة الشهيدة آمنة الصدر وجميع شهداء الإسلام بوافر الرَّحمة والرضوان.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.