الكلمة الافتتاحية للعلاّمة الغريفي في ملتقى العمل الوقفي.. إحياء وإنماء
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة المعصومين وبعد…
فاسمحوا لي – أيُّها الأحبَّة الكرام – في هذه الكلمةِ الافتتاحية العاجلة أنْ أضع بعض نقاط:
(1) مهمٌ جدًا أنْ يُعقدَ مُلتقى يُعالجُ شؤونَ الوقفِ الخيري، كون هذا العنوانِ يُشكِّلُ مفصلًا خطيرًا في الواقعِ الدينيِّ الإسلامي بكلِّ مكوِّناتِه الفقهيةِ والثقافيةِ والروحيةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والسِّياسية.
انطلق عنوانُ الوقفِ في مرحلةٍ مبكرةٍ، ولستُ هنا بصدد التأريخ لهذه البداية، رغم أهمية هذا الجانب وضرورة أنْ تُعنى به الدراساتِ لما له من معطياتٍ كبيرةٍ على عدَّة مستوياتٍ ويكفى القولُ بأنَّ (الوقف) وبالأخص الخيري انطلق مع بداية الرسالة، ليمارس دوره جانبًا إلى جنب مع كلِّ مواقع البناء العلمي والثقافي والروحي والفقهي، ومع كلِّ مواقع الجهادِ والدعوة والتبليغ، فيما وفَّرته (الوقوفات) من إمداداتٍ لدعم العلماء والدعاة والمبلغين والمجاهدين…
(2) عنوانُ الوقفِ يحملُ حيثياتٍ مُتعدِّدةً تتسع لأبعادٍ دينيةٍ واجتماعيةٍ وقانونيةٍ، الأمر الذي أنتج تنوعًا كبيرًا في الدراساتِ والقراءاتِ والمعالجاتِ، وتشكِّل (الرؤيةُ الفقهيةُ) مرتكزًا أساسًا لكل ألوان التعاطي مع هذا العنوان، فقد خصَّصَ علماءُ الشريعةِ في كتبهم الفقهيةِ بابًا أسموه (باب الوقف) عالجوا فيه هذا الموضوع معالجةً مستفيضةً فيما هو تعريفُ الوقف، وأقسامُهُ، وشروطُهُ، وأحكامُه، ومصطلحاتُه… إنَّ غيابَ هذه الرؤيةِ الفقهيةِ لدى أيِّ باحثٍ ودارسٍ يشكِّلُ خللًا كبيرًا في التعاطي مع مسألةِ الوقفِ، مهما كانت حيثيةُ البحثِ والدراسةِ، ومساراتُه، وأهدافُه.
مهمةٌ جدًّا، وضروريةٌ جدًّا أنْ تتنوَّعَ الدراساتُ والمعالجاتُ الوقفية، وخاصة المقارنة منها، وبشرط أنْ تكونَ الرؤيةُ الفقهيةُ حاضرةً مع كلِّ القراءاتِ والدراساتِ والمعالجاتِ، خشية أنْ تنفلت بعيدًا عن رؤية الشريعة.
(3) نلفتُ إلى الأهمية القصوى لإنتاج (المحفِّزات) التي تدفع في اتجاه (إنشاء الوقفي الخيري) لضرورته وحاجة المشروعاتِ الدينيةِ والثقافيةِ والاجتماعية إليه، وقد أكَّدت النصوصُ الإسلاميةُ على قيمة هذا الوقف والتي عبَّرت عنه بالصدقةِ الجارية:
• «ليس يتبعُ الرجلَ بعد موتهِ من الأجرِ إلَّا ثلاثُ خصال: صدقةٌ أجراها في حياتِه، وهي تجري بعد موتِه، وسنَّةُ هدى سنَّها، فهي يُعملُ بها بعد موتِه، وولدٌ صالحٌ يدعو له».
• وسُئل الإمامُ الصَّادقُ عليه السَّلام: ما يلحق الرجلَ بعد موتِه؟ قال عليه السَّلام: «سنَّةٌ يسنُّها يعملُ بها بعد موته، فيكون له مثل أجرِ مَنْ عَمِلَ بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئٌ، والصَّدقةُ الجارية تجري مِن بعدِه، والولدُ الطيِّبُ يدعو لوالديه بعد موتهما، ويحجُّ، ويتصدَّق، ويعتق عنهما، ويصلِّي ويصومُ عنهما».
في هذا السّياقِ نؤكِّد على قميةِ العملِ الجادِّ (لتنمية الوقف الخيري) في اتجاه التوظيف الأفضل والأنفع، ولكي لا يتعطَّل الوقفُ عن ممارسةِ وظائفهِ وأهدافِه، ويتحمَّل مَنْ يتصدَّى لشأن أيّ وقفٍ مسؤولية هذه التنمية والتوظيف…
في هذا السِّياق أيضًا نذكِّر بمسألة في غاية الأهمِّية وهي ضرورة أنْ يخضع (الوقف) في تأسيسه، وفي توظيفِه، وفي تنميتِه إلى (الضوابط) المقرَّرةِ في الشريعة الإسلامية، ومن أهم هذه الضوابط (وجود الولاية الشرعية على الوقف) فلا يجوز لغير الولي الشرعي (المعيَّن من قِبَل الواقف أو من قِبَل الحاكم الشرعي) أنْ يتصرَّف في شؤون الوقف إدارةً وتوظيفًا وتنمية إلَّا بإذن الولي الشرعي، فإذا كان الواقف قد حدَّد (وليًّا) فهو الأولى بالوقف ولا يجوز لأحد مزاحمته مادام يمارسُ ولايتَهُ بطريقة شرعية سليمة، وإذا لم يحدِّد الواقف (وليًّا)، فالولاية للفقيه الجامع للشرائط، فهو صاحب الحقِّ في الإشراف أو في تعيين مَنْ يشرف على الوقف، هذا ما تحدِّده أحكام الشريعة الإسلامية، وإنَّ أيَّ تجاوز لهذا فهو خروج على أحكام الشريعة، وبناء على هذا التأسيس الفقهي يجب على كلِّ مَنْ يتصدَّى للتصرف في شؤون الوقف أنْ يتوفَّر على الصَّلاحية الشرعية التي تمنحه حقَّ التصدِّي في كلِّ أشكاله وممارساته…
(4) ونظرًا لكون الشؤون الوقفية لها خصوصياتها المذهبية، ولكونها تلامس أوضاعًا في داخل هذه الطائفة أو تلك، ممَّا لا يسمح لأحدٍ من خارجها أنْ يتعاطى معها إدارةً وانتفاعًا، لذلك جاءت الدعوة من قبل العلماء إلى (استقلالية إدارة الأوقاف) بما لا يتنافى مع حقِّ السُّلطة في الرقابة، وخاصة فيها هو الشأن المالي، وهذه الاستقلالية ليست أمرًا فاقدًا للواقعية، وقد طالبنا بأن يكون لعلماء الطائفة مساهمةً حقيقية في اختيار المفاصل الأساسية في تشكيلة الإدارة، كخطوة جادَّة في انجاز المشروع الإصلاحي الكامل لشؤون الأوقاف، وفي استقلالية هذه المؤسّسة، كما أكَّدنا – في حينها – على ضرورة أنْ يتوفَّر إشراف فقهي من قبل علماء متخصصين مرضين لدى الطائفة.
(5) أنبِّه إلى نقطة تحمل أهميةً بالغةً وخطيرةً وهي أنَّ (المكوِّنات الوقفية) تشكِّل (وثائق تاريخية) مهمَّة جدًّا، ربَّما غيَّرت بعض الرؤى والمسلَّمات في قراءة التاريخ، ولهذا نجد بعض مَنْ يريدون أنْ يبعثوا بتاريخ أمة أو شعب أو بلد يحاولون أنْ يطمسوا المعالم التاريخية ومن هذا المعالم (المكوِّنات الوقفية: مساجد، مدارس، مقابر…) فإلغاء هذه المكوِّنات، أو إخفاء معالمها، أو التلاعب في التواريخ أو في بعض المدوَّنات أو في الأسماء أساليب للعبث بالتاريخ… وقد حدث في هذا البلد الشيئ الكثير من هذا العبث والتلاعب وإخفاء المعالم التاريخية… ما حدث لمسجد الخميس مثال شاخص، ما يحدث من إزالة مساجد من مواقعها التاريخية يأتي في هذا السِّياق، اختفاء الكثير من (الشواهد) الموجودة على القبور ذات التاريخ البعيد بحجة وضعها في المتاحف، فتختفي وتغيب، أحد الوسائل لطمس المعالم التاريخية…
فكم هي الحاجة كبيرة وملحة أنْ يتصدَّى الكتَّاب والدارسون المتخصصون في هذا الشأن للعمل الجادِّ، لكي يحتفظ بهذه (الوثائق التاريخية) ومن ضمنها (المكوِّنات الوقفية).
في الختام أثمِّن لهذا الملتقى دوره الفاعل، شادًّا على يد القائمين لكي يواصلوا الجهد في هذا الطريق، كما أتمنى كلَّ التوفيق للمشاركين في إثراء هذا الملتقى العلمي بأوراقهم ومقارباتهم ودراساتهم ومداخلاتهم…
جزاكم الله جميعًا وسدَّدخطاكم، وتقبَّل عملكم.
والدعاء لكلِّ الحاضرين وفقهم الله.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.