حديث الجمعة 346 : تأملات الآية الكريمة (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ – حوارات الإمام الصَّادق تؤسِّس للوحدة والتقارب:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأوصياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة المعصومين وبعد:
فأوَّل العناوين:
متابعة لتأمّلاتنا في آيات الكون:
قال تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾. {يس/38}
الجري: السير بسرعة، يأتي توضيح معنى جري الشمس في الفهم الفلكي القديم كان الاعتقاد أنَّ الشمس تابعة للأرض، فهي تتحرَّك حول الأرض، حسب الحركة الظاهرية التي يشاهدها النَّاس، الشمس تشرق من نقطة في شرق الأرض، وتتحرَّك الشمس في اتجاه الغرب إلى أن تصل إلى كبد السماء عند منتصف النهار (الزوال) وتبدأ بالانحدار نحو الغرب إلى أنْ تغرب في نقطة تقع في غرب الأرض، وقد شكَّلت هذه المشاهدة الظاهرية لحركة الشمس اعتقادًا لدى القدماء أنَّ الأرض هي مركز الكون وتدور حولها الشمس والقمر وبقية الكواكب والنجوم.
وبدخول العصر الحديث وتطور علم الفلك تغيَّرت الرؤية، فأصبحت الشمس في المركز، وأنَّ الأرض وبقية الكواكب تابعة للشمس وتدور حولها.
فالشمس هي الأم للمجموعة الشمسية والمعروفة…
فالشمس لا تتحرَّك حول الأرض، بل بالعكس الأرض هي التي تتحرَّك حول الشمس…
ربَّما يُقال: أليس في قوله تعالى حكاية للحوار الذي دار بين نبي الله إبراهيم عليه السَّلام والنمرود ما يدل على حركة الشمس من المشرق إلى المغرب؟
كما جاء في سورة البقرة/ آية 258 قوله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. {البقرة/258}
الآية تنقل لنا قصة نبي الله إبراهيم والنمرود الذي أعطاه الله الملك فبطر وتجبَّر وادَّعى الربوبية، قال نبي الله إبراهيم للنمرود: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ قال النمرود: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ ولإثبات هذه الدعوى الباطلة استخدم حيلة كما تقول بعض الروايات حيث أمر بإحضار سجينين أطلق سراح أحدهما وأمر بقتل الآخر، ثمَّ قال لإبراهيم والحاضرين: أرأيتم كيف أحيي وأميت… وهكذا حاول أنْ يستغل سذاجة أتباعه ويخدعهم بهذه المغالطة الفاحشة إلَّا أنَّ نبي الله إبراهيم عليه السَّلام لم يدخل معه في جدل عقيم حول الإحياء والإماتة، لأنّ الحاضر سذَّج تخدعهم هذه المغالطات، فاتَّجه نبي الله إبراهيم إلى منحى آخر في الحوار، فطرح قضية أخرى لا تسمح للنمرود أن يمارس الخداع والتضليل من خلالها…
قال نبي الله إبراهيم للنمرود: ﴿فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾.
هنا تحدَّى إبراهيم النمرود في ظاهرة كونية ثابتة خلقها الله تعالى وطلب منه أنْ يغيِّرها إذا كان إلهًا حقًّا فالشمس كما خلقها الله تشرق من جهة المشرق، فهل يستطيع هذا الإله المزعوم أنْ يحوِّل طلوع الشمس إلى جهة المغرب.
وهنا لم يملك المرود جوابًا ﴿… فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ أيّ وقف حائرًا مخذولًا لا يملك جوابًا…
نعود للتساؤل يقول: أليس في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾.
ما يدل على حركة الشمس من المشرق إلى المغرب كما تقول الرؤية الفلكية القديمة؟
الجواب: ليس في هذا دلالة على ذلك…
لأنَّ الآية تتحدَّث عن قدرةِ الله المتفردةِ المتحكِّمة في حركةِ الشمس شروقًا وغروبًا، وفق نظامٍ كوني ثابت لا يملك أحدٌ غير الله أنْ يغيِّره، أمَّا كيف يحدث الشروق ليبدأ النهار، وكيف يحدث الغروب ليبدأ الليل، فالآية لم تتحدَّث عن ذلك، والأمر متروك لقدرات العقل البشري في اكتشاف أسرار هذا الكون…
فالعقل الفلكي القديم كان يعتقد أنَّ الشروق والغروب والنهار والليل هو نتيجة دوران الشمس حول الأرض، أمَّا العقل الفلكي الحديث فيرى أنَّ ذلك يحدث نتيجة دوران الأرض حول محورها على مدار الأربع والعشرين ساعة، وفي كلِّ ثانية هناك شروق على نقطة معيَّنة في الكرة الأرضية، يقابله غروب في الوقت نفسه، وعلى مدار السَّنة تشرق الشمس من مكان مختلف وتغرب في مكان مختلف عن يوم الآخر…
ولهذا ورد في القرآن ثلاثة تعبيرات لشروق الشمس وغروبها:
التعبير الأول: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ…﴾. {الشعراء/28}
هنا يتحدَّث القرآن عن مطلق الشروق والغروب أي أوَّل النهار وآخره أو المراد جهة المشرق والمغرب…
التعبير الثَّاني: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾. {الرحمن/17}
قيل: مشرق الشمس ومشرق القمر ومغربهما.
وقيل: مشرق الشمس في الصيف ومشرقها في الشتاء وكذالك مغربها.
وقيل: اختلاف مشرق الشمس ومغربها تبعًا لاختلاف مواقع الكرة الأرضية.
التعبير الثالث: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ…﴾. {المعارج/40}
مشارق الشمس ومغاربها المتوالية على بقاع الأرض فإنَّ الشمس قد تغرب عن قوم لتشرق على قوم آخرين، ففي كلِّ لحظة أثناء دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس ليطل مغرب في بقعة ويختفي مغرب في بقعة أخرى.
وربَّما يُراد تعدّد الشروق والغروب في مواقع النجوم التي تمتد في الفضاء، ولكلِّ واحد منها مشرق ومغرب يختلف عن الآخر في أفاقه ومميِّزاته.
نتابع تأملاتنا في الآيات الكونية إن شاء الله تعالى…
حوارات الإمام الصَّادق تؤسِّس للوحدة والتقارب:
قلنا أنَّ منهج الحوارات عند الإمام الصَّادق عليه السَّلام كان له دوره الكبير في التأسيس لوحدة الأمَّة وتقاربها…
وتساءلنا في حديثنا الماضي؟
لماذا لا يتلاقى علماء المذاهب في هذا العصر لمواجهة مشروعات الفتن الطائفية؟
لماذا لا تنشط الحوارات العلمية والثقافية والفقهية والسِّياسية؟
لماذا لا تمارس عملية إنتاج ثقافة الوحدة والتقارب؟
قلنا هناك معوِّقات، فما هي هذه المعوِّقات؟
لن أتحدَّث هنا عن دور القوى الخارجية المعادية للأمَّة في إنتاج المعوقات، فهذا له حديث آخر…
ولن أتحدَّث هنا عن دور السِّياسات الحاكمة الفاسدة في إنتاج معوِّقات الوحدة، لهذا حديث آخر…
حديثنا هنا عن المعوِّقات في داخل مكوِّنات الأمَّة نفسها، أعرض لبعض المعوِّقات:
المعوِّق الأول:
التعصُّب المذهبي الأعمى:
وقد أنتج هذا التعصب المذهبي الأعمى نهجًا متشدِّدًا تكفيريًا رافضًا لأيِّ شكلٍ من أشكال التقارب بين المذاهب بدعوى أنَّ الآخر المذهبي هو أساسًا خارج الدائرة الإسلامية، ويتحرَّك هذا الموقف لدى متشدِّدين من هذا المذهب أو ذاك المذهب…
هذا الموقف المتعصِّب المتشدِّد الذي يعتمد نهج التكفير والإلغاء يرفضه كلُّ العقلاء المخلصين من السُّنة والشيعة أو من كلِّ الانتماءات والمكوِّنات.
لماذا؟
أوَّلًا: كونه مخالفًا للأسس القرآنية والفقهية والموضوعية، ولا يمثِّل إلَّا نزعة منفلتة، مأسورةً للتعصب المفرط في إلغاء الآخر ومصادرته، وهو يعبِّر عن جهلٍ فاحشٍ بثوابت الدين وضروراته وقيمه وأخلاقياته…
ثانيًا: هذا الموقف – بلا إشكال – تُغذِّيه قوى معادية للإسلام والمسلمين، تسعى دائمًا من أجل تفتيت وحدة المسلمين وإضعاف شوكتهم، فهذه القوى تجد في (النزاعات التكفيرية) ما يحقِّق أهدافها ومشروعاتها الراقية للسيطرة على مقدَّرات المسلمين والهيمنة على كلِّ واقعهم الثقافي والاقتصادي والأمني والعسكري.
وكلَّما اهتزت وحدة المسلمين وتجذَّرت بينهم الصراعات والخلافات، وأسرتهم أهواء المصالح والأعراض الدنيوية، كانوا فريسةً سائغة للقوى المعادية للإسلام…
جاء في الحديث عن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وآله:
«يوشك أنْ تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها…».
النبي صلَّى الله عليه وآله هنا يتحدَّث عن مستقبل هذه الأمَّة، ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ {النجم/3-4}، هذا المستقبل الذي يحوِّل المسلمين لقمة سائغة لكلِّ الطامعين من أعداء هذه الأمَّة ينهشون كلَّ ثرواتهم وكلَّ خيراتهم ويعبثون بكلِّ مقدراتهم وكراماتهم.
«قالوا: يا رسول الله أمِنْ قلةٍ فينا يا رسول الله».
يتساءل المسلمون الذين حدَّثهم النبي صلَّى الله عليه وآله، هل أنَّ هذا الإذلال والمهانة وما يصيب المسلمين من قبل أعداء الإسلام هو نتيجة كونهم لا يشكلون رقمًا يعتدُّ به…
أجابهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم:
«لا أنتم كثيرون»
اليوم المسلمون أكثر من مليار…
إلَّا أنَّهم لا يمثلون رقمًا سياسيًا وعلميًا وعسكريًا في العالم، رغم أنّهم يملكون أضخم الثروات، ويملكون أعظم المواقع الجغرافية، القوى الكبرى تتلاعب بمقدرات المسلمين، والصهاينة يمارسون العبث بكرامة هذه الأمَّة، لماذا كلُّ هذا؟
لأنَّ المسلمين – وخاصة في واقعهم السِّياسي – ابتعدوا عن الإسلام، وحكَّموا أغراض الدنيا، واستسلموا لكلِّ الأهواء والمغريات الشيطانية، وتنازعوا واختلفوا وكفَّر بعضهم بعضًا، وتوزعوا شيعًا يتحاربون ويتقاتلون…
هذا ما أكَّده حديث النبي صلَّى الله عليه وآله حينما سألوه «أمِنْ قلةٍ فينا يومئذ»
حيث قال: «لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل، من حبِّكم الدّنيا وكراهيتكم الموت».
أعود لمتابعة النقاط في سبب رفض الموقف المتعصب التكفيري، قلنا: أوّلًَا وثانيًا
أمَّا ثالثًا:
فإنَّ هذا الموقف المتشدِّد المتطرِّف التكفيري كلَّف الواقع الإسلامي السُّني والشيعي أثمانًا باهظةً جدًا من صراعات ومواجهات وصدامات ودماء.
نتابع الحديث – إنْ شاء الله – حول معوِّقات الوحدة بين المسلمين…
وآخر دعوانا أنْ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين