حديث الجمعة 345: اذكروا الله ذكرًا كثيرًا (3) – منهج الحوار عند الإمام الصَّادق (ع) (4) – المجلس الإسلامي العلمائي ليس مشروعًا سياسيًا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة المعصومين وبعد فمع بعض العناوين:
يستمر حديث (الذِّكر):
الذِّكر – كما مرَّ الحديث – على ثلاثة أنواع: ذكر قلبي، وذكر لساني وذكر عملي…
بدأنا الكلام عن (الذِّكر القلبي) ويُسمَّى (الذِّكر الخفي) وهو يفضل على الذِّكر المنطوق بسبعين ضعفًا كما عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
ومن أعظم مصاديق (الذِّكر القلبي): التفكر في خلق الله..
• قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ…﴾. {آل عمران/191}
• وقال صلَّى الله عليه وآله:
«اعطوا أعينكم حظَّها من العبادة، قالوا: وما حظَّها من العبادة يا رسول الله؟
قال صلَّى الله عليه وآله: النظر في المصحف والتفكُّر فيه والاعتبار عند عجائبه».
• وقال صلَّى الله عليه وآله:
«فكر ساعة خير من عبادة سنة».
• وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام:
«لا عبادة كالتفكُّر في صنعة الله».
• وقال الإمام الرِّضا عليه السَّلام:
«ليست العبادة كثرة الصَّلاة والصوم، إنَّما العبادة التفكُّر في أمر الله».
نتابع التأمل والتدبر في بعض الآيات القرآنية:
1- قوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾. {يس/38}
مفردة (الشمس) وردت في القرآن ثلاثًا وثلاثين مرة…
وهي تعني (شمسنا) هذه التي نراها في كلِّ يوم تشرق في المشرق، وتغرب في المغرب، في نظام دقيق بديعٍ يدلُّ على عظمة الخالق المبدع العظيم…
وهل توجد في هذا الكون (شموسٌ) غير شمسنا هذه؟
شمسنا هي نجم واجد من مليارات النجوم…
في مجرَّتنا – مجرَّة درب التبَّانة – فقط أكثر من مليار نجم، وشمسنا واحدة من هذه النجوم…
ومجرَّتنا ليست هي الوحيدة في هذا الكون، وإنَّما هناك على ما يعتقد علماء الفلك الحديث أكثر من ألف مليون مجرَّة (أكثر من مليار مجرَّة).
وهناك السدم الغازية المنتشرة بين المجرَّات…
وهناك مادة كونية مظلمة لا يمكن أنْ يراها البشر…
فكم هو حجمنا في هذا الكون؟
كم هو حجم شمسنا، ومجموعتنا الشمسية؟
كم هو حجم أرضنا؟
إذا كانت شمسنا ذرة صغيرة صغيرة في هذا الكون، إذا كان في الكون مليار مجرَّة، وفي كلِّ مجرَّة مليار نجم، فكم عدد النجوم في هذا الكون (مليار × مليار) يعني مليار مليار (واحد ضع أمامه ثمانية عشر صفرًا)، شمسنا واحدة من هذا العدد الهائل من النجوم، هذا ما أمكن لوسائل الإنسان أن تكتشفه…
أمَّا أرضنا فهي أصغر من الشمس بكثير…
شمسنا أكبر من أرضنا بـ (1.300.00 مرة)
أمَّا لماذا نشاهد الشمس في الحجم الذي يبدو لأنظارنا؟
لأنَّ المسافة بيننا وبين الشمس كبيرة جدًّا قدَّروها بـ (150 مليون كيلو متر)
إنَّها آيات الله العظيمة في هذا الكون ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ…﴾. {فصلت/53}
فالقرآن يفتح عقولنا على ما في هذا الكون من إبداع وعظمة، وكذلك على ما في أنفسنا من لطائف الصنعة، وبدائع الحكمة.
الإنسان يمثِّل إحدى ظواهر هذا الكون الكبير، بما فيه من عظمة الخالق والصنع والإبداع ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. {غافر/57}
وكلُّ هذا الكون في قبضة الله القادر المهيمن الجبَّار، وقد تحدَّى القرآن الجنَّ والإنس إن كانوا يملكون القدرة للانطلاق خارج ملك الله، وبعيدًا عن سلطانه وتدبيره ومواقع قوته ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ {الرحمن/33}، إنَّكم لا تملكون هذا السلطان، وهذه القدرة…
وقد حاول البعض تفسير السلطان هنا بالعلم، وقالوا إنَّ صعود الإنسان إلى القمر أثبت قدرة الإنسان على النفاذ خارج نطاق الأرض متى توفَّرت له الوسائل العلمية، إلَّا أنَّ أجواء الآية لا توحي بهذا المعنى، فهي في سياق التحدِّي للجنِّ والإنسِ، وأنَّهم لا يستطيعون الفرار والنفوذ من ملك الله، لأنَّ هذا الفرار والنفوذ يحتاج إلى قدرة وهم لا يملكون هذه القدرة…
نتابع التدبُّر في آيات الكون إنْ شاء الله تعالى.
منهج الحوار عند الإمام الصَّادق عليه السَّلام:
يستمر الكلام حول منهج الحوار عند الإمام الصَّادق عليه السَّلام، ونستعين هنا بنموذج آخر من حوارات الإمام الصَّادق عليه السَّلام.
هذا الحوار جرى بين الإمام الصَّادق عليه السَّلام مع أحد أئمَّة المذاهب الإسلامية وهو أبو حنيفة إمام المذهب الحنفي، حيث طرح هذا الأخير (القياس) كمصدر من مصادر الاستنباط، وقد رفض أئمَّة أهل البيت عليهم السَّلام ذلك بشدَّة، واعتبروا ذلك منهجًا خاطئًا في استنباط أحكام الله، وحرصًا منهم على حماية الشريعة، وصيانة أحكام الدين تصدّوا لمجموعة من المصادر التشريعية التي اعتبروها دخيلة، ومن هذه المصادر: القياس، والاستحسان، وتفسير القرآن بالرأي، باعتبارها لا تشكِّل أدوات صالحة لفهم الشريعة وأحكامها…
الحوار الذي نعرض له هنا يمثِّل نموذجًا من تصدِّي الأئمَّة عليهم السَّلام لفكرة القياس، وبأسلوب حواري علمي لا يحمل لغة الإلغاء والمصادرة والتكفير، ويعبِّر عن روح منفتحة شفافة لا تضيق بالرأي الآخر، بل تحاوره بالحجة والبرهان والدليل.
وهذا النموذج من الحوار يؤكِّد انفتاح مدرسة الإمام الصَّادق عليه السَّلام على كلِّ المذاهب والطوائف والأديان، فإذا كان النموذج الأول الذي طرحناه في حديثنا الماضي يعبِّر عن انفتاح مدرسة الإمام الصَّادق عليه السَّلام على مَنْ ينكر الأديان، فهذا النموذج الذي نعرضه في هذا اللقاء يعبِّر عن انفتاح هذه المدرسة الإسلامية على المذاهب الأخرى في الدائرة الإسلامية.
الحوار كما جاء في كتاب الاحتجاج للطبرسي:
• قال الإمام الصَّادق لأبي حنيفة: انظر في قياسك إنْ كنت مقيسًا، أيّما أعظم عند الله القتلُ أو الزنا؟
قال أبو حنيفة: بل القتل.
قال الإمام الصَّادق عليه السَّلام: فكيف رضي في القتل بشاهدين ولم يرضى في الزنا إلَّا بأربعة؟
ثمَّ قال الإمام الصَّادق عليه السَّلام: الصَّلاة أفضل أم الصيام؟
قال أبو حنيفة: بل الصَّلاة أفضل.
قال الإمام الصَّادق عليه السَّلام: فيجب على قياسك قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصَّلاة في حال حيضها دون الصِّيام، وقد أوجب الله عليها قضاء الصوم دون الصَّلاة..
ثمَّ قال الإمام الصَّادق عليه السَّلام: البول أقذر أم المني؟
قال أبو حنيفة: البول أقذر.
قال الإمام الصَّادق عليه السَّلام: يجب على قياسك الغسل من البول دون المني، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول.
– انتهى الحوار –
كم نحن في هذا العصر – عصرنا هذا – الذي ازدحمت فيه الصراعات والعداوات الطائفية والمذهبية والسِّياسية في أمسِّ الحاجة إلى منهج الإمام الصَّادق في الحوار، فالنموذج الذي طرحناه، حوارٌ بين إمام من أئمَّة أهل البيت عليهم السَّلام وإمام من أئمَّة المذاهب الإسلامية التي اعتمدت نهجًا فقهيًا آخر وما كان هذا الاختلاف ليشكِّل مانعًا أو حاجزًا عند الإمام الصَّادق عليه السَّلام ولا عند الإمام أبي حنيفة من اللقاء والحوار من أجل الوصول إلى القناعات الأصوب وقد ثبت أنَّ أبا حنيفة قال كلمته المشهورة (لو لا السنتان لهلك النعمان) وفهمها البعض أنَّ أبا حنيفة غيَّر الكثير من قناعاته الفقهية والكلامية في ضوء لقاءاته مع الإمام الصَّادق…
لما لا يتلاقى علماء المذاهب في هذا الزمان لمواجهة أخطار الفتن الطائفية والمذهبية، ومن أجل التصدِّي لمشروعات التجزءة والتفتيت لوحدة الأمَّة؟
لماذا لا تنشط الحوارات العلمية في جميع قضايا المسلمين المصيرية، الفكرية، والفقهية، والاجتماعية، والسِّياسية؟
لماذا لا نمارس إنتاج ثقافة التقارب والتآلف والتسامح والمحبَّة؟
لا شكَّ هناك معوِّقات صعبة، ولكن هذا لا يبرِّر أن تستمر القطيعة والصراعات والعداوات…
ما هي المعوِّقات؟
وكيف نواجه هذه المعوِّقات؟
نجيب عن ذلك في لقائنا القادم إنْ شاء الله…
المجلس الإسلامي العلمائي ليس مشروعًا سياسيًا:
قالوا: إنَّ هذا المجلس لا يملك الشرعية فهو لم يتأسَّس بقرارٍ رسمي…
وقالوا: إنَّ هذا المجلس واقعًا طائفيًا…
وقالوا: إنَّ هذا المجلس تصدَّى للعمل السِّياسي…
وسواء صدر قرار رسمي بإيقاف هذا المجلس أم لم يصدر، فإنَّنا يجب أنْ نحاسب هذه المقولات أمَّا قرار الإيقاف أو الحذف فله حديثٌ آخر…
مع المقولة الأولى:
أنَّ المجلس لا يملك شرعية قانونية…
إنَّنا نحترم الشرعية القانونية، متى ما أنتجها واقع سياسي صحيح، فما أكثر القوانين التي تفرضها الأنظمة الحاكمة هي في حاجة إلى مراجعة، وهي نفسها قوانين فاقدة للشرعية، ولست في صدد الولوج في هذا الموضوع…
ما أريد تأكيده أنْ أتساءل: ما هي ممارسات المجلس الإسلامي العلمائي؟
الهدف المركزي للمجلس العلمائي (التعاون على البرِّ والتقوى من أجل أداء الوظيفة الشرعية لعلماء الدين) فهل نحتاج في هذا الهدف إلى قرار رسمي؟
عبر التاريخ، يمارس علماء الدين وظيفتهم الشرعية بلا إجازة من الحكومات، ويوم تتحوَّل هذه الوظيفة الشرعية أداة في يد الأنظمة الحاكمة، فعلى الدِّين السَّلام، وعلى علماء الدِّين أن يعلنوا التخلِّي عن وظيفتهم الشرعية…
الله أمرنا أنْ نتعاون على البر والتقوى…
فقال عزَّ من قائل: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى…﴾. {المائدة/2}
و الله أمرنا أنْ ندعو إلى الله فقال عزَّ من قائل ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. {فصلت/33}
و الله أمرنا أنْ نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر فقال عزَّ من قائل: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. {آل عمران/104}
فماذا يعني التعاون على البر والتقوى؟
أنْ نجتمع، أنْ نفكِّر، أنْ نخطِّط، أنْ نوحِّد الجهود والقدرات، أنْ نبتكر الوسائل والأدوات بشرط أن تكون الأهداف مشروعة ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى…﴾، وأن لا تكون أهدافًا محرَّمة ﴿وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ…﴾. {المائدة/2}
فأيّ عمل يشكِّل تعاونًا على البر والتقوى، ولا يشكِّل تعاونًا على الإثم والعدوان، ويدخل تحت عنوان الإثم والعدوان أيّ عمل يؤدِّي إلى الفوضى والفساد وزعزعة الأمن والاستقرار وإنتاج الفتن والصراعات والخلافات والعداوات، وترويج الباطل والضلال والانحراف…
عملنا في المجلس الإسلامي العلمائي من أجلى مصاديق (التعاون على البر والتقوى) وليس فيه أيّ نزوع نحو (الإثم والعدوان) وإنتاج الفتن والعداوات والصراعات، ولا يعني أنْ يتشنَّج البعض من هذا المشروع بدوافع معروفة، أنْ يكون مشروعنا سببًا في التأزيم والخلاف ممَّا يضعه في قائمة المشروعات المضادَّة والمنتجة للإثم والعدوان…
عملنا في المجلس العلمائي يملك الشرعية كلّ الشرعية وسواء صدر قرار بإيقاف المجلس أم لم يصدر، سواء تمَّ إلغاء هذا العنوان أم لم يتم، سوف نبقى نمارس (تعاوننا على البر والتقوى) و(دعوتنا إلى الله) و(أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر) كما أمرنا الله سبحانه وبأساليب التي يرتضيها الشرع…
إنَّ جميع الوظائف والممارسات التي قمنا بها وسوف نبقى نقوم بها هي مفردات تطبيقية لعنوان (التعاون على البر والتقوى) وعنوان (الدعوة إلى الله) وعنوان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)…
أعطونا مفردة واحدة في ممارساتنا تخرج عن هذه العناوين الثلاثة…
ما نمارسه هو: توجيهات دينية، دروس، محاضرات، تعليم، تأليف، مؤتمرات، لقاءات، احتفالات، مجالس وعظ، وإرشادات تربية وتثقيف… ربَّما قمنا بها بصفة فردية وربَّما قمنا بها بصفة جماعة، هذا هو عملنا في المجلس الإسلامي العلمائي، وما كنا ولن نكون مخرِّبين، ولا مفسدين، ولا متطرِّفين، ولا إرهابيين، ولا دعاة عنف، وفتنة، وتأزيم…
مهما ظلمتنا الكلماتُ التي لا تملكُ هدىً ولا بصيرة، أو الكلمات المسكونةُ بالحقد والشنآن والعصبية، أو الكلمات المدفوعة الثمن في مزادات السِّياسة الرخيصة، وأمَّا قصَّة (الطائفية) كما رمونا بها زورًا وبهتانًا، وأمَّا قصة (العمل السِّياسي) الذي اعتبروه جرمًا ندان عليه…
فهذا ما أتناوله في الحديث القادم بإذن الله تعالى.
وآخرُ دعوانا أنْ الحمدُ لله ربِّ العالمين.