حديث الجمعة 335: الاستغفار دواء الذنوب (3) – مناسباتٌ في حاجةٍ إلى توظيفٍ هادف – تصريحات… ماذا وراءها؟
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة المعصومين…
لا زال الحديث مستمرًا حول عنوان:
الاستغفار دواء الذنوب:
أنْ يكون الاستغفار علاجًا ناجحًا للذنوب والمعاصي يحتاج إلى مجموعة مواصفات، وإلَّا كان فاقدًا للتأثير، كما الدواء الجسدي لا ينتج أثره إلَّا وفق شروط يحدِّدها الطبيب، فإذا لم تتوفر هذه الشروط كان الدواء عديم الفائدة.
الذنوب والمعاصي أمراض روحية خطيرةٌ جدًا، وربَّما كانت مزمنة، فالتعاطي مع علاجاتها يحتاج إلى التزام دقيق بشروط العلاج ويحتاج إلى صبرٍ ومجاهدة، فإذا كان العلاج الجسدي لا يحتاج إلى أكثر من ضبط الجرعات وأوقات الاستعمال والمواظبة على العلاج، فإنَّ استخدام العلاجات الروحية في حاجة إلى جهود أكبر، وإلى معاناة أصعب، وإلى تطبيقات أعقد.
الحديث النبوي الذي تقدّم يقول: «لكلِّ داء دواء ودواء الذنوب الاستغفار».
كيف نطبِّق هذا العلاج؟
توجد مجموعة شروط لتطبيق هذا العلاج:
(الشرط الأول) الاستغفار الخالص لله تعالى:
لا قيمة لأيّ عمل لا إخلاص، إنَّ الله سبحانه لا ينظر إلى ظواهر أعمالنا، ولا إلى حجم هذه الظواهر، فربَّما تكون هذه الظواهر كبيرةً وكبيرةً، ولكنَّها عند الله صغيرةً صغيرةً، ربَّما تكون هذه الظواهر عند الناس جميلةً وجذَّابة، ولكنَّها عند الله قبيحةً مقزِّزة…
ربَّما يكون أحدُنا مَلاكًا عند النَّاس، إلَّا أنَّه شيطان عند الله..
ربَّما يكون أحدنا قدِّيسًا عند النَّاس، إلَّا أنَّه من أسوء العباد عند الله..
• في الحديث: «مَنْ كان ظاهرة أكبر من باطنه خفَّ ميزانه يوم الحساب، ومن كان باطنه أكبر من ظاهره ثقل ميزانه يوم الحساب».
هناك كلمةٌ تقول: «إنَّ العبد لينشر له من الثناء ما بين المشرق والمغرب ولا يساوي عند الله جناح بعوضة».
فالإخلاص هو الذي يعطي للعمل قيمته (سواء أكان هذا العمل دعاءً، ذكرًا، صلاةً، تلاوةً، صيامًا، حجًا، أو كان فعلًا ثقافيًا أو خدمة اجتماعية أو نشاطًا خيريًا أو فعالية سياسية أو تبليغية أو جهادية…).
وسوف يفتضح كثيرون يوم القيامة ممَّن تظاهروا في الدنيا بأنَّهم يعملون لله تعالى وهم في ذلك كاذبون.
• روي عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله أنَّه قال (مضمون الحديث): «يؤمر بأناس إلى النَّار فيقول الله جلَّ جلاله لمالك:
قل للنَّار لا تحرق لهم أقدامًا فقد كانوا يمشون بها إلى المساجد..
ولا يحرق لهم وجوهًا فقد كانوا يسبغون الوضوء..
ولا يحرق لهم أيديًا فقد كانوا يرفعونها بالدعاء..
ولا يحرق لهم ألسنًا فقد كانوا يكثرون تلاوة القرآن..
قال: فيقول لهم مالك خازن النَّار، يا أشقياء ما كان عملكم؟
قالوا: كنَّا نعمل ليغير الله عزَّ وجلَّ…
فيقال لهم: خذوا ثوابكم ممَّن عملتم له…».
• وجاء في حديث آخر:
«أول ما يسأل يوم القيامة ثلاثة:
– رجل آتاه الله العلم، فيقول الله تعالى: ما صنعت فيما علمت؟
فيقول: يا ربِّ أقوم به أناء الليل والنَّهار.
فيقول الله عزَّ وجلَّ: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل أردت أنْ يُقال: فلان عالم، ألا فقد قيل ذلك.
– ورجل آتاه الله مالًا فيقول الله تعالى: قد أنعمت عليك فماذا صنعت؟
فيقول: يا ربِّ كنت أتصدق به أناء الليل والنهار.
فيقول الله عزَّ وجلَّ: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، أردت أنْ يُقال: فلان جواد، ألا فقد قيل ذلك.
– ورجل قُتِل في سبيل الله، فيقول الله تعالى: ما صنعت؟
فيقول: أمرتَ بالجهاد فقاتلتُ في سبيلكَ حتَّى قتلتُ.
فيقول الله عزَّ وجلَّ: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، أردت أنْ يُقال فلان: شجاع، ألا فقد قيل ذلك..ز».
فأول شرط لكي يحقِّق (الاستغفار) أثره في معالجة أمراض الروح – الذنوب والمعاصي – أنْ يكون الاستغفار صادقًا خالصًا لله وليس منطلقًا من مصالح وأغراض دنيوية وشخصية، وإنَّ قيمة الاستغفار ليس في الكم والكثرة، وإن كان الإكثار من الاستغفار أمرًا مطلوبًا كما سنذكر ذلك، القيمة كلّ القيمة حينما يحمل الاستغفار مضمونًا حقيقيًا يعبِّر عن حبِّ الله تعالى أو حياءٍ منه، أو خوفٍ من عذابه أو شوقٍ إلى ثوابه، هذا هو معنى الإخلاص في الاستغفار.
نتابع حديثنا – إنْ شاء الله تعالى – مع بقية الشروط.
مناسباتٌ في حاجةٍ إلى توظيفٍ هادف:
نلتقي في هذا الشهر – شهر شعبان – بمناسبات دينية كثيرة، هذه المناسبات في حاجة إلى توظيف هادف، مناسباتنا الدينية لها قيمتها الكبيرة جدًا، إلَّا أنَّ هذه القيمة لا تعطي أثرها إلَّا من خلال (توظيف هادف) نمارسه نحن، وإذا غاب هذا التوظيف الهادف تحوَّلت هذه المناسبات إلى ممارسات شكلية معطَّلة، وإذا كان لها بعضُ المعطى فعلى مستوى (الانفعال الوجداني) فيما يمثله من تعبير عن (الفرح أو الحزن) وهذا التعبير لا شك له ضرورته وأهميته، إلَّا أنَّه إذا فرِّغ من (الوعي والبصيرة) تعطَّلت الكثير من منتجاته المهمة جدًا…
والسؤال الذي يُطرح هنا: كيف نُوظِّفُ هذه المناسبات توظيفًا هادفًا؟
– هل من خلال حجم المظاهر الاحتفالية؟
لهذا أهميته وقيمته وضرورته، إلَّا أنَّه لا يعبِّر دائمًا عن التوظيف الهادف.
– هل من خلال كثافة البرامج والفقرات؟
لا تعبِّر هذه الكثافة دائمًا عن التوظيف الهادف.
– هل من خلال (الإعلام والدعاية) لهذه الاحتفالات؟
لا شك أنَّ هذا الإعلام يُشكِّل حاجة وضرورة، ويجب أنْ تُطوِّر أدوات وأساليب هذا الإعلام اعتمادًا على ما حدث من تطور مُذهل في تقنيات الإعلام الحديث، إلَّا أنَّ هذه وحده لا يعبِّر عن التوظيف الهادف.
– هل من خلال (حجم الحضور) في هذه الاحتفالات؟
بالطبع أنَّ حجم الحضور يعبِّر عن تفاعل النَّاس، ويعبِّر عن قدرة هذه المواقع الاحتفالية على اجتذاب الجمهور، إلَّا أنَّ هذا ليس هو التعبير الواقعي للتوظيف الهادف.
– من خلال (الحماس والعواطف المتأججة) هذا يشكِّل تعبيرًا مطلوبًا جدًا، غير أنَّه لا يمثِّل التوظيف المطلوب.
يبقى السؤال المطروح قائمًا وفي حاجة إلى إجابة…
التوظيف الهادف أنْ نحوِّل هذه الاحتفالات إلى:
أوَّلًا: مواقعَ لإنتاج الوعي الإيماني الأصيل.
ثانيًا: مواقع لإنتاج الولاءِ الحقيقي الصادق.
ثالثًا: مواقعَ لإنتاج التمثُّل العملي الذي يجسِّد معنى الانتماء للإسلام ومعنى الانتماء إلى الأئمَّة من أهل البيت عليهم السَّلام.
• ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ…﴾. (آل عمران/ 31)
• ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ…﴾. (الأحزاب/ 21)
• «ما شيعتنا إلَّا من اتقى الله وأطاعه».
• «لا تنال ولايتنا إلَّا بالورع».
• «مَنْ كان لله مطيعًا فهو لنا ولي، ومَنْ كان لله عاصيًا فهو لنا عدو».
القيمة كلُّ القيمة حينما تكون مناسباتنا الدينية (محطات تغيير وبناء) على كلِّ المستويات العقيدية والثقافية والروحية والأخلاقية والسلوكية والرسالية والجهادية.
تصريحات… ماذا وراءها؟
تحركت خلال الأسبوع المنصرم مجموعة تصريحاتٍ لمسؤولين كبار أمريكيين وبريطانيين تطالب البحرين بإصلاحاتٍ حقيقية تلبي تطلعات الشعب وتؤكد أنْ لا سبيل لتحقيق الأمن والسَّلام والاستقرار الدائم إلَّا من خلال هذه الإصلاحات الجادَّة.
ماذا وراء هذه التصريحات؟
وهل تحمل صدقية؟
وكيف قرأ شعبُنا هذه الكلمات؟
ولكي لأكون موضوعيًا أعرض في الإجابة عن هذه التساؤلات إلى مجموعة مواقف:
الموقف الأول: ولعلَّه موقف الغالبية المعارِضة هذا الموقف لا يحمل أيَّ شيئ من التفاؤل ويرى أنَّ هذه التصريحات تتحرَّك في سياق (لعبة التخذير) و(لعبة التضليل) و(لعبة التآمر على قضايا هذا الشعب) في ظلِّ واقع أمني وسياسي مشحون بمعطيات لا يسمح بالتفاؤل، إضافة إلى أنَّ هذه التصريحات لم تكن الأولى، فقد تكرَّرت وتكرَّرت، ومنتجات التأزيم والتصعيد التي يمارسها النظام تزداد ضراوة وشدَّة، وخيار البطش الأمني هو سيِّد الموقف، فهل يمكن أنْ نقنع أنفسنا بوجود شيئ من الصدقية لهذه التصريحات إلَّا أنْ تكون أمريكا وبريطانيا عاجزتين تمامًا أمام إصرار الحكم في البحرين على ممارسة هذا النهج الذي لا يرضي الدوليتين العظميين؟!!
وهذا غير وارد إطلاقًا…
الموقف الثاني: موقف ينزع إلى تشاؤم ممزوج بشيئ من التفاؤل.. فهو يرى في هذه التصريحات بصيص أمل خاصة وأنَّها تزامنت مع تصريحات مسؤولين في النظام تؤكِّد الرغبة في إعادة إنتاج الواقع السِّياسي بما يحقِّق لهذا الشعب تطلعاته واستقراره وأمنه.
لست هنا في صدد محاسبة هذه المواقف، بقدر ما هي القراءة الراصدة لما يتحرك من رؤى وتصورات.
أمَّا كم هي مصداقية هذه الرؤى والتصورات فمسألة في حاجة إلى قراءة ومحاسبة.
ولكن ما نجزم به أنَّه لا يوجد في الشارع تفاؤل مطلق، إلَّا لدى من لا يرى وجود أزمة سياسية وأمنية في هذا البلد.
وعلى كلِّ حال فإنَّ التصريحات والكلمات وحدها لا يمكن أن تطمئن شعبنا في ظل تجارب مريرة، وفي ظل واقع أمني أكثر مرارة.
ما يُطَمئِن هذا الشعب أنْ يتحرَّك مشروع سياسي حقيقي يستجيب لمطالب الشعب العادلة ووفق ضمانات قادرة أنْ تعيد للناس الثقة والتي تمَّ مسحها من النفوس مسحًا كاملًا..
ولا يمكن إعادة شيئ من هذه الثقة ما لم تكنس تمامًا كلّ منتجات القرار الأمني وكلّ تداعياته المرعبة…
ولا يمكن إعادة شيئ من هذه الثقة ما لم تتم معاقبة كلّ مرتكبي جرائم القتل والفتك والاعتداء على الأعراض والحرمات والمقدَّسات.
ولا يمكن إعادة شيئ من هذه الثقة ما لم تتوقف نهائيًا (خطابات الكراهية والتخوين والتحريض) الموجَّهة ضدَّ طائفةٍ تشكِّل مكوِّنًا كبيرًا في هذا الوطن.
وإلَّا فسوف تبقى المشروعات المطروحة مهزوزة الثقة، فاقدة الصدقية، مقرونة بالشك والريبة والاهتزاز بل بالرفض والمواجهة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين