حديث الجمعة 318: قراءةٌ سياسية في بيعة الإمام الرضا عليه السَّلام (1) – كيف هي القراءة التي يقدّمها النظام للمشهد السياسي في البحرين؟
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلوات على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّدٍ وعلى آله الهداة المعصومين…
وبعد.. فمع هذا العنوان:
قراءةٌ سياسية في بيعة الإمام الرضا عليه السَّلام:
حدثت هذه البيعة في عصر المأمون العباسي، وهنا سؤال يطرح: لماذا أقدم المأمون على هذه الخطوة؟
تعدّدت التفسيرات الخاطئة والمغلوطة، وبعضها متجنّية وظالمة، ومن هذه التفسيرات:
(1) ما ذكره أحمد أمين صاحب كتاب فجر الإسلام:
ذهب هذا الكاتب المصري إلى أنّ المأمون العباسي أراد من هذه الخطوة أنْ يُعرّي واقع الأئمة، فقد كانوا يزعمون – هكذا يقول – أنّهم إذا ولوا أمور الرعية ساسوها بالعدل المطلق، وفرق بين الدعوى والواقع، وكانوا يتسترون عن الناس ويرتكبون المآثم، فحينما يكونون في موقع التجربة ينكشف أمرهم، وتسقط دعاواهم، ولا يقدّسهم النّاس – انتهى ما طرحه أحمد أمين باختصار شديد –.
واضح أنّ هذا الكلام فيه من الزيف والكذب والافتراء ما لا يحتاج إلى مناقشة، فالأمّة عاشت تجربة الحكم في ظلِّ خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السَّلام، فكانت أغنى تجربة بالعدل، ثمَّ أيّ أثم مارسه الأئمة من أهل البيت وحياتهم مملوءة بالتقوى والصلاح والطاعة لله وهذا ما يشهد به حتّى أعداء الأئمة من أهل البيت…
إلّا أنّ أمثال هؤلاء الكُتّاب قد أدمنوا تزوير الحقائق وتعمّد الإساءة إلى أهل البيت، وإلى أتباع أهل البيت، أليس هو صاحب المقولة المشهورة أنّ التشيّع مذهب يلجأ إليه كلّ مَنْ أراد هدم الإسلام، هكذا يزرع كُتّابٌ حاقدون متعصبون الروح الطائفية بين المسلمين، وهكذا يكذبون ويكذبون بلا وازع من دين أو ضمير، وهكذا يغذّون حالات التطرّف والعنف، ما تمارسه اليوم جماعات الإرهاب من قتل وفتك هتك وعبث بالأرواح والأعراض والمقدّسات ما هو إلّا نتيجة هذا النمط من الثقافة الموبوءة…
(2) إنّ السّبب في إقدام المأمون على هذه البيعة هو أنّه كان قد نذر إنْ أظفرهُ الله بأخيه الأمين وانتصر عليه أنْ يجعل الخلافة في أفضل آل أبي طالب…
وقد تمَّ له ذلك فأراد أن يفي بهذا النذر ما قدم على تعيين الإمام الرضا عليه السَّلام وربّما صرّح بهذا المأمون…
إلّا أنّ هذا التصريح هو محاولة للتستّر على الأهداف الحقيقية وراء هذا المشروع، ومن أجل خداع النّاس وتضليلهم… فالمأمون يرمي إلى أغراض سياسية خطيرة يأتي الحديث عنها وليست القضية وفاءً بنذر، وإن ذهب إلى هذا الرأي بعض علمائنا الأجلّاء…
(3) إنّ المأمون العباسي كان متشيّعًا، محبًّا لأهل البيت عليهم السَّلام.. ويدعم أصحاب هذا الرأي قولهم ببعض المؤيدات:
أ- كان المأمون كثيرًا ما يصرّح بحبّه لعليّ عليه السَّلام ولأهل البيت عليهم السَّلام..
ب- كان يفتح المجال للمناظرات والاحتجاجات من أجل إثبات إمامة علي بن أبي طالب عليه السَّلام..
ج- كان يعطف بشكل كبير على العلويين..
د- أقدم على ردّ فدك إلى أهل البيت عليهم السَّلام..
ه- تزويجه بابنتيه للإمامين الرضا والجواد عليهما السَّلام..
و- محاولته الجادّة بجعل شتم معاوية وسبّه سنّهً جاريةً..
ولنا حول هذا الرأي مجموعة من الملاحظات:
الملاحظة الأولى:
إنّ إظهار التشيّع والحبّ لأهل البيت كان محاولة لكسب العلويين المتشيّعين لهم، خاصة وأنَّ الخراسانيين قد انتشر بينهم الولاء والحبّ لأهل البيت فمن الطبيعي أنْ يتظاهر المأمون بهذا الميل إلى الأئمة عليهم السَّلام من أجل أغراض سياسية، ومن المعروف أنّ العباسيين يرفضون خلافته، ويميلون إلى أخيه الأمين…
الملاحظة الثانية:
إنّ تحريكه للجدل والمناظرات في قضية الخلافة، وخلق القرآن، والمتعة وغيرها من القضايا الخلافية بين المسلمين كان من أجل إشغال العلماء بعضهم ببعض، وإلهاء الناس ليتمكن من تمرير كلّ سياساته، وكلّ مخططاته، وهذا ما يصنعه أكثر الحكّام في كلّ العصور حينما يشغلون النّاس، ويشغلون الشعوب بصراعات وخلافات، وخاصة الصراعات الطائفية، والخلافات المذهبية، والتجاذبات السّياسية، ممّا يوفر للأنظمة الحاكمة الفرص للهيمنة والسيطرة، وممّا يبعد الجماهير عن التفكير في محاسبة أخطاء الحكّام، وممّا يُحدث الانقسامات التي تضعف مواقف الشعوب، وهنا نؤكّد ضرورة أنْ تملك الشعوب الانتباه إلى لعبة الأنظمة الحاكمة في التوظيف الطائفي والهاء السّاحات وإشغالها عن الأهداف الحقيقية في المطالبة بالحقوق ورفض الفساد والظلم والعبث في سياسات الأنظمة الحاكمة..
فهذه لعبة في غاية الخطورة، حينما تُقتل الاهتمامات الكبرى الحقيقية لدى الشعوب، وحينما يُزّج بها في معتركات وهمية تستهلك كلّ طاقاتها وتطلعاتها الأساسية..
الملاحظة الثالثة:
لقد صدرت من المأمون العباسي ممارسات سلكها مع الإمام الرضا عليه السَّلام تكشف بوضوح زيف الدعوى بتشيّعه للأئمة عليهم السَّلام ومن هذه الممارسات:
أ- أسلوب استقدام الإمام من المدينة، إذ حدّد له المأمون طريقًا لا يمر على المناطق الشيعية..
ب- فرض الرقابة المشدّدة الصارمة على الإمام ورصد جميع تحركاته الداخلية والخارجية، وحدّد له طريق اتصالاته مع الآخرين..
ج- تهديد الإمام بالقتل إنْ لم يقبل ولاية العهد..
د- المثبتات التاريخية تبرهن على تورّط المأمون في قتل الإمام الرضا (ع)..
هـ- لو كان المأمون صادقًا في إرجاع الحق إلى أهله فلماذا لم يجعل ولاية العهد بعد وفاة الإمام الرضا عليه السَّلام في ولده الإمام الجواد عليه السَّلام؟
بعد هذا العرض لبعض التفسيرات المرفوضة والمغلوطة، نحاول أنْ نضع التفسير المقبول والذي يكشف أنّ وراء خطوة المأمون العباسي في مسألة البيعة للإمام الرضا عليه السَّلام بواعث سياسية محضة…
نذكر هنا بعضًا من هذه البواعث:
(أوّلًا): إرضاء الرأي العام الشيعي الذي كان يسيطر على خراسان وما والاه.. وكان لهذا الرأي الفضل في إرساء حكم المأمون وانتصاره على أخيه الأمين…
(ثانيًا) إخماد ثورات العلويين المتأججة في كلّ الأمصار الإسلامية:
-في مكة ونواحي الحجاز: ثورة محمد بن جعفر المسمى بـ (الديباج)
-في المدينة: ثورة محمد بن سليمان بن داود
-في الكوفة: ثورة أبي السرايا
-في البصرة: ثورة زيد النار
-في اليمن: ثورة إبراهيم بن موسى
-في واسط: ثورة جعفر بن محمد بن زيد
-في المدائن: ثورة محمد بن إسماعيل بن محمد
-وكانت هذه الثورات تلقى تأييدًا شعبيًا كبيرًا…
(ثالثًا) وضع الإمام عليه السَّلام تحت المراقبة الدقيقة من قرب، تمهيدًا للقضاء عليه نهائيًا بأساليبه الخاصة…
ومن الإجراءات التي اتخذت لمراقبة الإمام:
-وضع عليه عيونًا يرصدون كلّ حركات الإمام وتصرفاته..
-حدّد طريق الاتصال به..
(رابعًا) عزل الإمام عليه السَّلام عن شيعته ومؤيده وقواعده الشعبية..
(خامسًا) الحصول على اعتراف ضمني من الإمام عليه السَّلام بشرعية خلافته وتصرفاته..
(سادسًا) تحذير العباسيين المعارضين له بأنّه سوف ينقل الخلافة إلى خصومهم العلويين إذا استمر هؤلاء في معارضتهم له..
يبقى سؤال المهم:
-لماذا قبِل الإمام الرضا عليه السَّلام ولاية العهد؟
-وما هي المكتسبات التي حقّقها من خلال هذا القبول؟
نعالج ذلك في حديثنا القادم إنّ شاء الله…
وهنا نخلص إلى نتيجة خطيرة وهي إنّ القراءة السّياسية الخاطئة أو المزوّرة لها نتائجها المدمّرة على أوضاع الأوطان، وأوضاع الشعوب…
نطرح مشهدنا السّياسي في هذا البلد مثالًا من خلال العنوان التالي:
من وحي ما تقدّم في حديث:
تناولنا تفسيرات خاطئة ومتجنّية لحدث سياسي وقع في التاريخ وهو ((بيعة الإمام الرضا))…
وهذا يدفع بنا للحديث عن ((المشهد السّياسي الراهن)) في هذا البلد… وكيف هي القراءة التي يقدّمها النظام لهذا المشهد؟
كيف هي القراءة التي يقدّمها النظام للمشهد السياسي في البحرين؟
إذا تابعنا خطاب السَّلطة، وإعلام السَّلطة، ومنابر السَّلطة، وأقلام السَّلطة، فسوف نجد قراءة تحاول أنْ تبرز صورة مشرقة للمشهد السّياسي في البحرين، فالبلد بخير، وأمن، وأمان، وهدوء واستقرار، ورفاه وازدهار، والدولة دولة قانون ومؤسّسات، والشعب يمارس كلّ حقوقه السّياسية، بلا قهر، ولا بطش، ولا حرمان، فلا يوجد في هذا البلد أزمات، واحتقانات، واضطرابات، واحتجاجات، واعتراضات…
وإذا وجد شيء فبعض عبث وتطرف وعنف تمارسه مجموعات صغيرة جدًا منبوذة من عامة الشعب…
هذه هي القراءة الرسمية للمشهد السّياسي…
وكم هي جناية كبرى على هذا الوطن وعلى هذا الشعب حينما تكون القراءة السّياسية على هذه الشاكلة، من حق السَّلطة أنْ تطرح رؤيتها وقراءتها للمشهد السّياسي، ولكن ليس من حقّها أنْ تصادر حقائق صارخة متحركة على الأرض، وهي واضحة لكلّ العالم، فما عادت المشاهد السّياسية مستورة، ومخفيّة، وما عادت كلّ وسائل الأنظمة الحاكمة قادرة أنْ تُعتّم على الأوضاع في البلدان…
فماذا يقول العالم عن مشهدنا السّياسي، وعن مشهدنا الأمني، وعن مشهدنا الحقوقي؟
هل ما يقول العالم يتطابق مع ما تقوله أجهزة السَّلطة في هذا البلد؟
دعونا من خطاب المعارضة، دعونا من خطاب شارعٍ عريض، فربّما يُتهم هذا الخطاب، ولكن ماذا يقول العالم – دولة، منظمات، رجال إعلام، ناشطون حقوقيون -؟
وما يقوله هؤلاء شيء آخر غير ما يقوله إعلام السّلطة…
وما عادت الأمور سرًّا مخفيًا… فأوضاع هذا الوطن مأزومة، وحقوق إنسانه مُنتهكة، ومؤشرات الديمقراطية منخفضة…
فكم مؤلم حينما يُصوّر الظلم والقهر ديمقراطية عادلة..
وحينما يُصوّر البطش والفتك أمنًا واستقرارًا..
وحينما يُصوّر الفقر والبؤس رفاهًا وازدهارًا..
وحينما يُصوّر وطن الفساد والأزمات وطن القانون ومؤسّسات..
لا نريد التجنّي على هذا الوطن، إنّنا نريد له أن يتعافى، إنّنا نريد له أنْ يتخلّص من كلّ أزماته، إنّنا نريد له أنْ يعيش أمنًا حقيقيًا، ورفاها حقيقيًا، وإنّنا نريد لهذا البلد أن يكون فعلًا بلد قانون ومؤسسات، وبلد ديمقراطية وحريات، وبلد عزّة وكرامات…
حينما تُولد إرادة التغيير، حينما تعود الثقة إلى النفوس، حينما يكون الحوار صادقًا حقيقيًا، حينما تتغيّر لغة الإعلام، حينما تتوقّف لغة الرصاص، عندئذ تكون خارطة الطريق لإنقاذ هذا الوطن بدأت…
وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين