حديث الجمعة 306: الغِيبة (2) – تحيةً للشعوب الغاضبة – أنظمة الحكم المستبدة ومواجهة حَراكات الشعوب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة الميامين…
يستمر بنا الحديث عن الغِيبة:
تحدثنا عن دور الغِيبة في هدم الطاعات..
ولعلكم تتساءلون: ما معنى الغيبة شرعًا؟
إنَّ محدّدات الغِيبة – حسب ما أوردها الفقهاء – هي:
(1) أن تذكر أخاك بعيبٍ لا يرضاه:
وتُصنَّف العيوب إلى:
1. عيوب بدنيَّة: كأن تقول: فلان أعور، قزم، أسود…
2. عيوب نَسَبية: كأن تقول: فلان نَسَبَه وضيع…
3. عيوب خُلُقية: كأن تقول: فلان بخيل، متكبر…
4. عيوب دينية: كأن تقول: فلان غير متديِّن، منافق…
5. عيوب دنيوية: كأن تقول: فلان أكول، ثرثار، نوّام…
6. عيوب تتصل ببعض شؤونه وأحواله: فلان لباسه وسخ…
وهكذا كلّ عيبٍ يتأثَّر صاحبه بذكره…
• قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«الغِيبة ذِكرُكَ أخاكَ بما يكره».
• وقال صلَّى الله عليه وآله:
«هل تدرون ما الغِيبة؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال صلَّى الله عليه وآله: ذِكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ.
قيل: أرأيتَ إنْ كان في أخي ما أقول؟
قال صلَّى الله عليه وآله: إنْ كان فيه ما تقول فقد اغتبتَه، وإنْ لم يكن فيه فقد بهتَّهُ».
(2) أنْ تذكر أخاكَ بعيبٍ مستورٍ عن النَّاس:
• قال الإمام الصَّادق عليه السَّلام:
«الغِيبةُ أنْ تقول في أخيك ما ستره الله عليه».
• وقال الإمام الكاظم عليه السَّلام:
«مَنْ ذكر رجلًا مِن خلفِهِ بما هو فيه ممَّا عرفه النَّاسُ لم يغتبه، ومَن ذكره مِن خلفِهِ بما هو فيه ممَّا لا يعرُفه النَّاس فقد اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهتَهُ».
وهنا نضع ملاحظة:
إنَّ عدم انطباق عنوان الغيبة، لا يعني دائمًا أنَّ العمل جائز فربما انطبقت عناوين أخرى محرَّمة، كإهانة المؤمن، أو تحقيره، أو إيذائه، أو ذمّه، أو الاستخفاف به، وهي عناوين محرَّمة قطعًا، ويترتب عليها عقوبات مشدَّدة…
• قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«قال الله عزَّ وجلَّ: ليأذن بحربٍ منِّي مَنْ آذى عبديَ المؤمن، وليأمن غضبي مَنْ أكرم عبديَ المؤمن».
• وقال صلَّى الله عليه وآله:
«مَنْ آذى مؤمنًا فقد آذاني، ومَنْ آذاني فقد آذى الله عزَّ وجلَّ ومَنْ آذى الله فهو ملعونٌ في التوراةِ والإنجيل والزبور والفرقان».
• وقال الإمام الصَّادق عليه السَّلام:
«مَنْ حقَّر مؤمنًا مسكينًا أو غير مسكين لم يزل الله عزَّ وجلَّ له ماقتًا حتَّى يرجع عن محقرته إيَّاه».
وتقدَّم أنَّ مَنْ قال في أخيه بما ليس فيه، فهو وإن لم يكن (غيبةً) إلَّا أنَّه (بهتان) وهو أشدُّ حرمةً من الغيبة..
• قال الله تعالى:
﴿وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾. (النساء/ 112)
• وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«مَنْ بَهَتَ مؤمنًا أو مؤمنةً، أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله يومَ القيامةِ على تَلٍّ مِن نارٍ حتى يخرج ممَّا قال فيه».
(3) أنْ يكون الحديثُ عن العيب في غيبة المؤمن..
• تقدَّم حديث الإمام الكاظم عليه السَّلام:
«مَنْ ذكر رجلًا مِن خلفِهِ بما هو فيه ممَّا لا يعرفه النَّاس فقد اغتابه».
معنى مِن خلفِهِ: أي في غيبته وعدم حضوره.
أمَّا إذا كان حاضرًا فلا يكون الحديث غيبةً، إلَّا أنَّه قد ينطبق عليه أحد العناوين الأخرى المحرَّمة كالإيذاء والتحقير والاستخفاف والإهانة والاستهزاء…
ملاحظة:
أضاف بعض الفقهاء عنصرًا رابعًا وهو (قصد الانتقاص)، إلَّا أنَّ أكثر الفقهاء لا يشترطون ذلك..
للحديث تتمَّة إنْ شاء الله تعالى…
تحيةً للشعوب الغاضبة:
هبَّتْ الشعوب الإسلامية في أقطار الأرض غاضبةً، مستنكرةً، مندِّدةً، بالممارساتِ الشائنةِ التي صدرتْ في حقِّ النبيِّ الأعظم محمد صلَّى الله عليه وآله، وكيف لا تغضب هذه الشعوب من أجل نبيِّها وحبيبها، ومنقذها، ومصدر عزِّها وكرامتها ووجودها…
نعم خرجت الشعوب الغاضبةُ في مسيراتٍ، ومظاهرات، واعتصامات، ورفعت أصواتها صارخةً لتُسمع أمريكا وإسرائيلَ وكلّ قوى الاستكبار وجميع الذين وقفوا وراء هذه الإساءاتِ والإهاناتِ الوقحةِ السَّاقطة، لتسمعهم أنَّ شعوبًا آمنتْ بالإسلام، وامتلأت حبًّا لنبي الإسلام، ولقرآن الإسلام على أتمِّ الجاهزية والاستعداد أنْ تقدِّم أرواحها، ودماءَها، وكلَّ حياتها ثمنًا رخيصًا فداءً لنبيِّها العظيم صلَّى الله عليه وآله، وفداءً لقرآنها، وإسلامِها، ومقدَّساتِها…
ويجب على أمريكا والصهاينة وكلّ القوى المعادية للإسلام أنْ تفهم هذه الرسالة، فلا مساومة على كرامةِ نبي الله، النبي الخاتم صلَّى الله عليه وآله، ولا مساومةَ على دين الله، ولا على كتاب الله، لا على شيئٍ من المقدَّسات…
فآلاف التحيِّاتِ والإكبار لشعوبنا الغاضبة، فالأمَّة بخيرٍ ما دامت تمتلك (الغيرةَ) على دينها وشرفها ومقدَّساتها…
إنَّ أمريكا وقوى الاستكبار وكلّ الأنظمة السِّياسية الحاكمة المأسورة لهيمنة أمريكا والاستكبار… تسعى جاهدة لكي تقتل (الغيرة الإيمانية) في داخل الشعوب الإسلامية، تسعى لتدمِّر (إرادة الشعوب) و(عنفوان الشعوب) و(غضب الشعوب).
تموت الشعوب حينما تموت في داخلها (الغيرةُ الإيمانية) وتموت في داخلها (الإرادة) و(العنفوان) ويخمدُ (غضبُها).
لماذا تمارس أنظمة الحكم المستبدة أقسى أشكال البطش والفتك في مواجهة حَراكات الشعوب، وثورات الشعوب، وغضبات الشعوب؟
لا تملك هذه الأنظمة خيارًا آخر غير البطش والفتك ما دامت هي أنظمة مستبدَّة، خيار الاستبداد هو قمع الشعوب، خياره الرصاص، خياره السجون والزنزانات، خياره القتل والفتك بالأرواح…
أمّا العدل فخياراتُه أخرى .. خياره إنصاف الشعوب، خياره المصالحة مع الشعوب، خياره حرية الشعوب، كرامة الشعوب.
فإنْ اختارت الأنظمة الحاكمة الاستبداد نهجًا، فخياراتُه واضحة…
وإنْ اختارت الأنظمة العدل نهجًا في الحكم، فخياراتًه واضحة…
فأزمات الشعوب ناتجة من هُوية الأنظمة الحاكمة…
فلا صلاح ولا إصلاح ما لم تصحح هذه الهوية، ومسؤولية الشعوب أنْ تضغط من أجل تصحيح هذه الهوية.
والتصحيح له نهجان، ثانيهما لا تلجأ إليه الشعوب إلَّا إذا فشل الأول، ولكلٍّ من هذين النهجين أدواته ووسائله..
النهج الأول: إصلاح النظام السِّياسي..
ويتمثَّل هذا النهج في:
– إصلاح العملية الانتخابية.
– إصلاح الدستور.
– إصلاح السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.
النهج الثاني: إلغاء النظام السِّياسي واستبداله بنظامٍ جديد..
فمن الحكمةِ والعقلِ أن لا تُلجِأ الأنظمةُ شعوبَها إلى النهج الثاني، وأن لا تُحمِّل الشعوبَ أثمانًا باهضةً، خاصة وأنَّ الأنظمة ما عادت اليومَ قادرةً أن تُسقط إرادة َ الشعوب، وأنْ تُسكِتَ غضبتها، وأنْ تقتل عزيمتها، وانْ تدجِّنَ وعيَها، وأن تسرقَ ثوراتِها، مهما بطشت هذه الأنظمة، ومهما فتكت، ومهما قتلت، ومهما انتهكت، فإنَّ هذا البطشَ والفتك، والقتل، والهتك، هو وقود الغضب لدى هذه الشعوب، ووقود الثورة، فواهمة كلّ الوهم أنظمة تحسب أنَّ عنفها يُسكتُ الشعوب، وأنَّ بطشها يوقف ثورات الغضب.
فها هي ثوراتُ الربيع العربي، انتصرت رغم كلّ القمع والبطش والفتك والقتل الذي واجهها، انتصرت وأسقطت هياكل حاكمة ظلَّتْ جاثمةً على صدور الشعوب دهرًا طويلًا، كان بإمكان الحكَّام أن يختصروا الطريق، وأن لا يُرهقوا الشعوب أثمانًا باهضةً من دماءٍ وأرواحٍ وأعراضٍ وأموالٍ، لو مارس هؤلاء الحكَّام بعضَ العقل، وأصلحوا أوضاع السِّياسة، وأعطوا للشعوب الفرصة العادلة لكي تمارسَ حقَّها المشروعَ في الحكم والسِّياسة، ووفَّروا للنَّاس الأمنَ والأمان والرخاء والازدهار لما تورَّطت الأوطانُ بأزماتٍ ثقيلة، ولما عانت الشعوبُ من أوضاعٍ مُرهقةٍ، وتوتراتٍ مزمنةٍ، واحتقاناتٍ دائمةٍ…
ليس الغرضُ من هذا الكلام هو استجداءُ عطف الأنظمة واستنهاضُ الشَّفقةِ في داخلها، وإن كان التبلّد في عواطف الحكَّام وموتُ الرحمة لديهم أحد أسباب هذه الانزلاقات السياسية المدمِّرة، وإنَّما الغرض التذكير والنصح لعلَّ الكلمةَ الصادقةَ تستطيع أنْ تساهم في تصحيح الأوضاع، وفي إيقاظ الضمير السِّياسي الذي أصابه التكلّس، والخواء، وأخشى ما نخشاه أنْ تفقد الكلمة قدرتها ممَّا يدفع إلى خياراتٍ صعبةٍ تتحمَّل الأنظمة الحاكمة مسؤوليتها.
ليس رغبةً لدى الشعوب أن تعتمد الخيارات الصعبة، وإنَّما هو الاضطرار حينما تفشل كلّ الوسائل الأخرى وذلك بسبب إصرار الأنظمة الحاكمة على مواقفها المتشدِّدة، نتمنَّى أنْ لا يكون شعبنا قد يأسَ مِن جدوى الكلمة، وجدوى الخياراتِ السِّلمية، وجدوى العقل والحكمة…
ورغم كلّ ما يواجه شعبنا في هذا البلد من إحباطات إلَّا أنّه لا زال مصرًّا على السِّلمية، ولا زال يتعامل مع الأزمة بكلِّ حكمة وعقلانية، وكلّ هذا بفضل توجيهات قياداتِه البصيرةِ العاقلةِ الحريصةِ كلّ الحرصِ على مصلحةِ هذا الوطن، وأمنه، واستقراره، وعلى خيره وازدهاره، وإنْ كانت هذه القيادات هدفًا لإعلامٍ مُضَلِّل، وصحافةٍ مُزوِّرةٍ، وخطابٍ مسكونٍ بطائفيةٍ بغيضةٍ، وهوسٍ مذهبي مأزوم، ليس إلَّا لأنَّ هذه الرموز الدينية والسِّياسية الواثقة من قناعاتها لم تجامل النظام، ولم تصمت على أخطائه، ولم تداهنه، بل انحازت إلى خيار الشعب في مطالبه العادلة، وفي حَراكه المشروع، لذلك كانت غرضًا لإعلام النظام، وأقاويله المملوءة بالإساءات والاتهامات والتشويهات…
فأصبح هؤلاء المخلصون الغيارى على هذا الوطن دخلاء، عملاء للخارج، أعداءً للوطن، صنَّاع فتنةٍ، ودعاةَ عنفٍ، ورعاةَ تطرّفٍ، ومذهبيين، وطائفيين، وصفويين… و… و… إلى آخر قائمة هذه التفاهات…
إذا كان لدى النظام رغبةً جادَّةً في البدء بمشوار الحلحلة لأوضاع البلد، فمن أولويات هذا المشوار أن يُصحّح خطابُ النظام، وإعلامُ السُّلطة، وأن يُوقف هذا الشحن المضادّ لرموز الطائفة، وقادتها، وعلمائها وقواها الفاعلة…
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.