نص كلمة العلاّمة الغريفي في افتتاح مؤتمر عاشوراء(7) بمأتم السنابس
بسم الله ارحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين وأفضلُ الصّلوات على سيّدِ الأنبياءِ والمُرسلين محمدٍ وعلى آلِهِ الهُداةِ المصومين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
فتحاولُ هذه الكلمةُ الافتتاحية أن تقاربَ عنوانَ المؤتمرِ “عاشوراء والإصلاح السياسي” مقاربةً عاجلةً تاركةً لأوراق مؤتمركم الموقّر المعالجات التفصيلية لموضوعٍ يملكُ من الحساسيّةِ والأهمية والخطورة درجةً كبيرةً جداً، كونه يُلامسُ مفصلاً له حضورُهُ في كُلّ حركة الماضي، وفي كُلّ حركة الحاضِر، وله تأثيراتُه في كُلّ حركةِ المستقبل، فأيّ معالجةٍ لهذا المفصلِ لا تحملُ أصالةَ رُؤية، وعُمقَ قراءةٍ، وسلامةَ أداءٍ سوفَ تنتجُ خللاً في حَراك الأمةِ وفي رسمِ أدوارِها الحاضرة والمستقبلية، وكم أربكت رؤى وقَراءاتٌ وطروحاتٌ سياسية مواقفَ الجماهير؟ وشوّشَت فهمَهم؟ وراكمت من الأخطاء؟ وأسّست لخلافاتٍ وصراعاتٍ كبيرة؟ من هنا تأتي مسؤوليةُ الكلمةِ خطيرة، لاسيما فيما هو الشأن السّياسي..
أعود لعنوان المؤتمر “عاشوراء والإصلاح السياسي” فيما تعنيه مفردة “عاشوراء” في هذا العنوان يبرز افتراضان:
الأول: أن تعني “الثورة الحسينية” نفسَها..
الثاني: أن تعني “الموسم والمراسم والشعائر”..
ووفق أحدِ هذين الافتراضين تتحدّد وُجهة المعالجات والمقاربات والمداخلات في هذا المؤتمر، وفي الوقت ذاتِه يجب أن أؤكد على وجودِ تزاوجٍ مُتجذّر بين “عاشوراء الثورة” و”عاشوراء الشعائر”، فقيمة الشعائر بمقدار ما تعبّر عن أهداف “الثورة الحسينية”…
في ضوء الافتراضِ الأولِ تواجهنا مجموعةُ تساؤلاتٍ فرضتها التفسيراتُ المتعدّدة والتي أنتجتها القراءات المختلفة لثورة عاشوراء فيما هو المنتج السياسي لهذه الثورة (الهدف المركزي). ولتحديد هذا الهدف لابد من التوفّر على ثلاثة معايير:
1- أن يتناسب الهدف مع حجم التضحية “دم الإمام الحسين(ع)”.
2- لا خيار آخر إلاّ هذه التضحية.
3- أن تكون ثورة عاشوراء قد نجحت في إنجاز هذا الهدف.
من هذه التفسيرات:
التفسير الأول: إنّ ثورةَ عاشوراء كانت تحملُ “مشروعاً سياسياً تغييرياً” يتمثّلُ في “إلغاءِ النظامِ القائم” واستبداله بـ”نظام جديد” وفق منظور الثورة الحسينية، وبتعبير آخر: أنّ هدف الإمام الحسين الأساس هو “تسلّم السلطة” وفي قبول أو رفض هذا التفسير لابدّ من:
أولاً: من تطبيق المعايير الآنفة.
ثانياً: أن تتوفّر على:
• قراءة لخطاب الثورة.
• قراءة للظروف الموضوعية المتحرّكة في عصر الثورة.
• قراءة لنتائج ومعطيات الثورة.
التفسير الثاني: هدف الثورة الحسينية هو “إنتاج روح ثورية في داخل الأمة مناهضة لأنظمة الحكم الفاسدة” فعاشوراء كانت ملهمةً للثورات التي انطلقت بعد ذلك..
وهنا كذلك نحتاج إلى:
1- تطبيق المعايير.
2- قراءة وثائق الثورة.
3- دراسة النتائج والمعطيات.
4- طرح مجموعة تساؤلات:
• كم هي صدقية وشرعية ما حدث من تعبيرات ثورية بعد عاشوراء؟
• كيف تعاطى الأئمة من أهل البيت عليهم السلام مع ثورات عصرهم؟
• هل حقّقت الثورات التي استلهمت عاشوراء أهدافها؟ أم أنّها أخفقت؟
وما أسباب هذا الإخفاق؟
• وهل أنّ مشروع الثورة العاشورائية يملك استمراراً وديمومة وامتداداً لكلّ العصور؟
التفسير الثالث: إنّ ثورة عاشوراء كانت تهدف إلى “خلق وعي سياسي أصيل” في مواجهة الوعي السّياسي المنحرف الذي تشكّل في داخل الأمة من خلال ما كرّسته أنظمة الحكم المنحرفة من مفاهيم وقيم سياسيّة زائفة عن الإسلام، ومن خلال ما مارسته هذه الانظمة من عبثٍ على كُلِّ المستويات الفكريّة والروحية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسّياسية.
• كم هي صحّة هذا التفسير وفق ما تقدّم من معايير؟
• كم هي واقعية هذا التفسير؟
• وكم هي التغييرات السياسية التي حدثت في وعي الأمة بعد ثورة عاشوراء؟
• وهل لا زالت عاشوراء قادرة أن تنتج وعياً سياسياً يواكب حركة الأجيال المتجدّدة؟
التفسير الرابع: إن الهدف المركزي لثورة عاشوراء هو “إيقاف المشروع الجاهلي” الذي خطّط له الأمويون وأرادوا من خلاله “إلغاء الإسلام” إلغاءً كاملاً، والعودةَ بالأمة إلى الواقع الجاهلي فكراً وقيماً وأخلاقاً وسلوكاً..
ويتّجه هذا التفسير إلى اعتماد مجموعة مثبتات:
1- الخطاب الأموي صريح كلّ الصراحة في هذا الاتجاه.
2- خطابُ الثورة الحسينية واضح كلّ الوضوح فيما أكّده من هدف “إنقاذ الإسلام” والذي بات مهدّداً كلَّ التهديد في ظلّ مشروعٍ أمويٍّ جاهلي أخذت معالمُهُ تتحرّك بكلّ جلاء، وانطلقت أهدافهُ بكلِّ جُرأة…
3- إنّ هدفاً في هذا الحجم هو الذي يتناسب مع تضحيةٍ وعطاءٍ في حجم “دم الإمام الحسين” و”دماء الصفوة من أهله وأصحابه” وحيث لا يمكن إنتاج هذا الهدف إلاّ بهذا الدم، وأمّا الأهداف الأخرى فرغم أهميّتها وخطورتها فإن تحقيقها يمكن أن يتم بغير هذا الحجم من التضحية والعطاء..
4- إنّ هذا الهدفَ شكّل “منتجاً كبيراً” حققته الثورة الحسينية بالفعل، وكان هدفاً لا يقبل التأجيل، وتأتي الأهداف الأخرى امتداداً لهذا الهدف المركزي وحماية له، ولا مشكلة في أن يتأخّر مفعولها، ولو قدّر للمشروع الجاهلي أن ينجح فسوف تسقط كلُّ الجهود والتضحياتِ مهما كانت كبيرة..
فالمهمة العاجلة لدى الإمام الحسين والتي لا تقبل الإرجاء هو إيقاف هذا المشروع الجاهلي، وفعلاً تحقّق هذا الهدف بفعل التضحية الحسينية..
يواجه هذه القراءة الإشكالُ التالي:
إنّ الانظمة الراعية للمشروع الجاهلي بقيت ولم تسقط، وإنّ “الإسلام المزوّر” بقي هو المهيمن، وإنّ الكثير من “القيم الفاسدة” ظلّت متجذّرةً في واقع الأمة..
يجيب أصحاب هذه القراءة بأنّ هذا صحيح، إلاّ أنّ الإسلام لم يسقط، وأنّ القرآن لم يسقط مما وفّر الفرصة لبقاء “حركة التأصيل” التي قادها “الأئمة من أهل البيت” وكُلُّ المخلصين للإسلام والقرآن، ممّا اضطر الأنظمة الحاكمة نفسها أن تدافع عن الإسلام والقرآن، وإن سعتْ جاهدةً في أن تمارسَ التحريف والتزوير، غير أنّها لم تتجرّأ أن تعلن عداءها المباشر للإسلام وللقرآن، وهكذا استطاعت ثورة عاشوراء أن تحقّق هذا الانتصار الكبير والذي بقي يتحدّى كل المشروعات الجاهلية المعادية للإسلام في كلِّ عصر وزمان..
هذه بعض قراءات لثورة عاشوراء فيما هو هدفها في الإصلاح السّياسي، ولست هنا في صدد “النقد والتقويم” لهذه القراءات، فذلك متروك للدراسات المتخصّصة..
إلى هنا الكلامُ في ضوء الافتراضِ الاول..
وأمّا في ضوء الافتراض الثاني، فالحاجة قائمة لمعالجة مجموعة عناوين، اذكر منها للمثال فقط:
(1) الإصلاح السياسي في هذا العصر من منظور عاشوراء..
وهل يعني “حركة تغيير جذري” في هيكلية الأنظمة الحاكمة أو في بُنيتها السّياسية، أو يعني “حركة ترميم للواقع السياسي”؟ وهل يتطابق مصطلحا “الإصلاح والثورة” أم يتغايران؟
هذا العنوان في حاجة إلى مقاربة دقيقة خشية أن تنزلق الرؤى، مما يدفع في اتجاهات غير محسوبة.
(2) الإصلاح السياسي وشرعية الحراك..
كيف يتوفّر الحراك السّياسي على الشرعية؟
وكيف نوظّف رؤية عاشوراء في إنتاج هذه الشرعية؟
• شرعية المنطلقات والأهداف.
• شرعية المسارات والأدوات.
• شرعيّة كلّ التفصيلات.
ربّما يتوفّر الحراك السّياسي على شرعية الأهداف والمنطلقات، إلاّ أنّه يبقى فاقداً للشرعية في الأدوات، والمسارات، وبقية التفصيلات..
الحديث عن “شرعية الحراك السّياسي” أمرٌ في غاية الأهمية والخطورة، ما دمنا نؤسّسُ لإصلاح يسترشد رؤية الدين ورؤية عاشوراء، وإلاّ تاهت المسارات، وانحرفت الغايات وارتبكت القناعات.
“التفقه في الدين”
وبالمناسبة فإنّ شعار المجلس لهذا العام هو “التفقّه في الدين” في مدلوله الخاص يُعنى بهذا البُعد، فيما يُشكّلُ هذا التفقّه من ضرورةٍ تُحصّن كلّ مساراتِ الحياة، وكلّ مواقِعِ الحراك، وبقدر ما تجسّد هذه المسارات وهذه المواقع (أحكام الشرع) تكون قد اكتسبت شرعيّتها، والخطر كلّ الخطر حينما تنفلت حراكات الحياة الفردية والاجتماعية، والروحية، والثقافية، والتربوية، والسياسية من توجهات الدين ورؤاه الفقهية..
أيها الأحبة: مطلوب أن نملك وعي هذا الشعار، وأن ننصهر معه وجدانياً، وأن ندفعهُ إعلامياً، وأن نترجمهُ عملياً. ولعلّكم تسمعون المزيد من الإضاءات حول الشعار من خلال “بيان المجلس العلمائي وإصداراته”.
(3) الإصلاح السياسي ومسؤولية القرار..
عاشوراء الإمام الحسين كانت قراراً معصوماً ..
• فكيف يمكن استحضار عاشوراء في حَراك الأمة؟
• وماهي مساحة وشكل هذا الاستحضار؟
• ومن يتحمّل مسؤولية القرار في هذا الشأن؟
أ- الفقهاء والعلماء؟
ب- النخب السياسية؟
ت- الجماهير؟
• هل هناك ضرورة لوحدة موقع القرار في الشأن السّياسي؟
• هل توجد مشكلة في تعدّد مواقع القرار؟
المسألة في حاجة إلى معالجة فقهية متخصّصة لستُ في صدد الخوض فيها.
(4) الخطاب العاشورائي ودوره في الإصلاح السّياسي ..
وينتظم ضمن هذا العنوان الحديث عن دور:
• المنبر العاشورائي..
• الشاعر والرادود العاشورائي..
• الموكب العاشورائي ..
• الشعارات العاشورائية..
• المسارح والمراسم العاشورائية..
• الفضائيات العاشورائية..
• الإصدارات العاشورائية..
• كلُّ الفعاليات العاشورائية..
• كلُّ الكلمات والخطابات والمحاضرات العاشورائية..
إشكالية:
أختم هذه الكلمة الافتتاحية بإشكالية تقول: إنّ زجّ الموسم العاشورائي في الشأن السياسي له منتجاتُه الخطيرةُ والضارّة بهذا الموسم:
أولاً: كون هذا الزج إقصاءً للموسم عن قضية عاشوراء، وعن مأساة عاشوراء، ومفردات عاشوراء، فكم في تغيّب الحدث العاشورائي التاريخي من خطر كبير على هذا الموسم الذي يجب أن يبقى متجذّراً في وعي ووجدان وحركة الأجيال..
ثانياً: كون هذا الإقحام يضع الموسم في مواجهةٍ دائمةٍ مع أنظمة الحكم السّياسية، ممّا يعرضه إلى الضغط والمصادرة.
ثالثاً: كون هذا التعاطي السّياسي ينتج صراعات وخلافات في الواقع العاشورائي بحجم ماهي الصراعاتُ والخلافاتُ في الواقع السّياسي..
ورابعاً… وخامساً …
فمن الصالح أن نجنّب هذا الموسم التدخّل في الشأن السياسي..
أتمنّى أن تكون بعضُ أوراقِ المؤتمر أو بعضُ مداخلاتِه قد قاربت هذه الإشكالية، ولست هنا في صدد الردِّ والمناقشة، وما يسعني قوله: إنّ من صميم أهداف ومسؤوليات عاشوراء التعاطي مع قضايا وهموم الأمة، وإلاّ انفصلت عن حركة الواقع، وتخلّت عن أهدافها ومسؤولياتها الكبرى.
نعم إنّ شكل التوظيف السّياسي لموسم عاشوراء يجب أن لا يبقى منفلتاً وخاضعاً لأذهان العوام، وللمزاجات، بل يجب أن تحكمه رؤية فقهية بصيرة جداً، وقراءة موضوعية كفوءة، وقرار يملك الشرعية ويملكُ درجة عالية من الحكمة والنزاهة، وهذا ما يحمي موسم عاشوراء من أيّ توظيفٍ يُصادرُ هُويّته، وينحرفُ بأهدافه، ويبتعدُ به عن مساراتِه، ويُسقِطُه في أسر الأهواء والمزاجات، ويدفع به في متاهات الخلاف والصراع…
أتمنى لهذا المؤتمر كلَّ الموفقية، آملاً أن يتجاوز مرحلة الكلام والتنظير إلى مرحلة الفعل والتطبيق فالتحدّيات الكبيرة والخطيرة لا تسمح أن نستغرق كثيراً من التنظير على حساب الفعل والممارسة…
وفّقكم الله لخدمة أهداف عاشوراء، وسدّد خطاكُم في طريق طاعتِهِ ومرضاتِه..
وآخر دعوانا أن الحمدلله ربِّ العالمين…