حديث الجمعة 301: لكي نستمر صائمين بعد شهر الصِّيام – جاء الشهر الفضيل ومعاناة الشعب مستمرة – وجاء العيدُ مصبوغًا بدم شهيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلواتِ على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة المعصومين، وبعد فمع العناوين التالية:
لكي نستمر صائمين بعد شهر الصِّيام:
من السهلِ أن نصومَ صومًا فقهيًا وهو صومٌ محدودٌ بوقتٍ وزمان…
ولكن أن نصومَ صومًا روحيًا، فهو صومٌ في حاجةٍ إلى جهدٍ أكبر، وإلى إرادةٍ أقوى، وإلى شروطٍ أشدّ.
كثيرون هم الصَّائمون وفق شروط الفقه.
وأمّا الصَّائمون روحيًا فهم القليلون.
الصَّومُ الروحيُّ ليس صومَ بطنٍ وفرجٍ عن أكلٍ وشربٍ ونساء..
وإنَّما هو:
– (صومُ نفسٍ عن شهوات).
– (وصوم جوارح عن محرّمات).
– إنَّه (صومُ عقلٍ وقلبٍ وسلوك).
إذا كنَّا كذلك فنحن في صومٍ دائم يتجاوز الزمان، ويتجاوز (محدِّدات الفقه)…
إذا استطعنا أن نستمر في انتصارنا على الشَّيطان، وعلى الهوى في داخلنا، فسوف نبقى الصَّائمين، وإن انتهى شهر الصِّيام…
والقيمةُ كلُّ القيمة لصومنا في شهرِ الصِّيام حينما ينتج هذا الصومُ تقوى، وحينما يصوغ ورعًا، وحينما يُرَّشد واقعًا..
فالصومُ صومُ المتَّقين وصومُ الطائعين، لذا كان حقًا لهم أن يفرحوا بالعيد، ولا عيد إلَّا لمن (قبل الله صيامَهُ وشَكَر قيامه) ولا فرحةَ إلَّا (لمن خافَ الوعيد) وليست الفرحةُ (لمن لبس الجديد)…
«وكلّ يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيدٌ»..
فاتَّقوا الله عبادَ الله لتكونوا في صومٍ دائم، وفي عيدٍ دائم، وفي فرحةٍ دائمة، إنَّها فرحة الروح وإنْ صُبَّت عليكم كلُّ بلاءات الدُّنيا.. واحتوشتكم كلُّ المصائب والنكبات، وامتلأت حياتكم بكلِّ المحن والشدائد..
أمَّا فرحةُ الجسدِ، ولذَّةُ الجسدِ، فإنَّها فرحةٌ أو لذَّةٌ تنهارُ أمامَ أتفهِ مُنغِّصاتِ الحياة..
وعكةٌ عابرةٌ تهزمُ قمةً من فرحٍ أو لذَّة…
وخزةٌ أو شوكةٌ تحرمُ الإنسانَ ساعاتٍ وساعاتٍ من الراحةِ والمتعة…
بعضُ بلاءٍ يُعكِّر كلَّ أنسِ الحياة…
فكيف إذا كانت دُنيا الإنسان كلّها آلامًا وأوجاعًا وعناءاتٍ وبلاءاتٍ، فهل يبقى شيئ من فرحةِ الجسدِ أو لذَّةِ الجسد…
فما أحوج الإنسانَ أن يُدرِّب نفسه على فرحة الروح، ولذَّة الروح، وهما فرحةٌ ولذةٌ لا تقوى كلّ آلامِ الجسد وكلّ أوجاع الجسد وكلُّ عناءات الجسد أن تهزمَهُما…
صحيح إنَّ للروح آهاتٍ وألامًا وعناءات، ولكنَّها حينما تكونُ مسيَّجةً بعشق الله تعالى، وبحبِّ الله، وبالشوق إلى الله، وبالانشدادِ إلى عطاء الله، وثواب الله، وجنَّة الله، فإنَّ تلك الآهات والأوجاع والعناءات تمثِّلُ ذروةَ الروحية، وقمَّة اللذةِ الروحية…
وهنا الفارق بين همومٍ تصنعُها انشداداتٌ إلى لذائذ دنيًا، ولذائذ جسد…
وهموم تصنعها انشدادات إلى لذائذ آخرة، ولذائذ روح…
النمطُ الأول من الهموم يملأ حياة الإنسان قلقًا واضطرابًا وتأزّمًا، إلَّا إذا كان مُسيَّجًا بهمِّ الآخرة…
والنمط الثاني من الهموم يملأ حياة الإنسان هدوءًا واستقرارًا وراحةً حتى لو عاش الإنسان في قلب الأزمات والشدائد والابتلاءات…
من هنا تأتي القيمة أن نكونَ الصَّائمين دائمًا، صومًا روحيًا وليس صومًا جسديًا، رغم الأهمية للصوم الجسدي بشرط أن ينتج صومًا روحيًا…
إنَّ التأكيد على استحباب الصيام في كلِّ أسبوع، وفي كلِّ شهرٍ ليس من أجل أن نجوع أو نحرم أنفسنا من بعض متعها المباحة، وإنَّما من أجل أنْ نهذِّب أرواحنا، ومن أجل أن نكرِّس التقوى في حياتنا، من أجل أنْ نكون الطائعين لله دائمًا، الملتزمين بأوامر الشرع، المتمسِّكين بقيم الدين وأخلاق القرآن، هكذا نكون الصَّائمين بلا امتناع عن أكلٍ وشربٍ ونساء، فما أكثر ما نمتنع عن هذا ولا نكون صائمين حقيقيين…
قال رسول الله صلَّى اله عليه وآله:
«ربَّ صائمٍ حظّه من صيامه الجوع والعطش، وربَّ قائمٍ حظّه من قيامه السَّهر».
وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام:
«كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلَّا الجوع والظمأ، وكم مِن قائمٍ ليس له مِن قيامه إلَّا السهر والعناء، حبَّذا نومُ الأكياسِ وإفطارهم».
وقالت الصدِّيقة فاطمة الزهراء عليها السَّلام:
«ما يصنع الصائمُ بصيامِه إذا لم يصنْ لسانَه وسَمعهُ وبصرَهُ وجوارحه؟!!».
ومن دعاء الإمام زين العابدين عليه السَّلام إذا دخل شهر رمضان:
«وَأَعِنَّا عَلَى صِيَامِهِ بِكَفِّ الْجَوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيكَ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ بِمَا يُرْضِيكَ حَتَّى لَا نُصْغِيَ بِأَسْمَاعِنَا إِلَى لَغْوٍ، وَ لَا نُسْرِعَ بِأَبْصَارِنَا إِلَى لَهْوٍ وَحَتَّى لَا نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا إِلَى مَحْظُورٍ، وَلَا نَخْطُوَ بِأَقْدَامِنَا إِلَى مَحْجُورٍ، وَحَتّى لَا تَعِيَ بُطُونُنَا إِلَّا مَا أَحْلَلْتَ، وَلَا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنَا إِلَّا بِمَا مَثَّلْتَ، وَلَا نَتَكَلَّفَ إِلَّا مَا يُدْنِي مِنْ ثَوَابِكَ، وَلَا نَتَعَاطَى إِلَّا الّذِي يَقِي مِنْ عِقَابِكَ».
فما أحوجنا أن نتمثَّل هذا الدعاءَ في كلِّ أوقاتنا، وفي كلِّ حياتنا لنعيش روحَ الصومِ، وروحَ الصَّلاة، وروحَ الدعاء، وروح العبادة…
جاء الشهر الفضيل ومعاناة الشعب مستمرة:
حلَّ الشهرُ الفضيل وتطلَّعتْ النفوسُ إلى الخلاص من المعاناة إلَّا! أنَّ معاناة الشعب اشتدَّتْ وأزماته عظمتْ، فلا أمن ولا أمان، ولا راحة ولا اطمئنان، كم تمنَّى الإنسانُ في هذا الوطن أن يعيش أيام الشهر الفضيل ولياليه في رحلة عروجٍ روحي مع العبادة والذكر والتلاوة، إلَّا أنَّ الأجواء المشحونة بالقمع والملاحقات والمداهمات، إلَّا أنَّ استمرار الاستنفار الأمني، إلَّا أنَّ المطاردات والاعتقالات، إلَّا أنَّ بقاءَ أحبَّةٍ وإخوةٍ وأبناءٍ في السُّجون والمعتقلات، كلّ ذلك عكَّر أجواء الشهر الكريم، فما كانت أيامه أيامًا كما يطمع الصَّائمون، ولا لياليه ليالٍ كما يرغب العابدون، أما كان الشهرُ العظيم مناسبةً لإنقاذ البلد من مأساةٍ طالت وطالت، ومن أزمةٍ سياسيةٍ تجذَّرت وتجذَّرت، ومن واقعٍ مشحونٍ بالقهر والألم والحرمان والمعاناة…
ليس إنصافًا أنْ يتحمَّل الشعب مسؤولية كلَّ هذا الواقع، إنَّه ظلمٌ فاحشٌ، إنَّه مجانبة للحقيقة، إنَّه تزويرٌ للمعايير، ربَّما ينفعل شارع، ربَّما يُخطئ ناشطون، ربَّما ترتبك رؤى، ربَّما تشطُّ وسائل، وربَّما … وربَّما…
إلَّا أنَّ المسؤولية كلّ المسؤولية تبقى في عنق النظام…
المشكلة سياسية، حينما تنحرف السِّياسة، حينما تظلم السِّياسة، حينما تُميِّز السِّياسة، حينما تتمذهبُ السِّياسة، حينما تبطش السِّياسة، حينما تسرق السِّياسة، حينما تُغيِّبُ السِّياسة إرادةَ الشعب، حينما تُصادر حقوق الناس، حينما يستأثر جماعة بكلِّ مفاصل الحكم، حينما يكثر العاطلون والبؤساء والمحرومون، حينما ينتشرُ الظلم والفسادُ والعبثُ بالمقدَّرات والكرامات والحريات…
والحلُّ سياسيٌّ وليس أمنيًّا…
وبيد النظام أولًا وبالذات، وليس بيد الشعب…
نعم الشعبُ قادرٌ أن يفرضَ إرادته من خلال الإصرار على المطالبة بالحقوق، ومن خلال الرفض الدائم لسياسة الظلم والقهر والبطش، ومن خلال الثبات على خطِّ الجهاد المشروع، والذي يعتمد الأدوات المشروعة…
ربَّما يطول نضالُ الشعوب، وربما تستمر معاناة الشعوب إلَّا أنَّ النصرَ في النهاية – كما هي سنَّةُ الله في الأرض – لإرادات الشعوب، إلَّا أنَّ الحكَّام لا يقرأون التاريخ ولا يستفيدون من دروس الحاضر…
أن تمرَّ مناسبةٌ عظيمةٌ كشهر الله الفضيل، مطلوبٌ أن تكون أثمنَ فرصةٍ لمراجعةِ كلِّ الحسابات وإعادة النظر في كلِّ السِّياسات، فإذا لم تستيقظ البصيرةُ في هذا الشهر، ولم يتنبَّه الضميرُ في هذا الموسم، وإذا لم تتحرَّك مشاعرُ الرحمةِ والحبِّ في هذه الأيام، ولم تنطلق إرادة العدل والإنصاف في هذا الزمن…
فمتى تستيقظ البصيرة؟ ومتى يتنبَّه الضمير؟ ومتى تتحرَّك مشاعر الرحمة والحبّ؟ ومتى تنطلق إرادة العدل والإنصاف…
ومضت أيام الشهر الفضيل ولياليه، وشعبنا يعاني ما يعاني، صابرًا، ثابتًا، مطالبًا بحقوقه، مصرًّا لا يعرف التراجع، ما دام واثقًا بمشروعية خياره، وبحقانية حراكه، وبسلميَّة وسائله، وما دام يحمل كلَّ الاطمئنان بأنَّ النهايةَ في صالحه، رغم ما يحمله هذا الطريق من ثمنٍ باهض، وتضحياتٍ كبيرة، وكم تمنَّينا أن يكون النظام قد سلك نهجًا غير النهج الذي يسلكه ليوفِّر على هذا الشعب التكلفةَ الباهضةَ والأثمانَ المرهقةَ،….
ليس رغبةً لدى شعبِنا أن يتجمهر، أن يتظاهر، أن يُحرِّك المسيرات، ليس رغبةً لدى شعبِنا أن يصرخَ، أن يهتف، أن يرفع الشعارات، ليس رغبةً لدى شعبنا أن يصرّ على البقاء في الشوارع، أن يواجه القمع، الرصاص، الغازات، كلّ الأدوات… إنَّها الحقوق المسلوبة لا تسمح له إلَّا أنْ يمارس ذلك، وإن كلَّفه الكثير الكثير، كان بإمكان النظام أن يختصر طريق المعاناة أمام هذا الشعب، أن يوفِّر عليه كلَّ هذا الجهد، حينما يُصلحُ وضع السِّياسة، وحينما يتصالح مع الشعب، وحينما يستجيب لمطالبه العادلة، وحقوقه المشروعة.
وجاء العيدُ مصبوغًا بدم شهيد:
كم كان جميلًا أن ترتفعَ في العيد زغاريدُ الفرح، لا أنْ يخيِّم الحزنُ على كلِّ مكان، لا أن تذرف الدموع…
لماذا غابت البسمةُ على كلِّ الشِّفاه؟
لماذا قتلوا العيد لدى الصِّغار والكبار؟
لماذا سرقوا البهجة من عيون الأطفال؟
وكيف يفرحُ شعبٌ يستقبل عيدهُ مصبوغًا بالدماء؟
وكيف يضحك أطفالٌ وهم يشاهدون بُرعمًا في عمر الزهور منحورًا برصاصاتٍ غادرة…
وكيف لا تتوشَّح البلد بالسوادِ في عيد الأحزان…
وهكذا جاء العيدُ مصبوغًا بدم شهيد…
مباركٌ لهذا الشعب أعراس الشَّهادة… وإنَّ شعبًا يُقدِّم على مذابح الكرامة والعزَّة والحرية شهداءَ رُضَّعًا، وأطفالًا، وفتيانًا، وشبَّانًا، وكهولاً، وشيوخًا، رجالًا، ونساءً، شعبٌ لا يموت، لا ينهزم، لا يتراجع، لا يستسلم، لا تنكسر إرادته…
وهكذا جاء العيدُ وجراحاتُ الشعبِ كبيرة، وأحزانه ثقيلة، وآلامُه موجعة، وأتعابه مرهقة، ويبدو أن مشواره في هذا الطريق لا يزال طويلًا، أنا لا أؤمن بالتشاؤم، إلَّا أنَّ مؤشِّرات الانفراج غائبة حتى اللحظة الراهنة، نعم يمكن أن تتغيَّر المعادلة بين عشيَّة وضحاها، وهذا قرار النظام، المسألة ليست عسيرة، وخارطة الطريق واضحة، إنَّه القرار الجريئ في الاعتراف بالخطأ كلّ الذي يحدث، ليس بهذا النهج تعالج الأوضاع، وليس بأساليب القمع والفتك والبطش تحسم الأمور، ويبدو أنَّه ليس هناك نية جادَّة للخروج بالبلد من مأزقه الصعب، إذا وجدت هذه النيَّة الصادقة فالمخرج واضحٌ كلّ الوضوح، ربَّما نسمع كلامًا عن حوارٍ وتفاهم، لكنَّه كلام للاستهلاك، أنا واثقٌ كلّ الثقة لو كان هذا الكلام جادًّا وحقيقيًا لاتجهت الأمور في غير اتجاه القتل والبطش، ولتحرَّكت خيارات غير خيار السجن والرصاص، ولتشكَّلت مناخات غير هذه المناخات المعبَّئة بكلِّ ما يخنق الأنفاس، والمشحونةِ بكلِّ ما يُسمِّمُ الأجواء…
الطريق إلى الحل غير هذا الطريق، والمسار إلى الحوار غير هذا المسار، وما دامت الأمور هكذا تتحرَّك فلا حلَّ ولا حوار، والمآلُ أزمات وأزمات، ومآسي تتلوها مآسي، ونكبات تتبعها نكبات والخاسرُ الوطنُ كلُّ الوطن، ولا نشك أنَّ لهذا نهاية، فمن سنن الله سبحانه في الأرض أنَّ الظلم لا يدوم، وأنَّ العدل لا بدَّ أن ينتصر مهما طال الزمن، ما دام هنا طلَّابُ حقٍّ، وطلَّابُ عدالة، وما دام هنا أوفياء لدينهم، لقيمهم، لمبادئهم، لقضاياهم العادلة، ولمطالبهم المشروعة، ما دام هنا شعبٌ صامدٌ ثابتٌ معطاءٌ من أجل أن تنتصر إرادته، من أجل أن يبقى الوطن عزيزًا، كريمًا، شامخًا، من أجل أن ينهي الظلم والفساد، من أجل أنْ يقرِّر الشعبُ مصيره من أجل المحبَّة والوحدةِ والإخاء…
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين