حديث الجمعة 275: الدعوة النبوية وأساليب المواجهة (1) – كيف يُقرأ المشهدُ السِّياسي في البحرين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة المعصومين…
نتناول بعض عناوين:
الدعوة النبوية وأساليب المواجهة:
انطلقت دعوة النبيّ الأكرم صلَّى الله عليه وآله تحمل شعار «قولوا لا إله إلَّا الله تُفلحوا»، وقد واجهت هذه الدعوة تحدِّيات صعبة، حيث مارَس أعداؤُها أساليبَ متنوِّعةً لإسقاطها وإجهاضها، ويمكن أن نوجز هذه الأساليب في أربعة أساليب رئيسة:
(1) أسلوب الحرب النفسية:
هذا الأسلوبُ يهدفُ إلى هزِّ معنويات النبيِّ صلَّى الله عليه وآله، ومعنويات أولئك النفر الذين آمنوا بدعوته…
وقد اعتمدوا في هذا السِّياق عدَّة وسائل:
1- إطلاق الافتراءات الكاذبة:
– قالوا عن الرسول صلَّى الله عليه وآله أنَّه: ساحر، وكاهن، ومجنون، وكذَّاب…
– وقالوا عن الدعوة والرسالة أنَّها: أساطير الأوَّلين، وإفكٌ قديم…
2- الاستهزاء بالدعاء والسخرية منهم..
3- استخدام شتَّى وسائل الإعلان للتهريج ضدَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وضدَّ المنتمين إلى دعوته.. إلَّا أنَّ هذا الأسلوب فشل فشلًا ذريعًا، فاستمر الرسول صلَّى الله عليه وآله يمارس دعوته بكلِّ قوةٍ وإصرارٍ وثباتٍ.. واستمرَّت عملية الانتماء لهذه الدعوة المباركة…
(2) أسلوبُ الإغراء والمساومة:
بعد أن فشلت الحرب النفسية بكلِّ أدواتها ووسائلها أتَّجه أعداء الدعوة إلى أسلوبٍ جديدٍ في المواجهة، وهو «أسلوب الإغراء والمساومة».
– قدَّموا للرسول صلَّى الله عليه وآله عروضًا كبيرة: الملك، السلطان، المال…
فكان جوابه صلَّى الله عليه وآله:
«واللهِ يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمرَ أو أُقتلُ دونه ما تركته».
هنا وجدوا أنفسهم أمام تحدٍّ صعب، وأمام رجلٍ صلب لا تنفع معه كلّ الإغراءات مهما كانت كبيرة…
فلجأوا إلى لغة المساومات..
قالوا له: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة…
فكان الجواب على لسان الوحي: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى…
﴿قُل يا أيُّها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد…– إلى آخر السورة-﴾
فباءت محاولاتهم بالفشل….
فاتَّجهوا إلى أسلوبٍ ثالث:
(3) أسلوب المحاصرة والمقاطعة:
عقد زعماؤهم اجتماعًا فقرَّروا استخدام (سلاح المقاطعة الشاملة والمحاصرة) كعقابٍ جماعي لكلِّ مَن انتسب إلى هذه الدعوة الجديدة، ولكلِّ مَن حماهم من بني هاشم وبني عبد المطلب… وكانوا يحتسبون أنَّ هذا اللون من المقاطعة والمحاصرة سوف يضعف قدرة أتباع النبي صلَّى الله عليه وآله ومناصريه، فيدفعهم ذلك إلى التخلِّي عن هذا الانتماء وإلى الانفضاض من حول رسول الله صلَّى الله عليه وآله…
إلَّا أنَّ هذا الرهان سقط أيضًا…
فلم يبق أمامهم إلَّا (خيار العنف والقوة) فالتجأوا إلى الأسلوب الرابع:
(4) أسلوب التعذيب والقتل:
فلاقى المسلمون الأوائل أقسى أنواع التعذيب والإيذاء…
• كان بنو مخزوم يخرجون بعمَّار بن ياسر وبأبيه وأمِّه، إذا حميت الظهيرة؛ يعذبونهم برمضاء مكة، فيمرّ بهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله فيقول: « صبرًا آل ياسر، موعدكم الجنّة».
أمَّا (سميَّة) أم عمَّار فقد قتلوها وهي تأبى إلَّا الإسلام.. طعنها أبو جهل، فماتت، فكانت أول شهيدة في الإسلام.
وقد روي أنَّ عمّارًا قال لرسول الله صلَّى الله عليه وآله: «لقد بلغ منَّا العذابَ كلَّ مبلغ»، فقال له النبي صلَّى الله عليه وآله: «صبرًا أبا اليقظان».
• وكان أميَّة بن خلف يخرج بلالًا إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثمَّ يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثمَّ يقول له: لا تزال هكذا حتَّى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزّى، فيقول وهو في هذا البلاء: أحدٌ أحد…
• جاء خباب بن الأرت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وقد لاقى من العذاب ما لاقى فقال: «يا رسول الله ادعُ لنا»..
فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«إنكم لتعجلون، لقد كان الرجلُ ممَّن كان قبلكم يُمشط بأمشاط الحديد، ويُشق بالمنشار، فلا يردّهُ ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر…».
هكذا كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله يملأ قلوب أصحابه عزمًا، وصمودًا، وصبرًا على الشدائد…
وكانت النتيجة أن انتصر الإسلام، وانتصرت دعوة الرسول صلَّى الله عليه وآله، وسقطت كلّ رهانات أعداء الرسالة، وأعداء الدعوة…
وهنا دروسٌ كبيرة نستخلصها من مواقف الدعوة والدعاة الأوائل…. ما هي هذه الدروس؟
نجيب عن هذا السؤال في حديثنا القادم إن شاء الله تعالى…
كيف يُقرأ المشهدُ السِّياسي في البحرين؟
هنا قراءتان: قراءة السلطة، وقراءة الحَراك المعارض، وهاتان القراءتان لا زالتا تتجاذبان المشهد السِّياسي.
أما قراءة السلطة:
فهي ترى أنَّ ما حدث، وما يحدث في الشارع يُمثِّل انفلاتًا أمنيًا، عبثًا، إساءةً لهذا الوطن، عدوانًا على ثوابت النظام والحكم، خيانةً، تآمرًا…
هذه خلاصة القراءة التي تؤمن بها السلطة…
وجاء الموقف الرسمي منسجمًا كلّ الانسجام مع هذا الفهم، وجاء الردُّ الأمني العسكري، بكلِّ شدَّته تعبيرًا عن مسؤولية الدولة في التصدِّي لهذا الانفلات، والعبث، والخيانة، والتآمر، والفوضى…
وماذا تقول القراءة الأخرى، قراءة الحَراك المُعارِض؟
ونعني بالحَراك المُعارِض، حَراك القُوى السِّياسية، وحَراك الشارع..
تقول هذه القراءة:
إنَّ ما حدث في الشارع هو تعبيرٌ عن احتجاجٍ، ورفضٍ، وصرخةٍ في مواجهة واقعٍ سياسي فاسدٍ، وفي مواجهة عبثٍ بالحقوق، وظلمٍ، وتمييزٍ، وإلغاءٍ كاملٍ لإرادة الشعب، واستئثار بالسلطة…
وترى هذه القراءةُ – الثانية -: أنَّ السلطة مارست خطأً فاحشًا حينما اعتمدت الخيار الأمني والعسكري، وواجهت حراكَ الشعب بأقسى ما لديها مِن أساليب القمع، والفتك، والبطش، والقتل، وأساليب الحصار، والفصل، والتجويع، والاعتقال…
وكان حصيلة هذا الخيار الأمني والعسكري:
• عشرات الشهداء…
• مئات الجرحى والمعلولين..
• أعداء كبيرة جدًا من السجناء والمعتقلين…
• آلاف المفصولين والمسرَّحين…
• قرى ومدن مستباحة…
• تأزّمات طائفية…
• مساجد مهدَّمة..
• شعائر دينية منتهكة…
• وطن بلا أمن ولا أمان….
وبعد عرض هاتين القراءتين؛ قراءة السلطة، وقراءة الحَراك المعارض…
نتساءل: أيّ القراءتين تملك الواقعية والصدقية؟ وكيف تعامل العالم مع هاتين القراءتين؟
يؤسفنا أنَّ أنظمة السِّياسة في العالم قد انحازت ضدَّ خيار هذا الشعب باستثناء بعض المنظَّمات الإنسانية والحقوقية التي أنصفت هذا الشعب وأدانت ممارسات السلطة، فالولايات المتحدة الأمريكية تعاملت بانحيازٍ كبير إلى رؤية النظام، فرغم ما تزعمه أمريكا مِن حرصها على الدفاع عن حقوق الشعوب، إلَّا أنَّ مواقفها المساندة لأنظمة الاستبداد في العالم وعلى رأسها الكيان الصهيوني تبرهن على زيف الدعاوى في الدفاع عن الشعوب… ربَّما صدرت تصريحات من بعض المسؤولين الكبار في أمريكا ندّدت بالانتهاكات لحقوق الإنسان في البحرين، إلَّا أنَّ هذا للاستهلاك الإعلامي، والموقف الحقيقي هو الدعم والمساندة لسياسة النظام…
وهذا هو موقف بريطانيا، ودول غربية أخرى كثيرة…
فلم تمارس هذا الدول أيَّ موقف مُنصفٍ لشعب البحرين، بل لم تنصف أيّ شعبٍ من الشعوب… وحتى حينما وقفت هذه الدول ضدَّ أنظمة الحكم في تونس، ومصر، وليبيا، فليس انحيازًا إلى خيار الشعوب، وإنَّما لأنَّها كانت تعلم أنَّ رهانها على تلك الأنظمة كان رهانًا خاسرًا فاضطرت إلى أن تقف مع الشعوب، بعد أن تبيَّن لها أنَّها شعوب منتصرة…
وأمَّا الموقف مِن حَراك الشعب في البحرين، فالحسابات لدى أمريكا وبريطانيا وتلك الدول تختلف تمامًا، وهكذا تتعدَّد المعايير..
ولن ندخل في الحديث عن مواقف الأنظمة العربية، والمنظمات العربية، ولا عن موقف السِّياسيين، والمفكِّرين والمثقَّفين، ورجال الدين… فالموقف كان ولا يزال منحازًا ضدَّ خيار الشعب في البحرين…
فشعب البحرين استثناء مِن الشعوب التي تطالب بحقوقها المشروعة، فكان التعامل معه تعاملًا استثنائيًا…
لماذا كلّ الشعوب التي تحرَّكت كان حَراكها مشروعًا، ومحقًّا، وصائبًا، ووطنيًا، إلَّا هذا الشعب فحراكه غير مشروع، وغير محقّ، وغير صائب، وغير وطني، بل هو حراك طائفي مرفوض..؟!!
هكذا تعاملوا مع ثورات وحراكات الربيع العربي بكلِّ إيجابية ولمَّا وصلت النوبة إلى حَراك هذا الشعب كان الموقف مغايرً، وكان الخطاب مختلفًا…
يا عالمُ، يا عربُ، يا رجالَ السياسة، يا علماء الدين…
إنَّ صرخاتِ هذا الشعب، هي صرخاتُ شعب يطالب بحقوقه، والذين يتَّهمون هذه الصرخات بالطائفية هم كَذَبةٌ مفترون…
هل المطالبة بالشراكة السِّياسية مطالبة طائفية؟
هل المطالبة بالنظام العادل مطالبة طائفية؟
هل المطالبة بدستورٍ توافقي مطالبة طائفية؟
هل المطالبة بالدوائر الانتخابية المنصفة مطالبة طائفية؟
هل المطالبة ببرلمان حقيقي مطالبة طائفية؟
هل المطالبة بحكومة منتخبة تمثِّل إرادة الشعب مطالبة طائفية؟
هل المطالبة بإيقاف التمييز، وكلّ ألوان الفساد مطالبة طائفية؟
هل المطالبة بإعادة بناء المساجد المهدَّمة مطالبة طائفية؟
هل المطالبة بإطلاق السجناء والمعتقلين مطالبة طائفية؟
هل المطالبة بإرجاع المفصولين جورًا وتعسفًا مطالبة طائفية؟
هل المطالبة بمحاكمة الذين عذَّبوا، وهتكوا الحرمات، وسفكوا الدماء مطالبة طائفية؟
إذا كان هذا طائفية، فكلّ شعوب العالم التي تطالب بحقوقها هي شعوب طائفية…
إنّ الإصرار على اتهام الحَراك في البحرين بالطائفية، كما أنّ التهويل بإبراز التداعيات الطائفية للأحداث، كلّ ذلك محاولة لإخفاء المشكل الأساس وهو وجود أزمة سياسيَّة خطيرة في هذا البلد…
وإنَّنا في الوقت الذي نبارك كلّ الخطوات الصادقة لتحصين اللحمة الوطنية، وحماية البلد من أيّ منحى طائفي مدمِّر، ونحذِّر من لعبة التستّر على المأزق السِّياسي، وإيهام العالم بأنَّ مشكلتنا في هذا الوطن هي (الصراع الطائفي)، وليس (المأزق السِّياسي)، ومن الصحيح القول أنَّ ما حدث مِن بعض التداعيات الطائفية ما هو إلَّا من نتاج (المشكل السِّياسي) ومتى ما تمَّت معالجة هذا المشكل معالجةً جادَّة وحقيقية فلن يبقى لتلك التداعيات الطائفية أيّ أثر…
وأمَّا إذا بقي المشكل السِّياسي فسوف تستمر عملية التوظيف الطائفي بهدف إلهاء الشارع بعيدًا عن اهتماماته الحقيقية في المطالبة بإصلاح الوضع السِّياسي… فالحذر كلّ الحذر من محاولات الإلهاء الطائفي، ممَّا يُعطي الفرصة لتمرير اللعب السِّياسية المصمَّمة ضدَّ مصالح هذا الشعب…
ولا نشك أنَّ هناك ممارساتٍ واستهدافاتٍ طائفيةً تقوم بها أجهزة السلطة، والشواهد على ذلك كبيرة وصارخة، وهذا التمييز الطائفي الرسمي، وهذا الاستهداف الطائفي الرسمي هو أهم أسباب التأزيم الطائفي، ممَّا يعني أنَّ الطائفية هي من إنتاج الواقع السِّياسي الفاسد، يضاف إلى ذلك خطابٌ مسكونٌ بهوسٍ طائفيٍ بغيض يغذِّي هذا التأزيم، هذا الخطاب يتحرَّك في مواقع إعلام، ومِن خلال منابر دين…
ما دام هناك إصرار على سياسة القمع، وما دام هناك استمرار لخطاب الكراهية والتحريض والانتقام، فمشهد التأزيم سوف يستمر، ولن يتوقف هذا التأزيم حتى تتوقف تلك السِّياسة، ويتوقف ذلك الخطاب، وتتحرَّك النوايا الجادَّة لإنقاذ هذا الوطن من مأزقه الصعب بإطلاق مشروع الإصلاح الحقيقي في الاستجابة لمطالب الشعب العادلة، ولن يتم ذلك إلَّا من خلال الحوار الحقيقي الجادّ، وليس مِن خلال الترقيعات الشكلية البائسة…