الكلمة التأبينية لسماحة العلاّمة الغريفي ليلة الحادي عشر من المحرم 1433هـ بمأتم النعيم الغربي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيّد الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهُداة الميامين…
شعارنا (يا حُسَين)..
كلُّ نَبْضَةٍ في قُلوبِنا تَصْرَخُ (يا حُسَين)
كلُّ آهةٍ في ضمائِرنا تَصْرَخُ (يا حُسَين)
كلُّ دَمْعةٍ في عُيونِنا تَصْرَخُ (يا حُسَين)
كلُّ قطْرةِ دَمٍ في عروقِنا تَصْرَخُ (يا حُسَين)
كلُّ آلامِنا، كلُّ أوجاعِنا، كلُّ عذاباتِنا تَصْرَخُ (يا حُسَين)
كلُّ جهادِنا، كلُّ صمودنِا، كلُّ شُموخِنا كلُّ عنفوانِنا يَصرَخ (يا حُسَين)
كلُّ منابِرنا، كلُّ مواكِبنا، كلُّ شوارِعنا، كلُّ بيوتِنا، كلُّ مُدنِنا، كلُّ قُرانا تَصْرَخُ (يا حُسَين، يا حُسَين، يا حُسَين)
كلُّ شيخٍ فينا، كلُّ رجلٍ، كلُّ امرأةٍ، كلُّنا نصرخ (يا حُسَين)
كُلَّما عذَّبونا صَرَخَنا (يا حُسَين)
كُلَّما جَلَدُونا صَرَخَنا (يا حُسَين)
كُلَّما سَجَنونا صَرَخَنا (يا حُسَين)
كُلَّما قتلونا صَرَخَنا (يا حُسَين)
كُلَّما جَوَّعُونا صَرَخَنا (يا حُسَين)
كُلَّما حاربُوا شَعائِرَنا صَرَخَنا (يا حُسَين)
(يا حُسَين) تاريخُنا، حاضِرُنا، مستقبَلُنَا، كرامتُنا، شرفُنا، عزَّتُنَا، حياتُنا، مماتُنا، كلُّ وجودِنا…
فهل يَقوى كلُّ طواغيتُ الأرضِ أن يُسكِتُوا فينا صرخاتِ (يا حُسَين)؟
لو قَطَّعُوا أرْجُلَنَا واليَدَين نأتيك زَحْفًا سَيِّدي يا حُسَين
قولوها بكلِّ شُموخٍ وعُنْفوانٍ:
(يا حُسَين، يا حُسَين، يا حُسَين)
*********************
(يا حُسَين) عنوانُ الصُّمودِ والتحدِّي والشَّمم والإباء…
(يا حُسَين) ترعبُ كلَّ الطواغيتِ والفراعنةِ وسُرّاقِ الشعوب…
(يا حُسَين) بلسمٌ لكلِّ الجراحاتِ والعذاباتِ والعناءات…
يجب أن يبقى عنوانُ (الحُسين) شعارًا لكلِّ مراسيم عاشوراء..
– شعارًا لمنبر عاشوراء..
– شعارًا لخطاب عاشوراء..
– شعارًا لردَّات عاشوراء..
– شعارًا لهتافاتِ عاشوراء..
– شعارًا لموكبِ عاشوراء..
لا يجوز إطلاقًا أن يُستبدل (شعار الحُسَين) بأيِّ شعارٍ آخر…
رُبَّما يكون للشعوب حَراكُها السِّياسي المشروع، ومطالبُها السِّياسية المشروعة، وشعاراتُها السِّياسية المشروعة، كما هو الحال بالنسبة لشعبنا في الظرفِ الراهنِ، إلَّا أنَّ هذا لا يُبرِّرُ إطلاقًا أن تستنسِخ عاشوراءُ الحسين هذا الحراك السِّياسي ليتحوَّل الموكبُ العاشورائي مجرَّدَ مسيرةٍ سياسيةٍ ويتحوَّل المجلسُ العاشورائي مجرَّد اجتماعٍ سياسي، ويتحوَّل الخطاب العاشورائي مجرَّد حديثٍ سياسي، ربَّما يُقال:
هل يعني هذا أن تكون عاشوراءُ الحُسَينِ غائبةً عن قضايا السَّاحة السِّياسية؟
أليست عاشوراءُ الحُسَينِ ملهمةَ الشعوب؟
أليست عاشوراءُ الحُسَينِ مدرسةَ الثُوَّار؟
أليست عاشوراءُ الحُسَينِ ملاذَ المستضعفين والمحرومين والمظلومين في مواجهة الطُغاةِ المستكبرين؟
فلماذا نعطِّلُ هذا الغضبَ العاشورائي؟
ولماذا نعطِّلُ هذا الشمَم الحُسَيني؟
ولماذا نعطِّلُ هذا الزخم الثوري؟
أنا لا أدعو إلى تعطيل الغضب العاشورائي، والشمم الحُسيني، والزخم الثوري…
وأنا لا أدعو لأن تكون عاشوراءُ الحسين غائبة عن قضايا السَّاحة؟
لا يجوز ذلك إطلاقًا، من أهدافِ عاشوراء الحُسَين أن تكون الحاضرةَ في كلِّ عصرٍ وفي كلِّ مكان، تلاحق الظلمَ والظالمين، والفسادَ والمفسدين، تُلهم الأحرارَ والمجاهدين…
إلَّا أنَّ عاشوراءَ الحُسين يجب أن تمارسَ هذا الحضورَ مِن خلال (نهجِ عاشوراء) ومِن خلال (خطاب عاشوراء) ومن خلال (شعارِ عاشوراء) وإلَّا فقدت عاشوراءُ هُويَّتَها وصبغَتها، وزخمَها، وحضورَها إذا كان للخطاب السِّياسي والشعارِ السِّياسي مساحتُه الزمانيةُ والمكانيةُ المحدودةُ، فإنَّ خطابَ عاشوراء، وشعارَ عاشوراء يتجاوز الزمان والمكان…
وإذا كان الحَراك السِّياسي يواجه حاكمًا هنا أو حاكمًا هناك، فإنَّ الموقف الحُسيني يواجهه كلَّ طواغيت الأرض في كلِّ عصر وزمان…
ثمَّ أقولُ وبكلِّ تحدِّي:
اعطوني شعارًا سياسيًا يملكُ من القدرة على إنتاج الصمود والتحدِّي ما تملكه كلمةُ الحُسين: «هيهات منَّا الذلة»، وكلمة الحُسين: «والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد».
اعطوني شعارًا سياسيًا يملكُ مِن القدرة على إنتاج الشموخ والعنفوانِ والإباء ما تملكه كلمةُ الحُسين: «إنّي لا أرى الموت إلَّا سعادة والحياة مع الظالمين إلَّا بَرَمًا».
اعطوني شعارًا سياسيًا يملكُ مِن القُدرةِ على إنتاج الموقفَ والثباتَ والمبدئيةَ ما تملكُه كلمةُ العباسِ بن عليّ: «واللهِ إن قطعتموا يميني، إنِّي أحامي أبدًا عن ديني، وعن إمامٍ صادق اليقينِ».
اعطوني شعارًا سياسيًا يملكُ مِن القُدرة على إنتاج الإرادة التي تتحدَّى الموتَ في سبيل المبادئ المحقَّة ما تملكه كلمة عليّ بن الحسين الأكبر: «لا نبالي أن نموت محقِّين، ولا نبالي وقع الموت علينا أو وقعنا على الموت».
اعطوني شعارًا سياسيًا يمتلكُ من القُدرة على إنتاج العُشقِ للشهادة ما تملكه كلمة القاسم بن الحسن الفتى الذي لم يبلغ الحلم حينما سأله عمّه الحُسين: «بُني كيف تجد الموت».
فأجاب: «فيك يا عم أحلى من العسل».
اعطوني شعارًا سياسيًا يمتلكُ القدرة على أنْ يُعبِّأَ الجماهير ثوريًا وجهاديًا كما تملكُهُ صَرْخَاتُ (لبيَّك يا حُسَين).
اعطوني شعارًا يملأنا بالاستنفار، ويستصرخ ضمائرنا وهممنا كما هي كلمة الحسين: «هل من ناصرٍ ينصرنا».
لماذا نستجدي شعاراتٍ مِن هنا وهناك وعندنا شعارات عاشوراء؟
تصوَّروا كم يُمارس أعداءُ هذا الخطِ مِن إعلامٍ مُضادٍّ، ومِن شحنٍ مضادٍّ، ومن تزويرٍ مُضادٍ، مِن أجل أن يَسرقُوا أجيال هذا الانتماءِ، فتأتي عاشوراء فتسقط كلَّ ما صنعوا ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾. (طه/ 69)
وهل الحُسين إلَّا وارث موسى، وإذا كانت عصا موسى قد ابتلعت ما صنع سحرةُ فِرعونَ مِن كيدٍ وخُداعٍ، فإنَّ ثورة الحُسين ابتلعت وسوف تبتلع كلَّ ما يصنعُه الفراعنةُ والطواغيتُ من أوهامٍ وأضاليلٍ وعبثٍ بمقدَّراتِ الشعوب، وإذا كان موسى قد واجه فرعونًا واحدًا فالحسين بثورته أراد أن يواجه كلَّ الفراعنة في كلِّ الأعصر والأزمان…
وإذا كان في يمين موسى عصا فما في يمينِ الحُسَين، كتابُ الله المُنزل، وما في يمين الحسين ميراثُ جدِّه المصطفى، وما في يمين الحُسَين دَمُهُ الذين قدَّمَهُ يومَ عاشوراء…
وإذا كان سحَرةُ فرعونَ قد خرّوا سُجدًا وقالوا: ﴿آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾. (طه/ 70)
حينما رأوا ما رأوا لمَّا ألقى موسى العصا، فسوف يخِرّ كلُّ أحرار العالم سُجَّدًا إيمانًا بثورة كربلاء، وشموخ عاشوراء، وبمبادئ السِّبط الحُسين وارثِ الأنبياء…
نؤكِّد ونؤكِّد:
إنَّنا إذا أردنا أن نصنع صمودًا وعُنفوانًا وشموخًا فحسبنا عاشوراءُ الحسين…
وإذا أردنا أن نحرِّك إرادةَ التحدِّي والثورة ضدَّ كلَّ صنَّاع الظلم والفسادِ في الأرض فحسبنا عاشوراءُ الحُسَين…
وإذا أردنا أن ننتج (عُشَق الشهادةِ والموتِ في سبيل المبادئ والقيم) فحسبنا عاشوراءُ الحُسَين…
وإذا أردنا أن نواجه كلَّ المآسي والمحن والنكباتِ فحسبنا عاشوراءُ الحُسَين…
لذا كان إصرارنا أن تبقى عاشوراءُ الحُسين…
أن تبقى مجالسُ الحُسَين، أن تبقى مواكبُ الحُسَين، أن تبقى كلَّ شعائر الحُسَين…
– أن تبقى في عقول أجيالنا..
– أن تبقى في وُجدان أجيالنا..
– أن تبقى في حركة أجيالنا..
• إنّها الأمانة العظمى التي يجب أن تتحمَّلها أجيالنا العاشقة للحُسَين أن تستمر شعائر عاشوراء، وإن كلَّفها ذلك أثمانًا باهضة، وإن كلَّفها ذلك أرواحًا ودماء…
• مسؤوليةُ هذه الأجيالِ العاشِقة للحُسَين أن تحافظ على أصالة شعائر عاشوراء، وأن تُحصِّنها في مواجهة أيَّ دخيل لا يعبِّر عن هذه الأصالة، أن تحافظ على أهداف عاشوراء، إنّ عاشوراء الحُسَين وحدة، محبة، تقارب، فاسقطوا أيّ مشروع يحاول أن يجر عاشوراء إلى معترك طائفي، وإلى صراع مذهبي، وإلى صراع يبعد شعبنا عن أهدافه الكبرى.. هناك أنظمة، هناك قوى ظلاميَّة تحاول أن تسقط عاشوراء، فكونوا لها بالمرصاد، بلا مهاندة، ولا مساومة…
• مسؤولية هذه الأجيال العاشقة للحُسَين أن تجدِّد وإن تطوِّر في أداء عاشوراء، وفي خطاب عاشوراء، وفي مراسم عاشوراء…
الحسين الدَّمعة…
وتبقى الدَّمعةُ في عيونِ عُشَّاقِ الحُسَين، كلَّما ردَّدُوا (يا حُسَين يا حُسَين)..
إنّها نَجْوى عُشقِ عاشوراء…
– يا حُسين أيُّها المعشوقُ العظيم: حدِّث شيعتَك وعُشاقك عمَّا صنع القوم اللئامُ في يوم عاشوراء..
يجيب الحُسَين بلسان الحال والواقع لا بلسان النص:
• شيعتي وعُشَّاقي: لقد ازدحمْت الجيوشُ لحربي، لقتلي، لسفك دمي، لحرقِ خيامي، لأسرِ نسائي، لسبي أطفالي…
– يا حُسَين أيُّها المعشوقُ العظيم: وهل ذكَّرتهم أنَّك ابنُ الزهراءِ، فلعلَّهم لا يعرفُون من أنت؟
• شيعتي وأحبائي: وقفت أمامهم ممتطيًا فرسَ رسول الله، متقلدًا سيف رسول الله، لابسًا عمامة رسول الله، قلت لهم: انسبوني مَنْ أنا؟
قالوا: أنت الحُسَينُ سبطُ رسول الله.
قلتُ لهم: هل تعلمون أنّ أمي فاطمة بنت محمد؟
قالوا: اللَّهمَّ نعم.
قلتُ لهم: هل تعلمون أنَّ أبي عليُّ بن أبي طالب؟
قالوا: اللَّهمَّ نعم.
قلتُ لهم: هل تعلمون أنَّ هذا سيف رسول الله أنا متقلده؟
قالوا: اللَّهمَّ نعم.
قلتُ لهم: هل تعلمون أنَّ هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟
قالوا: اللَّهمَّ نعم.
قلتُ لهم: فبم تَسْتَحِلُّونَ دمي؟
قالوا: قد علمنا ذلك كلّه، ونحن غير تاركيك حتّى تذوقَ الموتَ عطشًا.
– يا حُسَين أيُّها المعشوق العظيم: وماذا صنعت مع هؤلاء القوم الذين استحوذ الشيطانُ على قلوبهم فأبوا إلَّا الضلال…
• شيعتي وأحبّائي:
قدَّمتُ أولَ قُربانٍ من أهل بيتي على أرضِ الشهادة…
ولدي عليّ الأكبر، شاب تترسَّم فيه صورة جدِّي رسول الله [صلَّى الله عليه وآله]
جاءني يستأذنُ للنزال والقتال..
احتضنتُه، ضممتُه إلى صدري، قبَّلتُه، اعتنقتُه طويلًا، أذنت له، لاحَقَته نظراتي الممزوجةُ بالدموع والدعوات، مشى صوبَ المعركة وهو يحمل هيبة جدِّه المصطفى، وعنفوان عليِّ المرتضى…
وصال وجال…
وفي لحظةٍ مشؤومة…
جاءته طعنةٌ غادرة.. واستقر سهمٌ طائشٌ في حلقه.. وهوى سيفٌ فلق هامته.. اعتنق الفرسَ، حمله إلى معسكر الأعداء.. تشابكت السيوفُ والسهامُ والرماحُ على جسدِ ولدي عليّ الأكبر، فما أبقت موضعًا إلَّا مزَّقتُه، تسربل جسده بالجراحاتِ، وهوى إلى الأرضِ مناديًا: «أبتاه عليك منِّي السَّلام».
– يا حُسَين أيُّها المعشوق العظيم: إنِّها مأساة وأيّ مأساة، وماذا بعد؟
• شيعتي وأحبَّائي:
وما ملأ قلبي أسى وألمًا وحسرةً، وفجَّر في عينيَّ الدموع، حينما وقف أمامي غلام في عمر الزهور، إنَّه القاسم ابن أخي الحسن…
– عمَّاه أنا مشتاق إلى الشهادة..
حدَّقتُ في عينيه، وتمليتُ في قسماته، استحضرت صورة أخي السبط الحسن…
ضممتُ الغلام إلى صدري، قبَّلته، اعتنقته طويلًا، أذنت له أن يمضي إلى الموت..
مشى القاسم راجلًا إلى ميدان القتال… وفي رجليه نعلان، وعليه قميص وإزار، وبيده سيف..
وقاتل مقاتلة الشجعان، وشاء القدر أن ينقطع شِسعُ نعله، انحنى يصلح نعله غير مبالٍ بالسيوف والسهام…
تقدّم إليه لئيمٌ غاشمٌ، ورفع سيفه، وهوى به على رأسِ الغلام…
سقط القاسم على الأرض مناديًا: «عمّاه أدركني»..
– يا حُسَين أيُّها المعشوق العظيم: لا نريد أن نجرح قلبك ونحن نطلب أن تحدِّثنا عن أخيك العباس..
• شيعتي وأحبَّائي:
كانت لحضة قاسية على قلبي حينما جاءني أخي العباس مستأذنًا للقتال…
نظرتُ إليه في صمتٍ ازدحمت فيه الخواطر، وامتلأت عيناي بالدموع.. وهاجت في داخلي الآهات…
وبكلماتٍ حزينة قلت له: «أخي أبا الفضِل اطلب لهؤلاء الأطفالِ قليلًا مِن الماء»..
يمَّم العباس صوب الفرات، وبعد قتالٍ امتلك شبلُ عليّ المشرعةَ، ملأ القربة، وعاد وهمُّهُ الخيامَ والأطفال العطاشى…
قطع القومُ عليه الطريق وحالوا بينه وبين الخيامَ..
اشتدَّ غضب العباس، فصال وجال، وجندل الأبطال مصمِّمًا أن يصل بالماء الخيام…
إلَّا أنَّ السهامَ الطائشة أصابت القربة فأريق ماؤها..
وقف مهمومًا…
وصمَّم على الموتِ والشهادة..
وبينما هو يقاتل كمن له غادرٌ فاجر، رفع السيف فقطع منه اليمين، وكمن له غادرٌ آخر فقطع منه الشِّمال، وهكذا بقي أخي العباس مقطوع اليدين، واستمرت السِّهام كالمطر، فجاءه سهمٌ استقرَّ في عينه اليمنى، وجاءه سهمٌ آخر مزَّق صدره…
وفي لحظةٍ مشؤومةٍ جاء غادرٌ فاجرٌ وهوى بعموده الحاقد، وفلق هامةَ العباس…
انقلب عن ظهر فرسه، وسقط على الأرض مثقلًا بالجراحات ونزف الدماء مناديًا: «أخي أبا عبد الله عليك منِّي السَّلام»..
– يا حُسَين أيّها المعشوق العظيم: وماذا عن طفلك الرضيع، تقول الأخبار أنَّهم ذبحوه يوم عاشوراء؟
• شيعتي وأحبّائي:
آهٍ آه، ما أصعب أن أحدِّثكم عن طفلي الرضيع… حينما اشتدَّ الحصار على خيامي ومنع الماء…
جاءتني أختي زينب تحمل طفلًا رضيعًا، تفتت كبده من الظَّمأ، غارت عيناه مِن العطش، جفَّ لسانه، ارتعدت فرائصه..
– أخي حُسَين: اطلب لهذا الطفل قليلًا من الماء…
امتدت يداي، احتضنتُ الطفلَ الرضيعَ، ضممتهُ إلى صدري، نظرت إليه، طبعت على وجنتيه بعض قبلات، ودمعت عيناي…
حملتُ خطواتي نحو القوم، خاطبهم: «إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل الرضيع»..
وجاء الجواب من حرملة بن كاهل…
صوَّب سهمًا حاقدًا، فذبح الطفلَ الرضيع من الوريد إلى الوريد… وهو بين يَدَيَّ، ومن شدَّة حرارة السهم، تمطَّى الطفل وقطع القماط واعتنق رقبته…
تلقيتُ الدمَ بكفي، رميتُ به نحو السَّماء، ولم تسقط من ذلك الدم قطرةٌ إلى الأرض…
– يا حُسَين أيُّها المعشوق العظيم: كم هي مأساة عاشوراء فاجعة…
• شيعتي وعشَّاقي:
وأمَّا الفاجعةُ الفاجعةُ فقصَّةُ مصرعي..
فبعد أن مضى أصحابي صرعى فوق ثرى كربلاء…
ومضى أهل بيتي قرابين…
وبقيت وحيدًا فريدًا…
وبقيت خيامي خالية إلَّا من عليلٍ أثقلته الآلام…
ومِن نساءٍ والهاتٍ نادبات…
ومِن صبية وصبايا صارخات باكيات..
وعندما صمَّمتُ على الموت…
وعندها كانت لحظة الوداع…
فتنادبن مخدَّراتُ الرسالة وعيالاتُ النبوة ينادينَ الوداع الوداع.
وكانت كلماتي الأخيرة: «عليكنَّ منِّي السَّلام»..
تقدَّمتُ إلى ميدان القتال، متوكلًا على الله، وقد ازدحمت أمامي جيوش الضَّلال، ومصمِّمةً على سفك دمي…
شيعتي:
لا زلت أستذكر مشهد الفاجعة حينما افترقوا على ابن والدي..
افترقوا على إمامكم أربع فرق: فِرقةٌ بالسيوف، وفِرقةٌ بالرماح، وفِرقةٌ بالسِّهام، وفِرقةٌ بالحجارة..
وأنا وحيدٌ فريد، أُكثر من قول: «لا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم»..
وقد أثقلتني الجراحاتِ، وأرهقني نزف الدِّماء…
فبينما أنا أقاتل جاءني حجرٌ أصاب جبهتي، فازداد نزف الدماء…
رفعت ثوبي أمسحُ الدَّم عن وجهي وعن عيني..
شيعتي شيعتي… ويا لهول ما حدث:
«وإذا بالسَّهم المثلَّث المسموم يخترق قلبَ إمامكم»…
حاولت أن أنزع السَّهمَ فما تمكنت إلَّا أن أخرجه من قفاي.. انبعث الدم غزيرًا غزيرًا..
رفعت طرفي نحو السَّماء وأنا أقول: «هوَّنَ ما نزل بي أنَّه بعين الله»..
أعياني نزفُ الدِّماءِ، واشتدَّ بي الحال..
جلستُ على الأرضِ أنوء برقبتي، فانتهى إليَّ فاجرٌ غادرٌ شتمني، ثمَّ ضربني بالسَّيف على رأسي..
افترشتُ الترابَ، وتزاحمت عليَّ الضرباتُ والطعناتُ فما تركت موضعًا في جسدي إلَّا أصابته…
• شيعتي لا روّعَ الله قلوبكم… وحدث الأمر العظيم الذي اهتز له الكون، وماجت له الأرض، وتغيَّرت العوالم، وأظلمت الدنيا، وهبَّت ريحٌ صفراء..
«فما حَسستُ إلَّا والشمرُ اللعين جاثمٌ على صدري، قابضٌ على شيبتي، وضربني بالسَّيف اثنتي عشرةَ ضربةً، واحتز رأسي…»…
وامتدَّت الأيدي الآثمة سلبوا الجسدَ الطريح، سلبوا السَّيف والنعل، والقطيفة، والعمامة..
وجاء بجدل اللعين فرأى الخاتم في إصبع إمامكم الحُسَين، والدماء عليه، فقطع الإصبع وأخذ الخاتم…
وهجم القوم اللئام على خيام النبوة..
أضرموا النار في أخبية الرسالة..
ونادى السجاد العليل: عليكنَّ بالفرار يا بنات رسول الله..
فررن النساء والأطفال..
وامتدت الأيدي الحاقدة، تنهب، وتسلب، وتضرب..
– وزينب ابنةُ عليٍّ ترقب المشهد في ذهولٍ وحيرة ولا زالت صور الفاجعة حاضرة أمام ناظرها..
أخوها الحسين جسدٌ مبضَّع بالسيوف..
صدره هشمته الخيول..
رضيعه مذبوحٌ مِن الوريد إلى الوريد..
أخوه العباس عند النهر مقطوع اليدين..
ابنه عليّ الأكبر مزَّقت جسده السيوف..
ابن أخيه القاسم مثخنٌ بالجراحات والطعنات..
أصحابه صرعى على ثرى كربلاء..
أيتامٌ تتلوَّى على رؤوسهم السياط..
خيام تلتهمها النيران..
عليلٌ مثقل بالآلام..
نساءٌ صارخاتٌ باكياتٌ نادباتٌ..
وفي زحمة هذه المشاهد الفاجعة، والخواطر الحزينة، شدَّ زينبَ الشوقُ إلى جسد أخيها، فانحدرت في الليل، تتخطَّى أشلاء القتلى، حتى جلست عند الجسد المقدَّس، وقد تسربل بالدماء، وازدحمت عليه الرماحُ والأسنَّةُ والسهام والحجارة..
ألقت على الجسد الطاهر نظرات مفجوعة..
وأرسلت عبرات ساخنة..
وأطلقت آهاتٍ كئيبة..
ومدَّت يدها إلى الجسد المقدَّس..
وشدَّت طرفها نحو السماء قائلة:
«اللَّهمَّ تقبَّل منَّا هذا القربان»…