حديث الجمعة 259: بعد كلّ موسمٍ عبادي – لا زال المشهد السّياسي مأزومًا – وكلمة أخيرة حول الإفراج عن الكوادر الطبية
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلوات على سيّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين…
أتناول في حديث اليوم أكثر من عنوان:
بعد كلّ موسمٍ عبادي:
هناك مواسم روحية ينشط منها الإقبال على العبادة، كموسم شهر رمضان، وموسم الحج، وموسم الزيارة، وموسم العمرة..
والسبب واضح كون هذه المواسم تحمل قيمةً روحيةً كبيرة جدًا، وكون الثواب العبادي فيها يتضاعف بدراجات عالية، حسب ما أكدّت النصوص الدينية…
وللتذكير هذه بعضُ مقاطع تتحدّث عن ثواب العبادة في شهر رمضان حسب ما ورد في خطبة النبي صلّى الله عليه وآله:
• ((ومَنْ تطوّع فيه بصلاةٍ كتب الله له براءة من النّار))
• ((ومَنْ أدّى فيه فرضًا كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور))
• ((ومَنْ أكثر فيه مِن الصلاة عليَّ ثقَّلَ الله ميزانَه يوم تخفّ الموازين))
• ((ومَنْ تلا فيه أيةً مِن القرآن كان له مثل أجر مَنْ ختم القرآن في غيره مِن الشهور))
هذا النمط من النصوص، لا شك تبعث في النفس إقبالًا على العبادة وتخلق حراكًا روحيًا متأججًا، طمعًا في عطاءات الله وفيوضاته الكبيرة…
وما أن ينتهي الموسم الروحي، حتى تنتهي معه درجات الإقبال العبادي المتصاعدة، ربّما يكون مِن الطبيعي لدى الغالب مِن النّاس أن ينخفض الوهج العبادي عندهم بعد المواسم الروحية، ولكنّ الأمر الخطير حينما يصابُ هؤلاءِ بكسل عبادي، والأخطر من ذلك حينما يصل بهم الأمر إلى درجة ((الإدبار العبادي)) فَمنْ أدبر عن الله تعالى أدبر عنه، ومَنْ أعرضَ أعرض الله تعالى عنه.
وهكذا يمكن أن يُصَّنفَ النّاسُ في علاقتهم بالعبادة بعد المواسم الروحية إلى عدة أصناف:
فصنف يَتزوّدن من المواسم بطاقةٍ روحيةٍ كبيرةٍ فيستمر لديهم ((الإقبال العبادي)) بدرجة عالية، وهذا الصنف يحتضن عدة مستويات، فكلمّا ارتقت تلك الطاقة الروحية، ارتفعت درجةُ الإقبال العبادي…
فمثلًا نجد البعض مِمّنْ حافظ على صلاة الليل في أسحار الشهر الفضيل تتكوّن لديه لذةٌ روحيةُ كبيرة في التعاطي مع هذه العبادة، وقد تصل هذه اللذة الروحية إلى مستوى العشق العبادي، فيتحول إلى واحدٍ من عّباد الليل، يستوحش كلّ الوحشة حينما يترك صلاة الليل، ومناجاة الأسحار… ودون هذا المستوى مستويات بالنسبة للمحافظين على صلاة الليل…
وإذا أخذنا التعاطي مع القرآن مثلاً آخر.. فكم أنتج الشهر الفضيل عشّاقًا لكتاب الله، فشهر رمضان ربيع القرآن، وهذا العشق القرآني لا ينتهي بانتهاء الشهر الكريم، هؤلاء العشاق لكتاب الله يستمر انجذابهم الروحي للقرآن تلاوة وتدبّرًا وتمثّلًا… ودون هذا المستوى مستويات يجمعها الارتباط بكتاب الله…
وصنف آخر ينخفض في داخلهم الوهج الروحي بعد الموسم إلى درجة تضعهم في عداد ((الكسالى في العبادة)) وهؤلاء في الأساس كان تعاطيهم مع العبادة في المواسم الروحية تعاطيًا فاقدًا للمكوّنات الروحية الصادقة، ربّما نشطوا عباديًا في شهر رمضان، وفي موسم الحج أو العمرة أو الزيارة إلّا أنّه نشاط لا يملك وعيًا روحيًا، وربّما لا يملك صدقًا روحيًا، فهم مأسورون لجوٍ عبادي جمعي، وما أن ينتهي هذا الجو العبادي الجمعي، فينتهي كل شيء، وإذا بقي شيء من الممارسة العبادية فهو في الحد الأدنى….
هذا النمط في حاجة إلى إعادة إنتاج مستوى الوعي العبادي، ومستوى الإخلاص العبادي، فمتى ما توفّر هذان العنصران لا يمكن أن يصاب الإنسان بالكسل العبادي الخطير… هناك كسل عبادي طارئ نتيجة عوامل طارئة، هذا الكسل لا يلبث أن يزول، فهو لا يشكّل خطرًا وخاصة حينما يتداركه الإنسان، ويتخلّص منه، أمّا الكسل العبادي المتأصل، والناشئ عن أسبابٍ متأصّلة فيمثل خطرًا على الوضع الروحي، وقد يقود إلى مرحلة الانتكاس الروحي إذا استمر بلا علاج.. فحذارِ حذارِ من التساهل مع حالة الكسل العبادي خشية أن يتطور إلى ((إدبارٍ عبادي))
وهذا هو الصنف الثالث من النّاس الذين ينحدر عندهم المستوى العبادي إلى درجة (( الإدبار)) وهي درجة في غاية الخطورة.. فتصبح العبادة ثقيلةً على نفوسهم ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ {البقرة/45} وكلمة ((كبيرة)) تعني ثقيلة وصعبة وشاقّة، وأمّا الخاشعون فيجدون في الصلاة لذةً روحية وأيّ لذة…
وفي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:
((جعل الله جلّ ثناؤه قّرةَ عيني في الصَلاة، وحُبّب إليّ الصلاة كما حُبّب إليّ الصلاة كما حُبّب إلى الجائع الطعام، وإلى الظمآن الماء، وإنّ الجائع إذا أكل شبع، وإنّ الظمآن إلى شرب روي، وأنا لا أشبع مِن الصلاة…))
وأمّا المصابون بالتكلّس الروحي، فالصلاة ثقيلة كل الثقل على نفوسهم، وإذا صلّوا صلُّوا بقلوب مُدبرة، ومَنْ أدبر قلبه في الصلاة، أدبر الله عنه وأعرض عنه…
أمّا كيف يُحصّنُ الإنسانُ نفسه من الكسل العبادي والإدبار العبادي… فهذا ما يأتي في حديثنا القادم إن شاء الله..
لا زال المشهد السّياسي مأزومًا:
لا زال المشهد السّياسي الراهن في هذا البلد مشهدًا مأزومًا، وكلّما تطلّعنا إلى بعض أمل للخروج من هذا المأزق جاءت الوقائع على الأرضِ لتكرّس مزيدًا من التأزيم..
وهنا سؤال كبيرٌ ملّح:
لمصلحةِ مَنْ أن تستمر الأوضاعُ مأزومةً؟
لا أظن أنّ أحدًا يخلص لهذا الوطن يرى في استمرار التأزيم مصلحة، إلّا مَن يريدُ الدمار لهذا البلد…
وإلّا مَنْ يريدُ الشر بهذا الوطن..
وإلّا مَنْ يريدُ العبث بمصالح هذا الشعب..
أما آن الأوان لتعالج الأمورَ بطريقةٍ قادرةٍ على أن تنقذ البلادَ والعبادَ مِن هذا المنزلق الخطير؟
لا خيارَ إلّا الإصلاح السّياسي الحقيقي، وهو أقل كلفةً من هذا الثمن الباهض الذي طال الأرواح والأموال والأعراض، وأضر بالأمن والأمان والطمأنينة والاستقرار…
نعم الإصلاح السّياسي الحقيقي فحسب هو المخرج، وأنّ أيَّ خيار آخر فسوف يُبقي الأوضاعَ مأزومةً ومشرحةً إلى مآلاتٍ خطيرةٍ وكارثية ومدمّرةٍ…
فما عاد القمعُ مهّما اشتدَّ وقسى وعنف قادرًا أن ينقذ الأوطان من أزماتِها ومحنها وشدائدها، وما عاد قادرًا أن يُسكت صرخاتِ الشعوب المطالبة بحقوقها…
فمنِ الحكمةِ والعقلِ أن تتجّه أنظمةُ الحكم إلى المصالحة الحقيقية مع شعوبها، ولا مصالحةَ مِن خلالِ القبضاتِ الأمنية الباطشة، وإنّما مِن خلال الإصلاحاتِ السّياسية التي ترضي الشعوب، وتستجيب للحقوق…
وربّما تطرحُ الأنظمةُ الحاكمة بعضَ إصلاحاتٍ سياسيةٍ، إلّا أنّها إصلاحات قاصرة، وناقصة، وشكلِية، وترقيعية، وربّما من أجل الاستهلاك، والتخدير، والإسكات…
إنّ الشعوب أصبحت تملك مِن الرشد السّياسي ما يجعلها أذكى من أن ترضى بهذا اللون من الإصلاحاتِ الشكلية، لم تعد الخدع مجدية مع الشعوب علّمتها التجارب أن لا تقبل بالفتاتِِ السّياسي الذي لا يزيدها إلّا جوعًا، وحرمانًا، وبؤسًا، وعناءً، عذابًا.
وإذا رأت الشعوب الرشيدة أنّها بين خيارين:
– أن تبقى مرهونةً لواقعٍ سياسي مشحونٍ بالقهر والذل والحرمان..
– وأن تتمرّد على هذا الواقع، وإن كلّفها ذلك ثمنًا باهضًا..
فلن تتردّد في اعتماد الخيار الثاني..
وإذا كان هذا الخيار فيه كلفة باهضة للشعوب، فهو كذلك يكلّف الأنظمة الحاكمة أثمانًا أكبر ممّا يكلّف الشعوب، إنّ الإصلاحات الجادّة الحقيقية هي تخلّص الأنظمة والشعوب من تلك الأثمانِ الباهضةِ المرهقةِ، وكلّ شواهد الماضي والحاضر تؤكّد أنّ الظلم السّياسي خيار فاشل، ولا أمن ولا استقرار إلّا إذا ساد العدل والإصلاح، وتجذّرت الثقة بين الأنظمة والشعوب..
إنّ مطالبَ عادلةً تتمثّل في :
– إصلاحٍ سياسي جادّ..
– ودستورٍ يضمن كلَّ الحقوق..
– ودوائرَ عادلةٍ..
– وانتخاباتٍ نزيهةٍ..
– وبرلمان كامِل الصلاحيات..
– وحكومة تُمثّل إرادة الشعب..
– وإنهاءٍِ لكلِّ أشكالِ الفساد..
– وكلِّ أشكال التمييز..
– وإيقافِ للتجنيس السياسي..
– ومعالجةِ كلِّ التداعيات التي أنتجتها الأزمة الراهنة..
هذه كلُّها مطالبُ عادلةُ ومشروعةٌ، وهي تمنح النظام الحاكم قوةً ورسوخًا واستقرارًا، وهي تؤسّس لعلاقةٍ بين الشعب والنظام، قائمةٍ على الحبّ والثقةِ والتعاون..
لا زال شعبنا ينتظر مبادرةً جريئةً صادقةً لإنقاذ البلد من هذا الواقع المأزوم.
ربّما نسمع أصواتًا تدفع في اتجاه تكريس ما هو قائمٌ، بكلِّ أخطائِه وإخفاقاتِه، وترى في هذا الخيار الأصلح وتحرّض على مزيدٍ من الشدّةِ والبطشِ والانتقام، وعلى مزيدٍ من القبضةِ الأمنية، وتبارك كلَّ ما يحدث من ملاحقاتٍ، ومداهماتٍ، وتسريحاتٍ، واعتقالاتٍ، ومحاكماتٍ…
لا أظن أنّ هذه الأصوات تخدم هذا الوطن، إنّها أصواتٌ مدمّرةٌ، ومُأَزِّمةٌ، ومؤجّجة…
إنّها أصوات غارقةٌ في الوهم والخطأ..
المرحلة الراهنة المأزومة، ليست في حاجةٍ إلى خطاباتِ التحريض والانتقام، والتخوين، إنّها في حاجةٍ إلى خطاباتٍ عاقلةٍ، حكيمةٍ، مخلصةٍ، صادقةٍ، تريدُ الخيرَ لكلّ مكوّناتِ هذا الوطن، وتنزعُ المحبةَ والوءامَ بين أطيافِ هذا الشعب، وتخفّفُ من عناءاتِ النّاسِ وعذاباتهم، وتمسحُ الدموعَ مِن عيونِ الذين أصابتهم الأوضاعُ المأزومةُ بكوارثِها، وآلامِها، وأوجاعها أولئك الذين فقدوا مَنْ فقدوا من أبناءٍ، وآباءٍ، وأزواجٍ، وأخوةٍ، وأحبةٍ، أو غيّبتهم السجونُ والمعتقلات أو قطعت أرزاقهم سياساتٌ غيرُ حكيمةٍ…
ما أحوج المرحلة إلى هذه الأصواتِ الأمينة على مصالح النّاس، والصادقة مع ربّها، والمملوءة بحبّ الخير، والمسكونة بالرحمة…
هذه وظيفة خطابِ المنابرِ الدينية الأصيلة…
– الخطابِ المحكومِ لضوابط الشرعِ والدين…
– غيرِ المأسور للأهواء والنزعات…
– غيرِ الخاضع لمزاجات السياساتِ الحاكمة…
– غيرِ الممالئ والمجامل لرغبات النّاس حينما تكون على خلاف شرع الله…
– الخطاب الجريء، الصادقِ مع أهدافهِ ومبادئهِ…
– المطالبِ بالعدل والإحسان…
– الناصحِ للحاكمِ والمحكوم…
– المدافعِ عن المظلومين والمحرومين…
– والصائنِ لمبادئ الدين…
– الخطابِ الذي يُوّحد ولا يُفرّق..
– خطابِ المحبّة والتسامح، لا خطاب الكراهية والانتقام…
– خطابِ البناء والإصلاح، لا خطاب الهدم والإفساد…
– خطابِ الرفق لا خطاب العنف…
هذا خطابُ المنابر الدينية، وهكذا كان ولا يزال خطابُ منبر الجمعة لسماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم…
وكما أكّد سماحته في آخر جمعةٍ من الشهر الفضيل أنّ منبر الجمعة في فهمه ورؤيته يجب أن يكون بعيدًا كلِّ البعد عن ثلاثة أمور:
• أن يحقّق رغباتِ السّياسة.
• أن يكون شيطانًا أخرس.
• أن يكون فتنةً وفوضى…
ثمَّ قال سماحته: إنّ رسالةَ هذا المنبر أن يكون للدين، وصالح المسلمين والوطن.
وختم بقوله: إنّ مرجعيته فيما يجوز وما لا يجوز في أمر الجمعة، وفي كلّ أمر آخر هي مرجعية كلّ مسلم وذلك أن يكون المرجع هو الكتاب والسّنة بصورة مباشرة أو عن طريق أهل الفتيا من العدول…
وكلمة أخيرة:
لقد غمرت الفرحةُ قلوبنا بإطلاق سراح الكوادر الطبية، هذا النفر الذين أخلصوا كلَّ الإخلاصِ لهذا الوطن، وبذلوا ما بذلوا مِن أجل هذا الشعب، وسهروا وخدموا، وأعطوا، وضحّوا، وكانوا يستحقون كلَّ التكريم، وكلِّ أوسمة الشرف، إلّا أنّهم بدل ذلك قذف بهم في الزنزانات، وعانوا ما عانوا، لا لشيء إلّا لأنهم تفاعلوا مع معاناة شعبهم، وكانوا صادقين مع ربّهم وضمائرهم…
فهل مِن الإنصاف والعدل أن تُزج هذه العقول والكوادر العلمية والطبية في السجون والمعتقلات؟
أمر أدانته كلَّ المنظمات الدولية…
وعلى كلّ حال فإنّنا نثمّن هذه الخطوة في إطلاق سراحهم، وهي خطوة في الإتجاه الصحيح، أملي أن تتبعها خطواتٌ في إطلاقِ سراحِ بقية المعتقلين والسجناء، ولكي تتوفّر الأجواء الملائمة لأيّ مبادرة إنقاذٍ تهدف إلى إصلاح الأوضاع، وإلّا فسوف تبقى الأجواءُ مأزومةًَ، ممّا يُعقّد أيّ محاولةٍ تغيير…
نسأله تعالى أن يخلّص هذا الوطن من كلّ المحن والشدائد وأن ينعم على شعبنا بالأمن والأمان..
وآخر دعوانا أن الحمد للهِ ربِّ العالمين.