حديث الجمعة 250: من عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر(2) – التكافل الاجتمااعي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وآله الهداة الميامين..
وجاء في عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر:
نتابع بعض مقاطع ممّا جاء في عهد أمير المؤمنين عليه السّلام إلى مالك الأشتر النخعي حينما ولّاه على مصر..
من هذا المقطع:
• «وأَشْعِرْ قلبَكَ الرَّحْمةَ للرَّعِيَّةِ، والمَحبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ». [هامش (نهج البلاغة، ج3، ص 427، من كتاب له (ع) إلى مالك الأشتر. (طبعة مؤسّسة دار الهجرة، قم – إيران)]
هنا يتحدّث أمير المؤمنين عليه السّلام عن سمةٍ مُهمَّةٍ من السمات التي يجب أن يتوفَّر عليها الحاكم وهي سِمة (الرَّحمة بالرعيّة)، فكلّما توفّر الحاكمُ على صفةِ (الرحمة بشعبه والمحبّة له واللطف به) زرع ذلك في قلوب الشعب كلّ الحبّ لهذا الحاكم، وكلَّ الثقة به، وكلَّ الإخلاص له..
وعندما تتعزّزُ الثقةُ بين الحاكمِ والشعب ويتجذّرُ الحبُّ، ويتأسّسُ الإخلاص شكّل ذلك مقوّمًا أساسًا، ومرتكزًا مهمًّا ومدخلًا كبيرًا لمعالجةِ كلِّ الأزماتِ، وكلِّ الإشكالياتِ، وكلِّ التعقيدات…
وحينما تغيب الثقة والمحبّة، والإخلاصُ يشتدّ التأزّم، والتوتّر، وتتعقّد المعالجات..
وبقدر ما يملك الحاكم قلبًا مملوءًا بالرحمة لرعيّته، لشعبه، ومملوءًا بالمحبة لهم، ومملوءًا باللطف بهم، وبقدر ما يكون الحاكمُ أبًا حنونًا رؤوفًا، يحمل الآم شعبهِ، وهمومهم وعناءاتِهم، وعذاباتهم، وبقدر ما يكون الحاكمُ ساهرًا من أجل خيرهم، وراحتهم، ومصالحهم، وأمنهم، واستقرارهم، فهو الحاكم نعم الحاكم والراعي نعم الراعي…
• «ولا تَكُونَنَّ عليهم سَبُعًا ضَارِيًا تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ».
ويحذّرُ أمير المؤمنين عليه السّلام (واليه على مصر) من أن يتحّولَ إلى (سَبُعٍ ضاري) يرى في رعيّتهِ فريسةً يَنْهشُ لحمها، ويتروّى من دماءِها، ويتلذذُ بقضم حتّى عظامها … إنّها صورة سيئةٌ مقتيةٌ لوالٍ لا يحمل في قلبه شيئًا مِن الرحمةِ تجاه رعيّتهِ، ولا شيئًا من المحبّة لهم، ولا شيئًا من اللطف بهم…
أراد أمير المؤمنين عليه السّلام أن يرسم صورة نموذجيّة رائعة لحاكمٍ يذوبُ في حبِّ رعيّتهِ، ويمتلئُ رحمةً بهم، ويفيض شفقةً عليهم، فنعم الحاكم هذا، ونعم الوالي..
• «فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لكَ في الدِّين، وإمّا نظيرٌ لكَ في الخَلْقِ».
صحيح أنّ الحاكم أصبح في موقع الحكم والسلطة، وهو موقعٌ كثيرًا ما يدفع صاحبه إلى الكبرياء والطغيان والتجبّر، فيجد بينه وبين شعبه ورعيّته مسافةً كبيرةً كبيرةً جدًا، وربّما قاده ذلك إلى أن يدّعي، كما ادّعى فرعون حينما قال ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ {النازعات/24}، لذلك نجد أمير المؤمنين عليه السّلام في عهده يحاول أن يحصّن (واليه على مصر) من أن ينزع هذا المنزع الخطير، فيذكّره أنّ موقع الحكم لا يجعل له تمايزًا على الرعيّة فالرعيّة صنفان:
– «إمّا أخٌ لكَ في الدِّين»
فالحاكم والمحكوم تجمعهما «أخوّة الدين»
وإذا كان هناك تفاضل فبالتقوى، والعلم، والعمل… فربّما فضل محكومٌ حكامًا في تقوى، وفي علمٍ، وفي عمل..
– «وإمّا نظيرٌ لكَ في الخَلْقِ»
وإذا كان بعض الرعيّة ليسوا أخوة دينٍ، فهم نظراءُ وشركاءُ في الإنسانيّة، وللإنسانيّة حقوقها، فلا يجوز أن يتعالى الإنسان على الإنسان حتّى وإن كان أحدهما حاكمًا، والآخر محكومًا، كم هو رائعٌ هذا النهجُ الرّباني، حينما يفرضُ على الحاكم أن لا يمايز بين مكوّنات شعبه، على أساسٍ من العرق أو اللون أو الدين أو الطائفة أو المذهب أو اللغة، ما داموا جميعًا أبناء وطنٍ واحد، وما داموا جميعًا نسيجَ شعبٍ واحد..
حينما تختفي (سياسات التمييز) لدى الأنظمة الحاكمة فإنّ هذا من أكبر الإنجازات التي تمارسها هذه الأنظمة ممّا يوفر أجواءً صالحة لتلاحم حقيقي بين مكوّنات الشعب، الأمر الذي لا يسمح لأيِّ حراكاتٍ طائفيّة أن تفرض نفسها مهما كانت المؤجّجات والمحرّضات قويّة وطائشة…
إنّ مِن أخطر ما يواجه الأوطان هو (التأزيم الطائفي) وله أسبابه ومنتجاته الكثيرة، وقد شهد وطننا الحبيب خلال محنته الأخيرة محاولات تأزيمٍ طائفيٍّ خطير، إلّا أنّ مُحصّنات هذا الشعب الذي عاش تاريخًا من الوئام والمحبّة والتآلف والأخوّة أسقطت كلّ رهانات التأزيم الطائفي، وأفشلت وسوف تفشل كلَّ الاستفزازات الطائفيّة، أيًّا كان مصدرها، وأيًّا كان مُحرّكها، لأنّه لا خيار بين أبناء هذا الوطن إلّا التآخي والتصافي والتلاحم، قال الله تعالى في كتابه المجيد: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ {الأنفال/46}، وقال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ {آل عمران/103}، وقال نبيُّنا الأكرم صلّى الله عليه وآله يوصي المسلمين «لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد اللهِ أخوانًا، ولا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث». [هامش ( الريشهري: ميزان الحكمة 3/ 3437، حرف الهاء، الهجران. ط1، دار الحديث، قم – إيران)]
التكافل الاجتماعيّ:
تحدّثنا في حديثٍ سابق عن مسؤولية الدولة في رعاية كلّ العاطلين، من خلال توفير الأعمال لكلّ القادرين على العمل أو من خلال توفير ضمانات اجتماعيّة معيشيّة تحميهم من العوز والفقر والحرمان، وهذا لا يعني أن يتخلّى النّاس القادرون عن مسؤوليّاتهم تجاه العاطلين الذين لا يملكون ما يوّفر لهم وضعًا معيشيًا مقبولًا…
فإذا قصرّت الدولة أو عجزت عن أداء وظائفها في حماية العاطلين، فتبقى مسؤولية كلّ القادرين من أبناء الوطن في إنقاذ هؤلاء العاطلين، بتوفير أعمالٍ لهم أو بمساعدتهم لكي يعيشوا حياة كريمة كبقية النّاس، وهذا لا يعدّ تفضّلًا أو منّةً على هؤلاء المحرومين، بل هو حقّ من حقوقهم المشروعة، ولهم أن يطالبوا بها بكلّ عزّةٍ وكرامةٍ، لا بذلّةٍ ومهانةٍ…
وأحاول هنا أن أضع بين أيديكم طائفة من النصوص الدينيّة التي تؤكّد مسؤوليّة التكافل الإجتماعي ورعاية شؤون المحتاجين، ما داموا غير قادرين على العمل أو لم تتوفّر لهم فرص العمل…
و هذه نماذج من تلك النصوص:
(1) قال الله تعالى في سورة الماعون:
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين، فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون﴾.
هذا النصُّ القرآني يتحدّث عن نمطٍ من النّاسِ لا يعيشون المضمون الواعي للدّين ممّا يضعهم في سياق المنافقين المكذّبين بالدين …
و أشار النص إلى مجموعة ظواهر في حياة هؤلاء:
1- ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾
فهؤلاء لا يملكون قلوبًا تحمل الرحمة لليتامى الذين فقدوا آباءهم، وهم في أمسِّ الحاجة إلى الرحمة واللطف والمحبّة، بينما ترى هؤلاء الذين يعيشون الدّين شكلًا يقسون كلّ القسوة على الأيتام فلا يخافون الله، فيدفعون اليتيم بعنف، وقسوة وجفوة…
2- ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾
ظاهرة أخرى في حياة هؤلاء الذين لا يمارسون روح الدّين أنّهم لا يتحسّسون آلام البؤساء والفقراء والمساكين، ولا يتحمّلون أيّ مسؤولية تجاه المحرومين، فلا يقدّمون لهم أيّ عون ومساعدة من خلال ما يملكون من إمكانات أو من خلال حثِّ النّاس وحضِّهم ودعوتهم إلى مساعدة أولئك البؤساء والمحرومين.
3- ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ﴾
ومن صفاتهم أنّهم يصلّون صلاة الغافلين المتهاونين لأنّ الصلاة لا تمثل عندهم قيمة كبيرة، لذلك فهم يستخفّون بها، في أدائها، وفي أوقاتها، وفي التفاعل معها… ثمّ إنّهم حينما يصلّون أو يمارسون أيّ عمل من أعمال الخير، إنّما يفعلون ذلك رياءً وليس من أجل رضى الله تعالى.
4- ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾
ومن أبرز الظواهر في حياتهم أنّهم لا يقدّمون أيّ خدمة أو معونة أو مساعدة للآخرين …
من خلال هذا النص نستنتج أنّ الإنسان المؤمن الصادق في إيمانه، الواعي بمفاهيم دينه، يحمل قلبًا، مملوءًا بالرحمة لليتامى، ويتحسّس آلام البؤساء والمحرومين، ويسعى لخدمة الفقراء والمساكين، والمحتاجين، لا يمارس ذلك رياءً وإنّما طمعًا في عطاء الله تعالى…
(2) قال رسول الله صلّى الله عليه وآله:
«للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق واجبة له من الله عزّ وجلّ، والله سائله عمّا صنع فيها:
– الإجلال له في عينه.
– والودّ في صدره.
– والمواساة له في ماله.
– وأن يحبّ له ما يحبّ لنفسه.
– وأن يحرّم غيبته.
– وان يعوده في مرضه.
– و[أن] يشيّع جنازته.
– ولا يقول فيه بعد موته إلّا خيرًا». [هامش (الصدوق: الخصال ص 351، باب السبعة، ح27، طبعة جماعة المدرسين ، قم – إيران)]
(3) وقد تضافرت الأحاديث في الحثِّ على قضاء حوائج النّاس، وفي ذلك عطاء إلهيّ كبير جدًا، هذا بعضٌ منه:
1- الأمن يوم القيامة..
• قال الإمام الكاظم عليه السلام:
«إنّ لله عبادًا في الأرض، يسعون في حوائج النّاس، هم الآمنون يوم القيامة».
2- يُعطى ثواب المجاهدين..
• قال رسول الله صلّى الله عليه وآله:
«مَنْ مشى في عون أخيه ومنفعته فله ثوابُ المجاهدين في سبيل الله».
3- يعطى ثواب العابدين..
• قال رسول الله صلّى الله عليه وآله:
«مَنْ سعى في حاجة أخيه المؤمن فكأنّما عَبَدَ الله تسعة آلاف سنة، صائمًا نهاره، قائمًا ليله».
4- له من الحسناتِ الكثير الكثير..
• قال الإمام الباقر عليه السلام:
«مَنْ سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله كتب الله له ألف ألف حسنة».
5- أحبُّ النّاس إلى الله..
• قال الإمام الصّادق عليه السلام:
«قال الله عز وجل: الخلق عيالي، فأحبّهم إليّ ألطفُهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم».
6- أفضل من ثواب سبعين حجّة مستحبة..
• قال الإمام الباقر عليه السلام:
«لأن أعولَ أهلَ بيتٍ من المسلمين: أسدُّ جَوعتهم، وأكسو عورتهم، فأكفّ وجوههم عن النّاس، أحبُّ إليّ من ان أجحَّ حجّة وحجّة [وحجّةً] ومثلها ومثلها – حتّى بلغ عشرًا – ومثلها ومثلها – حتى بلغ السبعين –».
• وعن الإمام الصّادق عليه السلام:
«قضاء حاجة المؤمن أفضل من ألف حجّةٍ متقبّلة بمناسكها».
7- أحبّ مِن عتق ألف نسمة:
• في حديث للإمام الصادق عليه السّلام جاء فيه:
«لأن أسعى مع أخٍ لي في حاجةٍ حتّى تُقضى أحبُّ إليّ من أن أعتق ألف نسمةٍ».
8- مَنْ قضى لمؤمنٍ حاجة قضى الله حوائجه وأدخله الجنّة:
• قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:
«مَنْ قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله عزّ وجل له يوم القيامة مائة ألف حاجة، من ذلك أوّلها الجنّة».
• وقال عليه السلام:
«من كان في حاجة أخيه المؤمن المسلم كان الله في حاجته ما كان في حاجة أخيه».
9- استغفار الملائكة:
• قال الإمام الصّادق عليه السلام:
«إنّ العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكّل الله عزّ وجل به ملكين: واحدًا عن يمينه، وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه، ويدعوان بقضاء حوائجه».
(4) وإلى جانب هذه الطائفة من الروايات هناك روايات تحذّر من التهاون في قضاء حوائج الإخوان منها:
1- في الحديث:
«أيّما مؤمنٍ منع مؤمنًا شيئًا يحتاج اليه وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره، أقامه الله يوم القيامة مسوّدًا وجهه، مزرقّةً عيناه، مشدودةً يداه إلى عنقه، ويقال هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، وثمّ يؤمر به إلى النّار».
2- وفي حديثٍ آخر:
«من كان عنده فضل ثوب، وعلم أنّ بحضرته مؤمن يحتاج إليه، فلم يدفعه إليه، أكبّه الله في النار على منخريه».
3- وفي حديثٍ ثالث:
«مَنْ قصد إليه رجل مِن إخوانه مستجيرًا به في بعض أحواله، فلم يجره بعد أن يقدر عليه، فقد قطع ولاية الله عز وجل».