كلمة سماحة العلامة الغريفي في تأبين سماحة العلّامة الشيخ عبد الأمير الجمري قدس الله نفسه الزكية
كلمة تأبين سماحة العلّامة الشيخ عبد الأمير الجمري
(2 صفر 1432هـ – 7/1 / 2011م)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين، محمدٍ وعلى آله الهداة الميامين…
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أن نلتقي في ذكراه ليس تأبينًا، لأنَّ الشيخ الجمري لا زال حيًّا..
صحيح {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}. (الزمر: 30)
وصحيح {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}. (المؤمنون: 15)
وصحيح {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}. (العنكبوت: 57)
وصحيح {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ}. (النساء: 78)
هذا قولُ اللهِ، وهو أصدقُ القائلين…
إلّا أنّ الموتَ ليس فناءً، الموتُ نهايةُ أشواطٍ، هي عمر الإنسان في هذه الدنيا..
وتبقى هذه الأشواطُ عنوانًا لا يموت..
تبقى هذه الأشواطُ عُنوانَ خيرٍ أو عُنوانَ شرٍّ..
تبقى هذه الأشواطُ عُنوانَ مجدٍ أو عُنوانَ لعنةٍ..
تبقى هذه الأشواطُ عُنوانَ عدلٍ أو عُنوانَ ظلمٍ..
تبقى هذه الأشواطُ عُنوانَ حقٍّ أو عُنوانَ باطلٍ..
الأنبياءُ، والأولياءُ، والشُّهداء، والصالحونُ بقيتْ أشواطُهم في هذه الدُّنيا عناوينَ خيرٍ، ومجدٍ، وعدلٍ، وحقٍّ..
أمّا الطُّغاةُ، والمجرمونَ، والعُصاةُ، والمفسدونَ فقد بقيت أشواطُهم في هذه الدنيا عناوين شرٍّ، ولعنةٍ، وظلمٍ، وباطل..
هذا كلّه إذا كان الحديث عن عناوين تتحرَّك على هذه الأرض..
أمّا الآخرة فلها عناوين يتمايزُ فيها النّاس عند الله تعالى، فالصالحون والمتّقون والأخيار والأبرار:
• {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ }. (القمر: 54 – 55)
• {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ، خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}. (المطفّفين: 22 – 26)
• {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. (البقرة: 82)
وأمّا الكفَّار والأشرار والفجَّار:
• {فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. (البقرة: 81)
• {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ، وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}. (الانفطار: 14 – 16)
وبعد هذا التمهيد العاجل نُحاول أن نبدأ الحديث عن صاحب الذِّكرى سماحة العلَّامة المجاهد الشيخ الجمري.
مِعْيارُنا في الحديث عن هذا الرَّجلِ الكبير:
حينما نُريدُ أن نقرأ الشيخ الجمري، فمعيارُنا في هذه القراءة هو «المعيار الرَّباني»، ويتمركزُ هذا المعيارُ حولَ محورٍ واحدٍ هو «رضا الله سبحانه»، ويعتمدُ «الدِّينَ، التقوى، الإخلاصَ، العلمَ، العملَ، العطاءَ، الجهادَ» أُسسًا لتقويم الأشخاص، والأفكار، والمواقف..
وهناك معاييرُ هي من «صنعِ الشَّيطان»…
وهي معايير تتناقض مع «المعيار الرَّباني»، فربَّما يكون الإنسانُ وِفقَ معاييرِ الشَّيطانِ عُنوانًا كبيرًا كبيرًا، ولكنَّه وِفق «معيار الله» يكون عنوانًا صغيرًا صغيرًا، حقيرًا حقيرًا…
ربّما يكون الإنسانُ وِفق معايير النَّاسِ قِدِّيسًا، ولكنَّه وِفق «معيار الله» يكون شيطانًا…
هناك كلمةٌ تقولُ: «إنّ العبدَ ليُنشَرُ له من الثَّناءِ ما بينَ المشرقِ والمغربِ، ولا يُساوي عند الله جناحَ بعوضةٍ»( ).
فليس كلُّ مَنْ مَلكَ ضجيجًا، إعلامًا، موقعًا، جاهًا، شهرةً، سلطةً، مالًا، غَلَبةً، قوةً، جبروتًا… هو إنسانٌ كبيرٌٌ عند الله تعالى…
فقد يكون عند الله صغيرًا صغيرًا، وحقيرًا حقيرًا، وإن ملأ الدنيا صَخَبًا، وجَبَرُوتًا، وهَيْمنةً، وعُدوانًا، وثراءً، وإطراءً، وثناءً، وخيلًا، ورجالًا..
أيُّها الأحبَّة:
القيمةُ كلُّ القيمةِ، أن نكون كبارًا عند الله، ولا يهمّ بعد ذلك إن حسبَنا النَّاسُ صغارًا..
القيمةُ كلُّ القيمةِ، أن نكون قدِّيسين عند الله، ولا يهمّ بعد ذلك إن حسبَنا النَّاسُ شياطين..
القيمةُ كلُّ القيمةِ أن نكون الأتقياء الصّالحين عند الله، ولا يهمّ بعد ذلك إن حسبَنا النَّاسُ فسَّاقًا طالحين..
وأيّ قيمةٍ أن يحسبنا النَّاسُ كبارًا، ونحن عند الله صغار..
وأيّ قيمةٍ أن يحسبنا النَّاسُ قديسين، ونحن عند الله شياطين..
وأيّ قيمةٍ أن يحسبنا النَّاسُ أتقياء صالحين، ونحن عند الله من الفسَّاقِ الطَّالحين..
• جاء في الحديث عن النبيّ الأكرم (ص):
«أول من يُسأل يوم القيامة ثلاثة:
– رجلٌ آتاه الله العلم، فيقول الله تعالى: ما صنعت فيما علمت؟
فيقول: يا ربِّ أقوم به آناء الليل وأطراف النَّهار.
فيقول الله عزّ وجلّ: كَذَبْتَ، وتقول الملائكة كَذَبْتَ، بل أردت أن يُقال فلان عالم، ألا فقد قيل ذلك:
– ورجلٌ آتاه الله مالًا، فيقول الله تعالى: قد أنعمت عليك فماذا صنعت؟
فيقول: يا ربِّ أتصدَّق به آناء الليل والنَّهار..
فيقول الله عزّ وجلّ: كَذَبْتَ، وتقول الملائكة: كَذَبْتَ، أردت أن يُقال فلان جواد، ألا فقد قيل ذلك..
– ورجلٌ قُتل في سبيل الله، فيقول الله تعالى: ما صنعت؟
فيقول: أمرت بالجهاد، فقاتلتُ في سبيلك حتى قُتلت..
فيقول الله عزّ وجلّ: كَذَبْتَ، وتقول الملائكة: كَذَبْتَ، بل أردت أن يُقال شجاع، ألا فقد قيل ذلك»( ).
أشقياء أولئك الذين يبحثون عن عناوين غير موصولة بالله، وإنَّما هي موصولة بزيف الأرض، وهوى النفس، وغوايات الشَّيطان..
وأشقى من هؤلاء، أولئك الذين يتاجرون بعناوين الدِّين، وهم يبحثون عن الدُّنيا…
• جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله:
«ويلٌ للذين يجتلبون الدُّنيا بالدِّين، يلبسون للناس جلود الضأن من لين ألسنتهم، كلامُهم أحلى من العسل، وقلوبُهم قلوب الذِّئاب، يقول الله تعالى: أبي يغترّون؟…»( ).
• وجاء في الحديث عنه صلى الله عليه وآله:
«يا أبا ذر اتَّق الله، ولا تُرِ النَّاس أنَّك تخشى الله، فيكرموك وقلبك فاجر»( ).
فما أحوجنا فما أحوجنا إلى التقوى، كنّا علماءَ، أو خطباءَ، أو دعاة، أو مثقَّفين، أو سياسيِّين، وكلّ الذين يحملون عُنوانَ العمل للدِّين، للنَّاس، للوطن، خشية أن نكون ممَّن قال الله عنهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}. (الفرقان: 23)
كيف نقرأ الشيخ الجمري؟
نتناول هذه القراءة من خلال مجموعة نقاط:
النقطة الأولى:
أن نقرأه وِفق (معيار الإخلاصِ لله تعالى)…
والذي ظلّ جاهدًا يتمثَّله، ويعتمده منطلقًا في كلِّ عطاءاته، وجهاداته، وتضحياته…
كان الشيخ الجمري في عمله العباديّ يبحث عن رضا الله تعالى…
وكان في عمله الثقافيّ يبحث عن رضا الله تعالى…
وكان في عمله الاجتماعيّ يبحث عن رضا الله تعالى…
وكان في عمله السِّياسيّ يبحث عن رضا الله تعالى…
يظلمون الشيخ الجمري كلُّ الذين يتحدّثون عنه بعيدًا عن هذا العنوان (عنوان رضا الله)
الشيخ الجمري لا يَكبُرُ أن يكون سياسيًّا، إذا لم تكن سياسته لله تعالى..
الشيخ الجمري لا يَكبُرُ أن يكون ناشطًا، إذا لم يكن نشاطه لله تعالى..
الشيخ الجمري لا يَكبُرُ أن يكون وطنيًّا، إذا لم تكن وطنيَّته لله تعالى..
الشيخ الجمري لا يَكبُرُ أن يكون صوتًا ضدّ الظُّلم والظَّالمين إذا لم يكن هذا الصوت لله تعالى..
الشيخ الجمري لا يَكبُرُ أن يكون مطالبًا ببرلمان أو دستور إذا لم تكن هذه المطالبة لله تعالى..
الشيخ الجمري لا يَكبُرُ أن يكون عنوانًا لكلِّ هذا الشعب إذا لم يكن هذا العنوان لله تعالى..
الشيخ الجمري لا يَكبُرُ أن يكون رهين السُّجون إذا لم يكن هذا السِّجن من أجل الله تعالى..
اقرأوا الشيخ الجمري عبدًا مخلصًا لله، لدينه، لرسالته الرَّبانية، لأهدافه الإلهيّة، ثمّ سمُّوه ما تشاؤون، سياسيًّا، ناشطًا، وطنيًّا، مدافعًا عن حقوق الشعب، مناضلًا من أجل المحرومين، مطارَدًا، سجينًا، معذَّبًا، صابرًا، مُحتسبًا..
ولكن حذارِ حذارِ أن تظلموه، فتمنحونه كلّ العناوين، وتنسون العُنوان الأساس..
قد يقول البعض: لماذا نحجِّم الشيخ ضمن عُنوانَ الدِّين… هو لكلِّ الشعب، ولكلِّ القوى الدينيّة والوطنيّة، ولكلِّ النشطاء في السَّاحة بكلِّ أطيافهم وانتماءاتهم، وفصائلهم، فهو أبٌ روحيّ للجميع..
كلامٌ يبدو جميلًا في حقٍّ أبي جميل..
إلّا أنّه كلامٌ خطير، ماذا أبقينا للشيخ الجمري إذا نزعنا عنه عُنوان الدِّين؟
وهل أنَّ عُنوان الدِّين يُحجِّم دور الرّمز أو القائد؟
هل أنَّ عُنوان الدِّين حجَّم دور الأئمَّة؟
هل أنَّ عُنوان الدِّين حجَّم دور الفقهاء؟
وهل أنَّ الرَّمز والقائد لا يكون أبًا روحيًّا للجميع إلَّا إذا خلع رداء الدِّين؟
وهل أنَّ الرَّمز والقائد لا يكون وطنيًّا إلَّا إذا تنكَّر لعُنوان الدِّين؟
وهنا فكرة تُطرح على لسان بعض المؤمنين وهم مخلصون وصادقون في ولائهم للرّموز الدينيَّة، تقول هذه الفكرة: إنَّ الرَّمز الدينيّ لكي يكون قائدًا يجب أن يحتضن الجميع، وأن يكون على مساحةٍ واحدةٍ من الجميع، وإلَّا كان منحازًا، ولم يكن قائدًا لكلِّ القوى والفصائل والأطياف…
وتُطرح المرجعيَّة الدينيَّة في النجف نموذجًا، فقد وقفت على مساحةٍ واحدةٍ من كلِّ القوى السِّياسيّة الناشطة في السَّاحة العراقيَّة، ومن كلِّ الخيارات المتحرِّكة…
ما مصداقيَّة هذا الكلام؟
وِفق هذا القول يجب أن يكون موقع القائد الدينيّ رمزيًّا، وشكليًّا، وصوريًّا…
وماذا يعني أن يكون قائدًا؟
وهل المطلوب من القائد أن يقف على مساحةٍ واحدةٍ من كلِّ القوى الإيمانيَّة وغير الإيمانيَّة؟
وأن يقف على مساحةٍ واحدةٍ من كلِّ الفصائل الملتزمة والمنحرفة؟
وأن يقف على مساحةٍ واحدةٍ من كلِّ الخيارات الصائبة والخاطئة…؟
فأين دور القائد الدينيّ في تجذير حركة الإيمان؟
وأين دور القائد الدينيّ في تأصيل خطِّ الالتزام؟
وأين دور القائد الدينيّ في ترشيد الخيارات؟
وما المشكلة في أن ينحاز القائد الدينيّ إلى القوى الإيمانيّة؟
وما المشكلة في أن ينحاز إلى الفصائل الملتزمة؟
وما المشكلة في أن ينحاز إلى الخيار الصائب وِفق قناعته واجتهاده؟
هل المطلوب من القائد الدينيّ أن يبقى متفرِّجًا على الأمَّة وهي تعيش صراعاتها، وخلافاتها، وتجاذباتها، وتناقضاتها؟
الأبوَّة الروحيَّة للقائد الدينيّ أن يُوجِّه، أن يُصحِّح، أن يُرَشِّد، أن يُبيِّن للنَّاس الحقَّ من الباطل، والصحيح من الخطأ.
وأمّا عن موقف المرجعيّة الدينيّة في النجف الأشرف..
فمن قال أنّها وقفت على مساحةٍ واحدةٍ من كلِّ الخيارات المتحرِّكة؟
في السّاحة العراقيَّة تحرَّك خياران: خيار المقاطعة للعمليَّة السِّياسيّة باعتبارها مشروعًا أمريكيًّا، وخيار المشاركة من العمليَّة السِّياسيّة باعتبارها مشروعًا وطنيًّا، وقفت المرجعيَّة بقوَّةٍ مع خيار المشاركة… لأنَّها شخَّصت المصلحة..
وفي السّاحة العراقيّة تجاذباتٌ كثيرة، كان للمرجعيَّة دور التصحيح والتوجيه، والحسم، كما في مسألة الكتل المغلوقة والكتل المفتوحة فالموقف خاضعٌ للمصالح والمفاسد… ويبقى ضرورة أن تحتضن المرجعيّة الدينيّة كلّ المكوِّنات، ما لم يكن في ذلك تفريطًا بالمصالح..
قد يقال: لماذا تفرضون أنّ قرار القيادة الدينيّة لا يكون إلّا صائبًا؟
لا نفرض قرار القيادة الدينيّة صائًّا دائمًا، فهو ليس قرارًا معصومًا…
إلّا أنّ الرُّؤى والاجتهادات السِّياسيّة، حينما تتعدّد، وتتناقض بالشكل الذي يهدِّد وحدة الأمَّة، فمن الضروري أن يكون رأي القيادة الدينيَّة، ما دامت مؤهَّلة فقهيًّا وسياسيًّا، وروحيًّا، وقياديًّا، هو الحاسم لكلِّ الخلافات…
لا مشكلة عند الفقهاء أن يتعدَّد (مراجع التقليد)، أمّا (موقع الولاية) في المساحة الواحدة، فلا يجوز أن يتعدَّد، والسبب واضح، كون التقليد شأنًا فرديًّا، أمّا الولاية فتتعامل مع الشَّأن العام، والذي يُطلب فيه وحدة القرار…
قد يقال: هذا موقع الولي الفقيه، وليس موقع أيّ عالمٍ يتصدَّى للشَّأن العام.
الجواب: الملاك واحد، ما دامت الضَّرورة تفرض وجود قيادةٍ دينيَّة، من أجل حسم الخلاف والصِّراع في الشَّأن العام الذي يحتاج وحدة موقف…
ليس معنى هذا مصادرة الرُّؤى والقناعات المتعدِّدة..
إلَّا أنَّ المصلحة العامَّة حاكمةٌ على كلِّ الاختلافات.
لا نريد أن نُضفي على الرموز الدينيَّة القياديَّة قداسة تضعهم فوق النَّقد والمحاسبة، إلَّا أنَّ دور القيادة حينما تتشظَّى المواقف، وتتناقض الخيارات، وتتصارع الإرادات هو الحسم، وإيقاف التداعيات التي تُشكِّل خطرًا على واقع الأمَّة..
فالمرجعيَّة الواحدة (شخصًا أو أشخاصًا) في الشَّأن العام ضرورةٌ تفرضها الرؤية الفقهيَّة، والواقع الموضوعيّ..
وحينما نتحدّث عن ضرورة وجود قيادةٍ مرجعيَّة دينيَّة، لا يجوز أن نُلغي دور القيادات السِّياسيّة والثقافيّة والإداريَّة، والتي يجب أن تُشكِّل (جهازًا استشاريًّا) للقيادة المرجعيَّة الدينيَّة، وهذا ما يُعطي للقيادة المرجعيَّة قدرتها، وحضورها، وفاعليَّتها، ونجاحها، لذلك، فمطلوبٌ من القيادة الدينيَّة أن تحتضن عددًا كافيًا ومتنوعًا من تلك القدرات، ومطلوبٌ من أصحاب القدرات والكفاءات السِّياسيّة والثقافيّة والإداريّة أن تلتحم مع القيادة الدينيَّة المؤهّلة الكفوءة القادرة على ممارسة هذا الدور.
وهكذا لا يصحّ للقيادة الدينيّة أن تُفرِّط بكفاءات وقدرات السّاحة، ولا يصحّ لهذه الكفاءات والقدرات أن تفرِّط بوجود الرُّموز القياديَّة الدينيَّة…
وبمقدار ما يكون التلاحم والتواصل يكون في ذلك كلّ الخير والصلاح لهذه الأمّة…
النقطة الثانية:
أن نقرأ الشيخ الجمري وِفق (معيار التقوى):
كما عرفناه كان رجل شرعٍ ودين.. ولا أعني بذلك أنَّه عالمٌ في الشَّرع والدِّين، فهذا عُنوانٌ لا يحتاج إلى التذكير، ما أعنيه أنّه يُحاول دائمًا أن يحكِّم الشَّرع والدِّين في كلِّ حالاته، ومواقفه..
ولا أتحدّث كذلك عن عبادتِه، وصلاتِه، وصيامِه، وحجِّه، ودعائِه، وتلاوتِه، وهو المشدودُ إلى الله، العاشقُ لعبادته….
وإنّما أتحدّثُ عن شرعٍ ودينٍ يمثِّلان نهجًا يحاول أن يحكم كلَّ المواقف في الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والسِّياسيّة، فما أسهل أن يكونَ أحدُنا رجلَ شرعٍ ودينٍ في صلاتِه، وصيامِه، وحجِّه، ودعائِه، وتلاوتِه، إلّا أنّه لا يعرف الشَّرعّ والدِّين في علاقاته الاجتماعيّة، وفي كلِّ مواقفه الأخرى.
• في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:
«لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحجّ، والمعروف، وطنطنتِهم بالليل، انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة| «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم، وصومهم، وكثرة الحجّ، والمعروف، وطنطنتِهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث، وأداء الأمانة»( ).
• وفي الحديث عن الإمام الصّادق عليه السلام قال:
«لا تغترُّوا بصلاتِهم، ولا بصيامِهم، فإنّ الرجلَ ربّما لهج بالصَّلاةِ والصَّومِ حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث، وأداء الأمانة»( ).
المسألة – أيّها الأحبّة – أن يتحرّك الشَّرعُ والدِّين في كلِّ المساحات، وهذا ما كان يلتزم به الشيخ الجمري ولم يستثني في ذلك حراكه السِّياسيّ، ربّما لم أعاصر هذا الحراك في كلِّ منعطفاته، حيث كنت في المهجر، وإن كنت على تواصلٍ
مع مسار الأوضاع، إلّا أنّي بعد العودة إلى الوطن كنت على تواصلٍ دائمٍ مع سماحته، وعرفتُ كيف كان شديدَ الحرصِ على استنطاق الشَّرع والدِّين وهو في زحمة المعترك السِّياسيّ، وأتمنَّى على كلِّ الذين يطرحون سماحة الشيخ الجمري عُنوانًا للمرحلة السِّياسيّة التي شهدت المخاضات الصعبة في هذا البلد، أتمنَّى على هؤلاء أن لا يُغيِّبوا إصرارَهُ على استنطاق الشَّرع والدِّين، ليصوِّروه سياسيًّا مصلحيًّا نفعيًّا يهمّه أن يصاهر كلّ القوى السِّياسيّة وإن كان على حساب الشَّرعِ والدِّينِ، الأمر ليس كذلك كما أعرفه تمام المعرفة من دين الرجل وتقواه، يُخطئ كلّ الخطأ من يحاول أن يفهم الشيخ الجمري بأنّه كان يتعاطى مع الشَّأن السِّياسيّ وِفق المعايير البحتة للسِّياسة بعيدًا عن رؤية الشَّرع والدِّين، هذا فهمٌ يُسيئ إلى الشيخ كلَّ الإساءة، ويضعه في سياق السِّياسيّين النفعيّين أو السِّياسيّين الذين لا يُؤمنون بالدِّين… شيخنا الجليل تغمَّده الله بوافر الرَّحمة كان يملك تقوى الدِّين وورع الشَّرع، فلا قيمة عنده لحراكٍ سياسيّ لا تحكمه معايير الشَّرع والدِّين، رغم تعقيدات المشهد السِّياسيّ، واختلاط الرُّؤى، ممّا يخلق إرباكًا لدى الكثيرين حتى ممّن يهمّهم تحكيم الشَّرع والدِّين، فكيف بمن لا يملكون هذا الهمّ..
مأزق الكثيرين من العاملين في السّاحة السِّياسيّة، ارتباك الرؤية، خاصّة حينما يغيب الفهم الفقهيّ أو يغيب الفهم السِّياسيّ، فربّما توفّر لدى البعض فهمٌ سياسيّ ناضج، إلّا أنّ غياب الفهم الفقهيّ يُسبّب إرباكًا، والعكس كذلك، فربّما لدى البعض فهمٌ فقهيّ ناضج، إلّا أنّ غياب الفهم السِّياسيّ يُسبب إرباكًا… فما أحوج المرحلة إلى قدراتٍ تملك كفاءة الفقه والسِّياسة….
وهناك كفاءةٌ ثالثة تشكِّل محصِّنًا للموقف السِّياسيّ من أن يزيغ أو ينحرف وهي كفاءة التقوى…
فالأتقياء لا يُفرِّطون في مسؤوليّاتهم، ولا ينحرفون عن أهدافهم المشروعة، مهما ازدحمت أمامهم التحدِّيات، والضُّغوطات، والمساومات، والإغراءات..
هكذا كان الشيخ الجمري رجل فقهٍ وسياسة، وصاحب تقوى ودين..
ولنا في الرُّموز الحاضرة في السَّاحة المعاصرة من حَمَلةِ الفقه والسِّياسة والتقوى وعلى رأسهم الرجل الورع آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم، وآخرون تفخر بهم هذه السَّاحة، ممَّا يطمئننا أنّ المسيرة لن تتيه، ولن تضل، وإنّي أقدِّر لكلِّ العاملين المخلصين الصادقين جهدهم، وجهادهم، وعطاءهم، وإن تعدّدت الرُّؤى والقناعات ما دام الجميعُ تحكمُهُم ضوابط الشَّرعِ والدِّينِ، ولا أعني بهذا أن نجمِّد الحوارات في محاسبة الرُّؤى والمواقف والخيارات، نعم، يجب أن تكون الحوارات هادفةً وجادّةً، وبعيدةً عن لغة الإساءة والإسقاط، وأن يتوفَّر المحاورون على كفاءات الحوار، ويجب أن لا يزعجنا النَّقد والمحاسبة، بشرط التوفّر على أخلاقيّة النقد والمحاسبة، وعلى آداب المحاورة، وإلّا تحوَّلَ الحوارُ إلى مهاترات، والنقد إلى مشاحناتٍ، والمحاسبة إلى قذفٍ وسباب، ولا أُعرِّض هنا بأحد، غير أنّ السَّاحة تزدحم بالكثير من السِّجالات التي توتِّر الأجواء والعلاقات، ولا أنسى أن أثمِّن بعضَ الحوارات المملوءة بالصِّدق والشفافيّة والصفاء، حتى لو اختلفنا معها في الفهم والقناعة…
إلّا أنّني أكرّر القول أنّ قضايا الشَّأن العام، وفيما يُفرض فيه وحدة الموقف نحتاج إلى مرجعيَّة قرارٍ لحسم الصراعاتِ والتناقضاتِ والخلافاتِ والتي غالبًا ما تخلق تشظِّياتٍ خطيرة، ونتائج مُدمِّرة.
النقطة الثالثة:
أن نقرأ الشيخ الجمري رساليًّا صُلبًا…
شخصيّته تحتضن مجموعة عناوين:
1- فهو عالمُ فقهٍ وشريعة:
وظَّف علمه في خدمة رسالته..
لا يَفهمُ هذا الموقع تشريفًا، وزيًّا يتمايز به عن النَّاس..
ولا يَفهمُ هذا الانتساب جمودًا وركودًا وخمولًا..
ولا يَفهم هذا الانتماء هروبًا، وغيابًا، وانزواءً..
إنّه يفهمُ موقع العالم قيادة..
ويَفهمُ موقع العالم رسالة..
ويَفهمُ موقع العالم عطاء..
ويَفهمُ موقع العالم جهاد..
ويَفهمُ موقع العالم حضورًا في كلِّ السّاحات..
هكذا كان الشيخ الجمري العالم الرِّسالي الذي أعطى كلَّ وجوده من أجل الإسلام، وفي خدمة أهداف الدِّين، وفي صناعة الأجيال، والدِّفاع عن قضايا النَّاس..
2- وهو خطيب منبر:
امتلك وعي المنبر الحسينيّ.. وروحانيّة المنبر الحسينيّ، وأخلاقيّة المنبر الحسينيّ، وتقوى المنبر الحسينيّ، وحركيَّة المنبر الحسينيّ..
وهكذا كان الشيخ الجمري الخطيب الرِّسالي..
3- وهو الأديب والشّاعر والكاتب:
لم يمارس الأدب تَرَفًا، واستهلاكًا..
ولم يوظِّف الشِّعر زهوًا ومفاخرةً ومباهاة..
ولم يُتاجر بالكلمة، ولم يُساوم، ولم يُداهن..
كان الأدب عنده رسالة ومسؤوليّة..
وكان الشعر دفاعًا عن الحقِّ والعقيدة والمبدأ..
وكانت الكلمة جهادًا، وصمودًا، وتضحية..
وهكذا كان الشيخ الجمري الأديب الرِّسالي، وكان الشّاعر الرِّسالي، وكان الكاتب الرِّسالي.
4- وهو المصلح الاجتماعيّ:
احتضن قضايا النّاس، وعاش همومهم، وآلامهم، كان الحاضر بينهم، المشدود إلى أفراحهم وأتراحهم، المتشدِّد في توحيد كلمتهم، وجمع شملهم..
لذا أحبّه الجميع، تفاعلوا معه، ساندوا مواقفه، تألَّموا لعذاباته، بكوا كثيرًا لفراقه..
ولا زالوا يبكونه، ولا زال حاضرًا في عقولهم، في وجدانهم، وفي كلِّ واقعهم..
5- وهو المربِّي والمعلِّم والموجِّه والداعية:
همّه أن يرى الناس في طريق الهداية والرَّشاد..
هدفه أن يربِّى الأجيال على طاعةَ الله تعالى..
رسالته الدعوة إلى الخير والصَّلاح..
منهجه نشر العلم والثقافة والمعرفة..
طموحه أن يسود الحبّ والصّفاء والإخاء..
حياتُه عطاءٌ، وجهادٌ، وتضحية..
6- وهو الناشط السِّياسي:
وما أكثر الناشطين في ساحة السِّياسة..
غير أنّه ناشطٌ من أجل الله..
ليست السَّاحة في حاجةٍ إلى ناشطين، إذا لم يكونوا نُشطاء مبدئيّين، رساليّين، ربّانيّين..
وهل أزمة الزَّمن الراهن إلّا هيمنة السِّياسة المفصولة عن الله..
وهل أزمة الواقع الحاضر إلّا هيمنة القيم التي أنتجها الإنسان بعيدًا عن رسالة السَّماء..
شيخنا الجمري كان ناشطًا سياسيًّا مبدئيًّا رساليًّا، تحمَّل كلَّ العناءاتِ، والملاحقاتِ، والمضايقاتِ، والاعتقالاتِ والسُّجون كلّ ذلك من أجل الله، وما كان يطمح إلّا في عطاء الله..
ونحن نقف عند هذا المفصل من حياة الشيخ الجمري، وعند جهاده السِّياسي الطويل، لا يسعنا إلّا أن نقول له بكلِّ مرارةٍ وألم: إنَّ المشهد السِّياسي الحاضر في هذا البلد لا زال مشهدًا مأزومًا، فالملفّات العالقة لا زالت عالقة، ملف التجنيس، ملف التمييز، ملف الفساد، ملف البطالة، وبقية الملفّات، ولا زال الوضع الأمنيّ ضاغطًَا، ولا زالت العمليّة السِّياسية محكومة لمزاجات السلطة، ولا زال البرلمان مأسورًا، ولا زال الدستور غائبًا، هذا هو المشهد السِّياسيّ: أزمات، احتقانات، إخفاقات، احباطات… والأقسى والأشدّ أنّ حراكنا السِّياسي يعيش التشظِّيات، والخلافات، والصراعات والتناقضات، فبدل أن نتخندق في خندقٍ واحد، أصبحنا خنادق، ومواقع، يُحارب بعضنا بعضًا، ويُسقط بعضنا بعضًا، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون..
وفي ختام هذا الحديث لا يسعنا إلَّا أن نذكر إخوةً لنا، وأبناءً لنا، وأحبَّة لنا، يعيشون آلام السِّجن والاعتقال، قضوا أشهرًا في أقبية التعذيب، والمعاناة، والتهديد بممارسة كلّ الأساليب اللا شرعيّة واللا قانونيّة، واللا أخلاقيّة… هكذا تحدَّثوا أمام القضاء، وهكذا تحدَّث المحامون، وهكذا تحدَّث أهالي السُّجناء، فأين دولة القانون والمؤسَّسات؟
وممَّا يؤلم كثيرًا كثيرًا أنّ السُّجون أخذت تمتلأ بالأحداث الصِّغار، وبلا أسبابٍ واضحةٍ ومبرِّرات..
إلى أين تتحرّك الأمور؟
لا شكّ إلى مزيدٍ من التعقيد، وإلى مزيدٍ من الاحتقان، وإلى مزيدٍ من المآزق السِّياسيّة والأمنيّة..
نسأل الله تعالى أن يحمي هذا الوطن وأبناء هذا الوطن من المخاطر والشُّرور، والأزمات، والصِّراعات، إنَّه نِعمَ المولى، ونِعمَ النَّصير..
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين..