حديث الجمعة 229: الخطاب الديني والشّـأن السِّياسي
الخطاب الديني والشّـأن السِّياسي:
حينما يُطلق مصطلح الخطاب الديني، قد يُراد منه (النص الديني) المتمثِّل في القرآن والسّنة وكلام المعصومين عليهم السلام، وقد يُراد منه خطاب المتصدّين للشّأن الديني من علماء وخطباء ومفكّرين ومثقّفين وعاملين إسلاميّين، كما الخطاب السّياسي هو خطاب المتصدّين للشّأن السّياسي، وكما الخطاب الحقوقي هو خطاب المتصدّين للشّأن الحقوقي…
ما نتناوله في هذه الكلمة ليس (النص الديني) وإنّما المعنى الآخر للخطاب الديني، وإذا كنّا قد فاصلنا في التعريف بين خطابٍ يتعاطى مع الشّأن الديني، وخطابٍ يتعاطى مع الشّأن السّياسي وخطابٍ يتعاطى مع الشّأن الحقوقي، فهل يعني هذا أنّه لا يجوز أن تتداخل هذه المهام، فيمارس المتصدي للشّأن الديني خطابًا سياسيًّا أو خطابًا حقوقيًّا.. ويمارس المتصدّي للشّأن السياسي خطابًا دينيًّا أو خطابًا حقوقيًّا، وهكذا المتصدّي للشّأن الحقوقي؟
النقطة الأساسُ أنّه لا يصحّ أن يمارسَ أيُّ إنسانٍ خطابًا في شأنٍ لا يملك كفاءته، فلا يصحّ أن يمارسَ مَنْ لا يملك كفاءة الدين خطابًا دينيًّا، ولا يصحّ أن يمارسَ مَنْ لا يملك كفاءة السّياسة خطابًا سياسيًّا ولا يصح أن يمارسَ مَنْ لا يملك كفاءة الحقوق خطابًا حقوقيًّا..
أمّا إذا توفّر الإنسان على كفاءة الدين والسّياسة والحقوق، جاز له أن يمارس خطابًا دينيًّا، وخطابًا سياسيًّا، وخطابًا حقوقيًّا….
لا نجد أيَّ مبرّرٍ للمفاصلة المطلقة التي يصرّ عليها البعضُ، نعم نصرُّ على أن تتوفّر الكفاءة في أيّ شأنٍ من الشؤون دينيًّا أو سياسيًّا أو حقوقيًّا أو أيّ شأنٍ آخر وإلاّ ارتبك الأمر، حينما يقتحم هذا الميدان أو ذاك من لا يملك مهارتَه وخبرتَه وكفاءته..
وهنا أنبّه إلى نقطة، حينما أتحدّث عن الشّأن السّياسي لا أتحدّث عن الهمّ السّياسي، وإلاّ فهذا الهمّ مِن حقِّ أيّ مواطنٍ مهما كان موقعه ومستواه، مِن حقّ أيّ مواطنٍ أن يعبّر عن آلامه، ومعاناته، وتطلّعاته، وحقوقه السّياسية ما دام ذلك واضحًا وميسورا لديه، ووِفق الطرق السليمة..
ولا يجوز مصادرة هذا الحقّ الذي تكفله الدساتير والقوانين..
الحديث عن الشّأن السّياسي، حديثٌ عن القراءة البصيرة للواقع، حديثٌ عن الخطاب الذي يحدّد الرّؤى، والمواقف والخيارات…
والفارق واضح بين:
أ- التعبير عن الهمّ السّياسي، وهذا حقّ مفتوحٌ لكلّ المواطنين في كلّ المواقع، وعلى كلّ المستويات..
ب- التعبير عن التوجيه السّياسي، وهذا حقّ لكلّ من يملك الكفاءة السّياسية، مع مراعاة الضوابط المشروطة…
فالمتصدّي للشّأن الديني، عالمًا، خطيبًا، مفكّرًا، مثقّفًا، عاملاً إسلاميًّا، لا يمكن أن يكون استثناءً من هذه القاعدة، فما دام هذا مواطنًا فمن حقّه أن يعبّر عن همومه السّياسية وِفق الطرق المباحة، وما دام هذا صاحب كفاءة سياسية فمن حقه أن يمارس خطابًا سياسيًّا وِفق الضوابط المشروعة، المعيار هو الكفاءة، والإخلاص للدين والوطن، والتزام الضّوابط الشرعيّة والموضوعيّة..
ماذا نعني بالضّوابط الشرعيّة؟
ما يفرضه الشّرعُ على الخطاب مضمونًا ولغةً وأسلوبًا، فلا يجوز أن يتنافى مضمونُ الخطاب مع مفاهيمِ الدين وقيمهِ وأحكامِهِ، ولا يجوز أن تتنافى لغة الخطاب، وأسلوب الخطاب مع توجيهات الدّين وإرشاداتِه وآدابِه وأخلاقِه…
وماذا نعني بالضّوابط الموضوعيّة؟
كلّ ما تفرضه قراءة الواقع الموضوعي المتحرّك، ممّا يؤثّر على الخطاب أداءً، ونجاحًا وفشلاً، وشكلاً، ولغةً، وشدةً، ولينا…
ولا يعني هذا أنّ الخطاب يجب أن يجامل الواقع، وأن يستسلم لكلّ ضغوطاته الثقافيّة والاجتماعيّة والسّياسية….
وإنّما يجب أن يضع الخطابُ الواقعَ بكلّ معطياته أمامه لتكون حركةُ الخطاب قادرة أن تحقّق أهدافها وتمارس دورها الفاعل..
وماذا عن فرض الوصاية الرسميّة على الخطاب الديني؟
إنّ الخطابَ الديني له دورُه الفاعلُ والمؤثّرُ في ترشيد الوضع السّياسي على المستوى الرّسمي، وعلى المستوى الشّعبي، فمطلوبٌ من هذا الخطاب أن يكون ناصحًا وصادقًا مع الحاكم، وناصحًا وصادقًا مع المحكومين.
وهنا تتأكّد مسؤوليّة الخطاب الدّيني في حراسةِ كلِّ الواقع العقيدي والروحي والأخلاقي والثقافي والاجتماعي والسّياسي…
وهنا تتأكّد مسؤوليّةُ الخطاب الديني في حماية الأمن والاستقرار، وبناء الوحدة والتلاحم، وإنتاج المحبّة والثّقة بين مكوّنات الوطن…
وهنا تتأكّد مسؤوليّة الخطاب الديني في التعبير عن هموم الناس، وآلامهم وقضاياهم، وحقوقهم…
فمن أجل أن يكون هذا الخطاب قادرًا على أن يمارس دوره الفاعل والمؤثّر في خدمة أهداف الدين والوطن، لا يصحّ أن يكون مرهونًا لوصاية المؤسّسات الرسميّة، لا يعني هذا أن يكون الخطاب الدّيني فوق النّظام والقانون، إلاّ أنّ هذا شيئ، وأن يكون الخطاب محكومًا للمزاجات السّياسية الرّسمية، ممّا يجعله صدًى لأوامر الأنظمة الحاكمة شيئٌ آخر…
إنّنا نؤكّد على أن استقلاليّة الخطاب لا تعني الانفلات، وتجاوز المسؤوليّات، وإسقاط الضّوابط وإنّما تعني أن يملك حرّيته في محاسبة أخطاء الواقع الرّسمي والشّعبي، وكما أنّ ارتهان الخطاب الدّيني للمزاج الرّسمي أمرٌ مضرٌّ جدًا بهذا الخطاب، فإنّ ارتهان هذا الخطاب للمزاج الشّعبي أمرٌ مضرٌّ أيضًا، يجب أن يضع الخطاب أمامه رقابة الله تعالى، ومصالح العباد والبلاد، وحماية الأمن والأمان…
وما دام الخطاب الدّيني صادقًا مع الله، ومخلصًا للعباد والبلاد، فلن يتحوّل أبدًا إلى خطاب إفسادٍ، وإضرارٍ، وفتنٍ، واحتراب….
ولا ندّعي العصمة والقداسة لهذا الخطاب…
لا عصمة ولا قداسة إلاّ لكلام الله تعالى، وكلام رسوله صلّى الله عليه وآله وكلام الأئمّة المعصومين عليهم السلام…
فليس هذا الخطاب فوق أن يحاسب أو يناقش أو ينقد، إلاّ أنّ المحاسبة والمناقشة والنّقد ليس سجالات محكومة للهوى والتعصّب، وإلى لغةٍ لا تملك معايير الحوار، وأدب الحوار..
حينما تتوفّر قدرات الحوار، وكفاءات الحوار، ولغة الحوار، ونظافة الحوار، فالقلوب مفتوحة لأيّ كلمةٍ ناقدة أو محاسبة أو رافضة أو مصحّحة…