الراحل فضل الله… ثوابته الفكرية والعقائدية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الهداة الميامين وصحبه المنتجبين…
في مرحلة تزدحم بأقسى التحديات والضغوطات والصراعات والإشكالات، وعلى كل المستويات الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية…
يأتي رحيل المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله، ليشكل منعطفاً صعباً، وصدمة قاسية، ومأزقاً أربك الكثير من الحسابات، كونه يمثل عنواناً ملأ المرحلة بكل مخاضاتها، وجدلياتها، وتأزماتها، وتناقضاتها، وتجاذباتها…
وليس ذلك في الساحة اللبنانية فحسب بل في كل الساحات العربية والإسلامية والعالمية، وليس ذلك في الداخل المذهبي فحسب، بل في كل الواقع الإسلامي والديني والإنساني.
والسؤال الذي يفرض حضوره هنا وفي هذه المرحلة – رغم غناها بمراجع وفقهاء ومفكرين وقادة – هو:
– هل شكل هذا الرحيل انتهاء تجربة فريدة امتدت أكثر من نصف قرن؟
ربما يراهن أعداء هذه التجربة، أنها مرشحة للغياب والانتهاء بغياب رمزها، وصانعها، وقائدها، وعنوانها…
لا نشك – وفي أعقاب الصدمة بغياب الرمز والعنوان – أن يحدث اهتزاز، وارتباك، على مستوى وهج التجربة، وعنفوانها، وحضورها، وإمكاناتها، وطموحاتها…
إلا أن هذا لا يعني انهيار المشروع الذي أنتجته التجربة؛ مادامت تجربة ناجحة استطاعت أن تؤصل مكونات المشروع، وأن تؤسس لحراك يملك قدرة البقاء والديمومة والاستمرار، ومادامت تجربة ناجحة أبدعت في صوغ أجيال مبدئيين رساليين تعشّقوا هذا النهج الرباني المبارك، الذائب في حب الله سبحانه، والمشدود إلى رضوانه، والمتجذر في خط الأنبياء والأولياء والأئمة الأبرار، والمجاهدين والشهداء والصالحين.
هذا النهج – وبعناية الله ورعايته – لا يمكن أن يتجمد وأن يغيب، وأن ينتهي…
وحينما نتحدث عن بقاء هذا النهج، نجد في مراجعنا العظام ملاذاً يحمي المسار، ويحصن الخطى، ويحرس الأهداف، ويُرشّد الرؤى والمواقف…
وحينما نتحدث عن بقاء هذا النهج، نجد في الرموز الواعية التي استوعبت هذا الخط، وامتلأت بقناعاته، ما يحملها أمانة الحفاظ على بقاء هذه المسيرة، واستمرارها، وديمومتها، وإصرارها، وثباتها…
وحينما نتحدث عن بقاء هذا النهج، نجد في الجماهير التي عشقت هذا الرمز الكبير، وذابت في حبه، رصيداً ضخماً يعطي لهذه المدرسة حضورها المستمر، وعطاءها الدائم، وامتدادها المتدفق…
ونجد في الأمة بكل مكوناتها وانتماءاتها الصادقة مع المبادئ والأهداف الربانية والإنسانية ما يحتضن هذا المسار، ويدافع عنه، ويدافع عن منجزاته…
وهكذا رحل المرجع الكبير، والقائد البصير، والفقيه المجدد، والمفكر المتميز، والعالم الرباني، والداعية الصادق، والرسالي المجاهد، والمربي الخبير، والسياسي القدير، والباحث والكاتب والأديب والشاعر، والإنسان الذي ذاب في حب الله تعالى، وأعطى كل حياته من أجل الله تعالى…
رحل السيد محمد حسين فضل الله تاركاً مجموعة (ثوابت) أكد عليها، وأصر أن يحافظ عليها:
الثابت الأول:الدفاع عن الإسلام وقضايا المسلمين
فمنذ بدأ مشواره في هذه الطريق – أواخر الأربعينات – كان يحمل هم الدفاع عن الإسلام وقضايا المسلمين، وقد صاغ أجيالاً من الدعاة الرساليين الذين حملوا هذا الهم الكبير…
وطالما كرّر في كلماته وخطاباته وكتاباته «أنني داعية أدافع عن الإسلام وقضايا المسلمين»، وما ادّخر شيئاً من قدراته وطاقاته وإمكاناته دون أن يستنفرها – وبشكل طوارئ دائمة – في هذا الدرب الشائك الصعب، المزدحم بمشروعات التآمر ضد الإسلام والمسلمين، وضد قضايا الأمة، وتتسع آفاقه ليحتضن هموم الإنسان والإنسانية، وهموم الشعوب والبشرية.
الثابت الثاني:حراسة خط الإمامة
كان حارساً أميناً لهذا الخط، والذي يعبر عن أصالة الانتماء إلى مفاهيم الإسلام والرسالة والقرآن، ويجسد نهج النبوة في امتدادها الروحي والفكري والقيادي…
وكان جريئاً في الجهر بولائه وانتسابه واعتقاده بهذا الخط، إلا أنه لا يفهم هذا الولاء والانتساب «نزوعاً مذهبياً ضيقاً» يشكّل تنافياً مع (المشروع التوحيدي) في حركة الأمة.
بل يفهمه «وعياً توحيدياً منفتحاً» يواجه كل الإشكالات التي تعقد حالات التلاحم الفكري والنفسي والعملي في مسيرة الأمة…
وهكذا زاوج – وبوعي وبصيرة – بين حركة الانتماء إلى خط الإمامة بكل ما يحمله من مفاهيم وأفكار وأهداف وتوجهات، وخصائص ومميزات… وحركة الانفتاح على كل المكونات المذهبية الأخرى، فيما هو نسيج الأمة المتنوع والمتعدد.
وانطلاقاً من مسئوليات الحراسة والحماية لخط الأئمة من أهل البيت عليهم السلام تصدى لكل أشكال التخلف والبدع والخرافات التي اقتحمت بعض مفاصل الواقع الفكري والعملي لدى المنتسبين مما يسيء إلى أصالة هذا الخط ونقاوته وحقّانيته، وقد وكلفه هذا التصدي الجريء ثمناً باهظاً.
الثابت الثالث: الوحدة والتقارب والتآلف
من الثوابت التي أكد عليها خطاب المرجع الكبير السيد محمد حسين فضل الله، وكان صارماً شديداً في الدعوة إلى الوحدة والتقارب، فيما عبّر عنه (بخيار المسلمين) الذي ينبغي لكل الفعاليات في العالم الإسلامي أن تتوافر على دراسته بعمق، وأن لا تكون مسألة الوحدة «مسألة خطاب للانفعال أو للحماس أو للمجاملة أو للاستهلاك الشعبي» وظل مكافحاً منافحاً مدافعاً عن هذا الخيار حتى آخر حياته، واتسع أفق الوحدة لينفتح على غير المسلمين، فالوحدة في منظوره ليست «وحدة عدوانية منغلقة تتعقد من وجود غير المسلمين في الساحة التي تتحرك فيها» بل هي وحدة منفتحة واعية «وبذلك لن تكون عملية التعايش أو التعاون أو التفاعل عملية يمكن أن تسقط أمام أي عاصفة سياسية أو أي حال إقليمية أو دولية؛ لأنها تنطلق في العمق من وعي الرسالات».
الثابت الرابع:شعار الحوار
كان رجل الحوار بامتياز، أصّل للحوار قرآنياً وإسلامياً، وحرك شعار الحوار في كل خطاباته وكتاباته، ومارس الحوار بكل كفاءة وجدارة واقتدار.
وأما أسس الحوار عنده فهي:
أولاً: أن يكون الحوار جاداً هادفاً باحثاً عن الحقيقة…
فطالما سمعناه يردد «الحقيقة بنت الحوار».
فالحوار ليس من أجل الحوار، وليس من أجل الاستهلاك وليس من أجل أن نؤكد ذواتنا، وإنما من أجل أن نؤكد «الحق».
وليس من أجل أن ننتصر، وإنما من أجل أن تنتصر «الحقيقة»، الحقيقة الدينية، الحقيقة الثقافية، الحقيقة الاجتماعية، الحقيقة السياسية…
ثانياً: أن تحكم الحوار روح المحبة والصفاء لا روح الحقد والعداء، أن نتحاور بقلوب مفتوحة لا بقلوب مغلوقة، الحوار المشحون بالكراهية يغلق القلوب والعقول وبهذا نكون قد ظلمنا الحقيقة…
ثالثاً: أن لا نلغي الآخر ونحن نحاوره…
الآخر الإنساني، الآخر الديني، الآخر المذهبي، الآخر الثقافي، الآخر الاجتماعي، الآخر السياسي…
الحوار الإلغائي التسلطي مرفوض عند سماحته… كان يستهدي دائماً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حواره مع المشركين، وهم يحملون كل الضلال، وهو صلى الله عليه وآله وسلم يحمل كل الهدى «وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» (سبأ: 24)، فالفكر هنا يحاور الفكر، وليس الذات تحاور الذات…
رابعاً: أن لا نتهم دوافع الآخر الذي نحاوره…
من حق أي طرف في الحوار أن يحاسب الرأي الآخر…
ومن حق أي طرف في الحوار أن يرفض الرأي الآخر…
مادام الأمر خاضعاً للدليل والبرهان «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» (البقرة: 111).
وليس من حق أي طرف أن يتهم دوافع الآخر وفق الظنون والشكوك والاحتمالات، إلا إذا قامت القناعات القاطعة.
– في الحديث: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأن تجد لها في الخير محملاً».
خامساً: التأكيد على نقاط الاتفاق أولاً…
هذا هو منهج القرآن «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون» (آل عمران 64).
ما نلاحظه على الحوارات المتحركة في الساحة الدينية، والمذهبية، والثقافية، والاجتماعية، والسياسية، أنها حوارات تحاول دائماً أن تحرق الأرض المشتركة، وأن تنسف القواسم الموحدة، لتبدأ بنقاط التوتر والخلاف الحاد، فيتشنج الحوار، وتتأجج الانفعالات، وتشتعل العداوات، وعندها يفشل الحوار، وتموت الحقيقة…
سادساً: أن تكون لغة الحوار نظيفة، لينة، مرنة، شفافة…
وهذا ما أكدته نصوص القرآن:
– «ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله، فيسبّوا الله عدْواً بغير علم» (الأنعام: 108).
– «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي أحسن» (العنكبوت: 46).
– «ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» (فصلت: 34).
– «فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك» (آل عمران: 159).
– «اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليّناً لعله يتذكر أو يخشى» (طه: 43 – 44)
الثابت الخامس: الموقف من الاستكبار العالمي، والكيان الصهيوني، والقضية الفلسطينية
كان يؤكد دائماً أن من ثوابته:
– مواجهة الاستكبار العالمي.
– مواجهة الكيان الصهيوني.
– القضية الفلسطينية.
كان محارباً صلباً ضد قوى الاستكبار، وضد الصهاينة الغاصبين لأرض فلسطين…
وكان داعماً لقوى المقاومة…
وظلت (فلسطين) في عقله، وقلبه، وحياته حتى آخر لحظات من حياته.
يُسأل وهو في ذروة المعاناة، والمرض قد فتك بجسمه، وفي اللحظات الأخيرة من حياته: سيّدنا هل أنت مرتاح؟
وكان جوابه: «لن أرتاح حتى تسقط إسرائيل».
الثابت السادس: خياره الدفاع عن الدولة الإسلامية
انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، وقامت الدولة، وكان خياره الانحياز إلى الثورة، وإلى الدولة، من موقع القناعة بضرورة أن ينتصر المستضعفون، وأن تقوم دولة العدل، ودافع بقوة، وواجه كل الاصطفافات المضادة…
ولكن ما كان هذا يعفيه من أن يمارس نقداً أو محاسبة، فيما هو التطبيق أو الممارسة، ومادامت التجربة ليست تجربة معصومة…
وما كان يعفيه من أن يرفض أي محاولة لاستنساخ الثورة في أي مكان آخر دونما حساب لمكونات المكان والزمان، وخصوصيات الظروف والأوضاع والمتغيرات.
الثابت السابع: أن يستمر الحراك الإسلامي الواعي في الأمة
لقد كرس حياته – منذ الخمسينات – من أجل صوغ حراك إسلامي واعٍ في الأمة، فيما يُعبّر عنه هذا الحراك من امتدادات روحية وثقافية واجتماعية وسياسية وجهادية.
وكانت مؤلفات السيد محمد حسين فضل الله الأولى:
– قضايانا على ضوء الإسلام.
– خطوات على طريق الإسلام.
– أسلوب الدعوة في القرآن.
– مفاهيم إسلامية.
– كلماته في مجلة «الأضواء».
تشكل منطلقات لبناء وإنتاج هذا الحراك الرسالي الواعي…
واستمر يغذي هذا الحراك، رغم كل المخاضات الصعبة التي واجهت الإسلام والإسلاميين، ورغم كل التحديات القاسية التي حاصرت الدعاة والمجاهدين، ورغم كل الإشكالات التي لاحقت العمل والعاملين، ورغم كل الملاحقات والاعتقالات، والتصفيات والإعدامات التي طالت السائرين في هذا الدرب.
الثابت الثامن: الحفاظ على مشروع المرجعية الشاملة
انطلق السيد محمد حسين فضل الله بمشروعه المرجعي الشامل مرتكزاً على مجموعة مكونات:
1 – الارتقاء بمستوى الكفاءات الذاتية للمرجعية، فيما يعنيه هذا الارتقاء من التوفر على عناصر تؤهل المرجعية لأن تكون في مستوى تحديات العصر وضروراته ومتغيراته…
2 – الارتقاء بمستوى أهداف المرجعية بما يتناسب وحاجات المرحلة وتحدياها وإشكالاتها.
3 – الارتقاء بمستوى الأداء المرجعي، فما عادت الهيكلية التقليدية قادرة أن تتعاطى مع الواقع بكل متغيراته ومستجداته ومتطلباته…
4 – الارتقاء بمستوى العلاقة مع الأمة… فكلما كانت الأمة حاضرة في وعي المرجعية، وفي وجدانها، وفي حركتها، كانت المرجعية حاضرة في وعي الأمة، وفي وجدانها، وفي كل حركتها.
وقد استطاع المرجع الكبير السيد محمد حسين فضل الله أن يكون المرجع المنفتح على قضايا العصر، وأن يعطي للمرجعية حضوراً روحياً وفقهياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً، وأن يحتضن الأمة في عقله، وقلبه، وحركته، الأمر الذي جعل الأمة تحتضنه في عقلها وفي قلبها، وفي كل حركتها…
ولكي نكون الأوفياء لفقيدنا الكبير، ونهجه، ومدرسته، أن نبقى حاملين أهدافه، وثوابته، ومشروعه، متمسكين بالوعي والبصيرة كما أراد لنا، باحثين عن رضا الله تعالى كنا علمنا، ناشطين في طريق الحق كما وجّهنا، مضحين من أجل المبدأ والعقيدة كما رسم لنا، شعارنا المحبة كما ربّانا، خيارنا الوحدة كما قال لنا، نهجنا الحوار كما أمرنا…
وختاماً نتضرع إلى البارئ عز وجل أن يتغمد فقيدنا الكبير بوافر الرحمة والرضوان، وأن يحشره في زمرة الأنبياء والأولياء، والأصفياء، والشهداء، والأبرار والأخيار والمتقين والصالحين… وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.