حديث الجمعة221: في ذكرى استشهاد السيد الصدر (2) – كيف نستثمر موسم الزّهراء عليها السّلام?
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين…
في ذكرى استشهاد السيد الصدر (2)
تصدّى الشهيد الصدر لنظام الطاغية صدّام، وكان على يقين أنّ هذا التصدّي سوف يكلّفه حياته ودمه، إلاّ أنّ الإسلام المهدّد من قِبَل النظام المستبد أكبر من دم الشهيد الصدر وحياته… ومن غير الشهيد الصدر أجدر لهذه التضحية، لقد اقتدى بجدّه الإمام الحسين عليه السّلام الذي أعطى دمه ثمنًا للإسلام، وقال «إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظّالمين إلاّ برما».
هكذا الشهيد السّيد الصدر وجد أنّ العبث بقِيَم الإسلام وانتهاك حرمات الدّين، وامتهان إرادة الشّعب، ومصادرة الحرّيات، وشراسة الاعتقالات والقتل وسفك الدماء، هذه الأمور التي عبّرت عنها سياسة النظام الحاكم في العراق، وجدها الشهيد الصدر مبررات موضوعيّة فرضت عليه أن يُمارس مسؤوليّته الشرعيّة في التصدّي…
وكانت خطواته الأولى في هذا التصدّي هي خطوات سلميّة…
فكانت المطالب التي أعلنها في حركته السّياسيّة:
أولاً: إطلاق سراح المعتقلين السّياسيين وإيقاف الاعتقالات العشوائيّة الكيفيّة والتعسفيّة.
فقد امتلأت سجون العراق بسجناء الرأي، حيث أعلنوا رفضهم لسياسة القمع والظّلم والاستبداد ومصادرة الحقوق…
فكان من أهمّ مطالب الشهيد الصّدر إيقاف هذا النزق السّياسي الذي مارسه النظام الصدّامي الظّالم في ملاحقة كلّ الأصوات المطالبة بالحقوق.
ثانيًا: إطلاق حرّية الشعائر الدينيّة واحترامها، وعدم التدخّل في شؤون الحوزات العلمية، وفي شؤون المساجد والحسينيات…
المفارقة الكبيرة التي تمارسها أنظمة السّياسة المستبدّة، أنّ هذه الأنظمة تصرّ على رفض أن يتدخل الدّين ومراجع الدّين في الشّأن السّياسي لأنّ ذلك خارج اختصاصهم وصلاحيّاتهم ووظائفهم…
وفي الوقت ذاته تُعطي هذه الأنظمة السّياسيّة لنفسها مطلق الحقّ للتدخّل في الشّأن الدينيّ، بل وفرض هيمنتها على كلّ الواقع الدينيّ…
وإذا كان حكّام المسلمين في التاريخ قد أعطوا لأنفسهم «الصبغة الدينيّة» من خلال عنوان «الخلافة وأمرة المؤمنين»، ممّا جعلهم يفرضون سلطتهم على كلّ الواقع الدينيّ والسّياسيّ، رغم أنّ ارتداء هذه الصبغة كان مزوّرًا…
أقول إذا كان أولئك الحكّام من خلال ارتداء الصبغة الدينيّة المزوّرة أعطوا لأنفسهم الحقّ في الهيمنة الدينيّة، فإنّ حكّام المسلمين في هذا العصر لا يزعمون لأنفسهم أنّهم خلفاء المسلمين وأمراء المؤمنين حتى يسمحوا لأنفسهم أن يفرضوا هيمنتهم على الدّين… بل بلغ الأمر في بعض بلدان المسلمين أن يُعيّن الحكّام أئمّة الدّين…
إذا كنتم تقولون أنّ الدّين لا شأن له في السّياسة وأنّ علماء الدّين لا شأن لهم في قضايا السّياسة، فلماذا تُعطون للسّياسة الحقّ في التدخّل في شأن الدّين، ولماذا تُعطون لحكّام السّياسة الحقّ في أن يتدخّلوا في قضايا الدّين…
إنّها مفارقة واضحة…
صحيحٌ نحن لا نؤمن بهذه المفاصلة بين الدّين والسّياسة بل ونؤمن بأنّ دين الله له حقّ التوجّه لكلّ مفاصل الحياة، ولكلّ مسارات الواقع، ولا يستثنى من ذلك المفصل السّياسي والمسار السّياسي…
إلاّ أنّنا نُخاطب هؤلاء وِفْق منطقهم في ضرورة المفاصلة بين الدّين والسّياسة…
فإذا كنتم تريدون للدّين أن يبقى بعيدًا عن مواقع السّياسة، فاجعلوا السّياسة بعيدًا عن مواقع الدّين…
نظام الحكم الصدامي فرض هيمنته على كلّ الواقع الدّينيّ:
– حارب الشعائر الدينيّة وخاصّة الشعائر الحسينيّة.. شدّد الحصار على مجالس العزاء، وعلى مواكب العزاء.
وأول خطوة مارسها النظام في مواجهة الشعائر الحسينيّة والمواكب الحسينيّة، التصدّي لمواكب الطلبة…
مواكب الطلبة نموذج لمواكب حسينيّة متطوّرة تشكّلت سنة 1966، وهي تضمّ طلاب الجامعات من مختلف مناطق العراق، حيث ينظمّون في موكبٍ مهيبٍ يتحرّك في شوارع يوم العاشر من محرّم، ويتقدّم المواكب أساتذة الجامعات، كما أنّ المرجعيّة الدينيّة – وعلى رأسها مرجعيّة السيد محسن الحكيم- كانت ترسل من يمثّلها في هذا الموكب، ويُلقي كلمة المرجعيّة…
ولمّا جاء البعثيّون إلى الحكم سنة 1968م بدأوا يخطّطون للتخلّص من هذه الظّاهرة «ظاهرة مواكب الجامعة» حيث تمثّل نموذجًا متقدّمًا واعيًا أنتج حراكًا دينيًّا وسياسيًّا يشكّل أمرًا مقلقًا للنظام الحاكم.. فإذن لا بدّ من إنهاء هذه الظاهرة، وهكذا بدأوا يُخطّطون ولم يمض عام واحد على تسلمهم السّلطة حتى شدّدوا الخناق على مواكب الطلبة وجمّدوها…
وهكذا استمر النظام في محاصرة الشعائر الحسينيّة…
وكان هناك إصرار من قبل المؤمنين على استمرار هذه الشعائر، وقدّموا في سبيل ذلك تضحيات ودماء.
وفي سنة 1977م أقدم النظام الصدّامي على منع «مواكب المشي إلى كربلاء في الأربعين»، فتحدّت الجماهير المنع، وزحفت إلى كربلاء في مسيراتٍ حاشدة، صارخة بشعار التحدّي «لو قطّعوا أرجلنا واليدين نأتيك زحفًا سيدي يا حسين».
وتحوّلت المسيرات إلى انتفاضةٍ جماهيريّة أرعبت الطّغاة..
وقد أكّد السيد الصدر للجماهير على ضرورة استمرار مواكب الإمام الحسين، وكان يقول: «إنّ هذه المواكب شوكة في عيون حكّام الجور، إنّ هذه المواكب، وهذه الشعائر هي التي زرعت في قلوب الأجيال حبّ الحسين عليه السّلام فلا بدّ من بذل كلّ الجهود للإبقاء عليها، رغم حاجة بعضها إلى التعديل والتهذيب…».
فالنظام الحاكم أخذ يضغط على الوضع الدينيّ بكلّ مكوّناته، المرجعيّة، الحوزات، العلماء، الخطباء، المساجد، الحسينيّات، المواكب، العاملون الإسلاميّون، كلّ المنتمين إلى الدين والتديّن…
وكانوا يصنّفون الناس إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى: الواعون، وهؤلاء يجب القضاء عليهم بكلّ الوسائل الممكنة من مطاردات واعتقالات، وتصفيات وإعدامات.
الفئة الثانية: النفعيّون، وهؤلاء يجب شراؤهم بكلّ الوسائل الممكنة، من أموالٍ، ومناصب، وإغراءات جنسيّة…
الفئة الثالثة: الجامدون، وهؤلاء لا يضرون فلا مانع من تركهم.. بل وربما شكّلوا قوى ضاغطة على الواعين والناشطين…
وكان السيد الصدر يتابع هذه المخطّطات المعادية للدّين، ويفكّر، ويخطّط للتصدّي لها ومواجهتها…
نتابع الحديث إنّ شاء الله تعالى…
كيف نستثمر موسم الزّهراء عليها السّلام:
رغم أنّ المناسبة تمثل مناسبة حزنٍ ومأساة، إلاّ أنّ هذا لا يعني أن يبقى الموسم موسم دموع فقط، وإن كانت الدموع هي تعبيرٌ عن معايشة وجدانيّة صادقة مع موضوعٍ له عمقه ودلالاته في العمق التاريخيّ المصبوغ بالمآسي والآلام…
أيّها الأحبّة: أن تبقى الزّهراء حاضرة في وجدان الأجيال مأساة وحزنًا ودموعًا، يفرض أن تَعْبُر الزّهراء عليها السّلام من منطقة الوجدان إلى منطقة الوعي والعقل والبصيرة، لتكون زادًا إيمانيًّا وفكريًّا وثقافيًّا لوعي الأجيال، هناك من يريد لموسم الزّهراء أن يكون مفرّغًا من الوعي والمفاهيم والرؤى التي تبصِّر الأجيال بالموقع الرساليّ الكبير لسيّدة النساء الزّهراء عليها السّلام، بدعوى أنّ الموسم موسم حزنٍ وأسى ومصيبة، صحيحٌ هذا إلاّ أنّ مأساة أهل البيت هي مأساة الإسلام مأساة الدّين، وليس مأساة ذاتيّة شخصانيّة..
أرادوا لنا أن نحيي ماساتهم، أن نحيي أمرهم، وماذا يعني «أحيوا أمرنا»، أن نحيي الإسلام، مفاهيم الإسلام، قِيَم الإسلام، مبادئ الإسلام، أحكام الإسلام، أنّهم ضحّوا وأعطوا دماءهم وتحمّلوا كلّ الظلم والألم والعناء من أجل ماذا؟ من أجل أن يبقى الدّين، ويبقى القرآن، وتبقى الرسالة.
فمن أجل أن نستثمر موسم الزّهراء عليها السّلام استثمارًا حقيقيًّا وجادًّا وهادفًا يجب:
أولاً: أن نملك فهمًا واعيًا لهذا الموسم، يُعطيه مضمونه الكبير في حركة الدّفاع عن الدّين وقِيَمه ومفاهيمه، وحركة التضحية من أجل الحقّ…
ثانيًا: أن نؤصّل الزّهراء في وجدان الأجيال، وخاصّة أجيال المرأة، ليس من خلال المأساة فقط، وإن كان لهذا قيمته الكبيرة وإنّما من خلال أن تتحوّل الزّهراء نموذجًا أعلى تتعشّقه الأجيال، وتذوب فيه، وتنصهر معه.
ثالثًا: أن نعطي للزّهراء حضورها الفاعل في حركة أجيالنا، وبالأخصّ أجيالنا النسائيّة، فمطلوبٌ من هذه الأجيال أن تقتدي بالزّهراء وتترسّم خطى الزّهراء، إيمانًا، وروحانيّة، وعبادة، ووعيًا، وأخلاقًا، وعفافًا، وطهرًا، وتقوى، وورعًا، وجهادًا، وصمودًا، وتضحية…
فإذا استطاع الموسم أن يكرِّس هذه المعاني الكبيرة في واقعنا، وفي حركتنا، فنحن جديرون بهذا الموسم، وجديرون بالانتماء إلى الزّهراء…
وهنا نطالب خطباء المنبر أن يوظِّفوا هذا الموسم التوظيف الحقيقيّ الذي يُعطي له رسالته الكبيرة، ومضمونه الهادف، فما أحوجنا ونحن في زحمة التحدّيات والمشروعات المعادية للدّين وقِيَمه ومفاهيمه إلى خطاب الزّهراء، إلى نهج الزّهراء، إلى عطاء الزّهراء، إلى جهاد الزّهراء.