حديث الجمعة216: الفرضيّة الثالثة في تفسير ثورة الإمام الحسين (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وأفضل الصّلوات على سيّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الطيّبين الطاهرين…
الفرضيّة الثالثة في تفسير ثورة الإمام الحسين (ع):
تقول هذه الفرضيّة أنّ الثورة الحسينيّة كانت تهدف إلى إنتاج الروح الثوريّة في الأمّة في مواجهة الأنظمة الظالمة، وفعلًا تحرّكت ثوراتٌ كثيرةٌ ضدّ أنظمة الحكم الأمويّة والعباسيّة، واستمرّت ثورة الحسين تُشكِّل الملهم للثورات المعارِضة لأنظمة الحكم المستبدّة في كلّ عصر…
تعليقنا على هذه الفرضية:
أولًا: لا نشكّ أنّ ثورة الإمام الحسين لها دورها الكبير في إنتاج الروح الثوريّة ضدّ الأنظمة الظّالمة والمستبدّة عبر التاريخ.
ولا نشكّ كذلك في أنّ الثورة ضدّ الظّلم السّياسيّ هو الخيار حينما يتوّفر أمران:
الأمر الأول:
أن تفشل كلّ الأساليب الأخرى لإيقاف الظّلم والاستبداد، وإيجاد النظام العادل.
الأمر الثاني:
أن توجد كلّ الشروط الموضوعيّة لنجاح الثورة.
فإذا توفّر الأمران كانت الثورة هي الخيار المتعيّن.
أمّا من الذي يُحدِّد هذين الأمرين، وبالتالي هو الذي يُحدّد خيار الثورة؟
قد يُقال: إنّ أصحاب الخبرة في الشّأن السّياسيّ هم الذين يُحدّدون ذلك، فمتى ما توفّرت القناعة لدى هؤلاء بتوفّر الأمرين، كان لهم الحقّ في اتخاذ قرار الثورة والمواجهة المسلّحة، ويكون هذا تكليفهم الشرعيّ.
إلّا أنّ ترك الأمر هكذا قد يُؤدّي إلى الفوضى والارتباك…
ثمّ إنّ رأيًا من هذا النوع في حاجةٍ إلى سندٍ شرعيّ، وإلّا كان رأيًا ساقطًا.
والرأي الآخر – وهو الأقرب – أنّ القيادة الشرعيّة هي التي تُحدّد ذلك..
وهذا ما أكّدته النصوص الشرعيّة في إرجاع الأمور إلى الفقهاء العدول المؤهّلين في عصر الغيبة…
• «مجارى الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأُمناء على حلاله وحرامه».
• «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله».
هذا الحديث هو توقيعٌ من الإمام المهديّ عجّل الله فرجه..
وهذا التوقيع توجيهٌ عامٌّ للأمّة بالرجوع إلى رواة الحديث، والمقصود بهم هنا: «الفقهاء».
والمقصود بالحوادث الواقعة: جميع ما يحدث في المجتمع من قضايا تحتاج إلى موقفٍ شرعيٍّ، سواء كانت هذه القضايا فرديّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة…
هذا الموضوع بَحَثه الفقهاء في كتب الاستدلال، وليس المقام محلًا لتفصيل ذلك…
ثانيًا: الأئمّة من أهل البيت عليهم السّلام بعد الإمام الحسين (ع) لم يتبنّوا «خيار الثورة» لعدم توفّر الشروط، ومن أجل أن يتفرّغوا لبناء القواعد الشعبيّة المؤمنة.
إلّا أنّهم في الوقت ذاته ساندوا بعض الثورات المُخلصة، لكي تبقى إرادة التصدّي والرفض في داخل الأمّة، رغم قناعة الأئمّة بأنّ هذه الثورات لن تُسقط الأنظمة.
يقول الشهيد الصدر وهو يتحدّث عن دور الأئمّة (ع): إنّهم كانوا يرون ضرورة التوافر على عملين:
«أحدهما: العمل من أجل بناء القواعد الشعبيّة الواعية التي تُهيِّئ أرضيّةً صالحةً لتسلّم السّلطة..
والآخر: تحريك ضمير الأمّة وإرادتها، والاحتفاظ بالضمير الإسلاميّ والإرادة الإسلاميّة بدرجةٍ من الحياة والصلابة تُحصّن الأمّة ضدّ التنازل المُطلق عن شخصيّتها وكرامتها للحكّام المنحرفين..
والعمل الأول هو الذي مارسه الأئمّة بأنفسهم..
والعمل الثاني هو الذي مارسه ثائرون علويّون، كانوا يحاولون بتضحياتهم الباسلة أن يُحافظوا على الضمير الإسلاميّ، والإرادة الإسلاميّة، وكان الأئمّة يُساندون المخلصين منهم» انتهى كلام الشهيد الصدر.
فالأئمّة (ع) – بعد الإمام الحسين – لم يقودوا ثورةً مسلّحةً ضدّ الأنظمة، إلّا أنّهم أعطوا الشرعيّة لبعض الثورات…
من هنا يمكن أن نقسّم الثورات التي انطلقت في أيام الأئمّة عليهم السلام إلى صنفين:
الصنف الأول: ثورات توفّرت على الشرعيّة من قِبَل الأئمّة (ع).
الصنف الثاني: ثورات لم تتوّفر على الشرعيّة من قِبَل الأئمّة عليهم السّلام.
من أمثلة الصنف الأول:
1- ثورة زيد بن عليّ بن الحسين التي تحرّكت سنة 122هـ ضدّ الحكم الأمويّ…
وممّا يُؤكّد شرعيّة هذه الثورة ما صدر من تصريحات الأئمّة (ع):
• قال الإمام الصّادق (ع): «لا تقولوا خرج يزيد، فإنّ زيدًا كان عالمًا وكان صدوقًا، ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى الرّضا من آل محمدٍ صلّى الله عليه وآله، ولو ظهر [ظفر] لوفى بما دعا إليه».
• وقال عليه السّلام لمّا استشهد زيد: «مضى والله زيد عمّي وأصحابه شهداء…».
• وقال الإمام الرّضا عليه السّلام وهو يتحدّث عن زيد: «إنّه كان من علماء آل محمدٍ صلّى الله عليه وآله، غضب لله فجاهد أعداءه حتى قُتل في سبيله».
2- ثورة الحسين بن عليّ بن الحسن – صاحب فخ – التي تحرّكت سنة 169 ضدّ الحكم العباسيّ..
وممّا يؤكّد شرعيّة هذه الثورة ما صدر من تصريحات الإمام الكاظم عليه السّلام:
• قوله للحسين حينما عزم الخروج والثورة: «إنّك مقتولٌ، فأحِدّ الضِراب، فإنّ القوم فُسّاقٌ يُظهرون إيمانًا ويُضمرون نفاقًا وشركًا، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعند الله أحتسبكم من عصبة».
• وقوله (ع) لما سمع بمقتل الحسين صاحب فخ: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، مضى والله مسلمًا صالحًا، صوّامًا قوّامًا، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله».
ومن أمثلة الصنف الثاني:
1- ثورة محمد بن عبدالله بن الحسن (ذو النفس الزكيّة) ثار محمد بن عبد الله ضدّ الحكم العباسيّ أيام المنصور، وأخذ يدعو النّاس لنفسه…
هذه الثورة لم تحضَ بالشرعيّة من قِبَل الأئمَة (ع)…
2- ثورة زيد بن موسى بن جعفر والمسمى بـ «زيد النّار» لكثرة ما أحرق بالبصرة من دور العباسيّين وأتباعهم.
ثار على الحكم العباسيّ إلّا أنّ ثورته لم تحضَ بالشرعيّة من قِبَل الأئمّة (ع).
قد يقال: ما دام كلا الصنفين من الثورات يهدفان إلى مواجهة النّظام الظّالم الجائر المنحرف، فلماذا تعدّد موقف الأئمّة من هذه الثورات؟
لكي تتوفّر الثورة على الشرعيّة تحتاج إلى:
أ- شرعيّة الهدف..
ب- شرعيّة المنطلق..
ج- شرعيّة الوسيلة..
فبعض الثورات تهدف إلى مواجهة النّظام الظّالم وهذا هدفٌ مشروعٌ إلّا أنّها تريد أنّ تُقيم نظامًا بديلّا لا يملك الشرعيّة..
محمد بن عبد الله ثار على النّظام العباسيّ الظّالم، غير أنّه كان يريد أن يُنصِّب نفسه إمامًا وحاكمًا…
أمّا زيد بن عليّ، والحسين صاحب فخٍ ثار كلٌّ منهما ضدّ نظامٍ ظالمٍ، ولكن لم يهدف أحدهما أن يُنصِّب نفسه إمامًا وحاكمًا، وإنّما أرادا أن يُعيدا الحقّ إلى موقعه الشرعيّ…
وقد يكون الهدف مشروعًا تمامًا، إلّا أنّ الثورة لا تملك مُنطقًا شرعيًّا من خلال إمضاء القيادة الشرعيّة لهذا التحرّك.
صحيح أنّ الظّروف الضاغطة ما كانت تسمح للأئمّة أن يُعبِّروا عن مواقفهم الصريحة في إعطاء الشرعيّة لتلك الثورات، إلّا أنّ قادة الثورات يمكن أن يتوفّروا على الشرعيّة إذا كانوا مؤمنين بها بأساليبهم الخاصّة…
وأحيانًا تنطلق ثورات وأهدافها نظيفة، إلّا أنّ النتائج تكون كارثيّة من دون تحقيق أهدافٍ تفوق أهميّةً تلك النتائج..
بعد مقتل الإمام الحسين (ع) ثار أهل المدينة ضّد يزيد بن معاوية…
إلّا أنّ هذه الثورة قُمِعت بوحشيّةٍ متناهية..
وماذا كانت النتيجة؟
– استبيحت مدينة رسول الله صلّى الله عليه وآله…
قال المؤرِّخون: ولدت ألف امرأةٍ من أهل المدينة بعد وقعة الحرّة من غير زوجٍ…
ونُصب كرسيٌّ لمسلم بن عقبة قائد الجيش الأمويّ الذي استباح المدينة وجيئ بالأسرى من أهل المدينة، فكان يطلب إلى كلّ واحدٍ منهم أن يُبايع ويقول:
إنّني عبدٌ مملوكٌ ليزيد بن معاوية، يتحكّم فيّ وفي دمي وفي مالي وفي أهلي ما يشاء، وكلُّ من امتنع يُقتل..
طبعًا لم يكن لثورة أهل المدينة أيّ علاقةٍ بالإمام زين العابدين الموجود في تلك المرحلة…
ومن المعروف أنّ الأئمّة (ع) كانوا حريصين كلّ الحرص أن لا يتّخذ الحرمان (مكّة والمدينة) مركزًا للثورة حتى لا تُهتك حرمة الحرمين…
لذلك رفض الإمام الحسين أن يبقى في مكة أو في المدينة حتى لا تهتك حرمة الحرمين الشريفين….
وخلاصة القول:
أنّ الفرضيّة الثالثة تتّجه إلى أنّ هدف الثورة الحسينيّة هو إيقاظ الحسّ الثّوري، لتنطلق ثورات تواجه أنظمة الظّلم وتُسقطها…
فهل تحقّق هذا الهدف؟
انطلقت ثوراتٌ كما ذكرنا إلّا أنّها لم تُسقط حكومات الأمويّين والعباسيّين…
وإذا انتهى الأمر نتيجة مجموعة عوامل إلى سقوط الحكم الأمويّ، فقد قام مقامه حكمٌ أكثر سوءًا وظلمًا وقمعًا ودمويّةً…
وإذا صحّ أن نعتبر إيقاظ الحسّ الثوريّ أحد معطيات الثورة الحسينيّة، وهو معطًى مهمٌّ وكبيرٌ… إلّا أنّه لا يمكن أن يكون الهدف المركزيّ لثورة الإمام الحسين عليه السّلام…
نُتابع الحديث إنّ شاء الله تعالى..
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين