حديث الجمعة215: الفرضيّة الثانية في تفسير هدف الثورة الحسينيّة – وقفة مع شعار المجلس العلمائي لهذا العام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وأفضل الصّلوات على سيّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الطيّبين الطّاهرين…
الفرضيّة الثانية في تفسير هدف الثورة الحسينيّة:
تقدّمت الفرضيّة الأولى في تفسير هدف الثورة الحسينيّة، وقد حدّدت الهدف في إسقاط النظام وتسلّم السلطة..
ونعرض هنا إلى الفرضيّة الثانية، وهذه الفرضيّة تتّفق مع الفرضيّة الأولى في كون الهدف إسقاط النظام الحاكم…
إلّا أنّ الفرضيّتين تختلفان في تحديد الوسيلة:
– الفرضيّة الأولى ترى أنّ إسقاط النظام يتمّ حسب تخطيط الإمام الحسين (ع) من خلال الانتصار العسكريّ وقد ناقشنا هذه الفرضيّة وأثبتنا خطأها..
– وأمّا الفرضيّة الثانية فترى أنّ الإمام الحسين (ع) قد خطّط لإسقاط النظام من خلال الشهادة لا من خلال الانتصار العسكريّ…
وتعتمد هذه الفرضيّة ما صدر عن الإمام الحسين (ع) من كلماتٍ تتحدّث عن الشهادة…
أمّا كيف تؤدّي الشهادة إلى إسقاط النظام الحاكم الذي يتربّع على كرسيّه يزيد بن معاوية؟
فتقول الفرضيّة الثانية:
إنّ شهادةً في مستوى شهادة الإمام الحسين (ع) سوف تؤدّي إلى نتائج مهمّة جدًا:
النتيجة الأولى: حدوث غليان شعبيّ سوف يقود إلى (انتفاضةٍ شعبيّة).
النتيجة الثانية: من الممكن أن تنطلق ثورات ضدّ النظام الحاكم.
النتيجة الثالثة: من الممكن أن يحدث تمرّدٌ عسكريّ.
النتيجة الرابعة: وإذا ما تمّ إسقاط النظام فلن تتوجّه الأمّة إلّا إلى الأئمّة من أهل البيت (ع) كما حدث أن توجّهت الأمّة إلى أمير المؤمنين (ع) حينما حدثت الثورة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان.
هذه خلاصة الفرضيّة الثانية…
ولنا حول هذه الفرضيّة مجموعة ملاحظات:
أولًا: لم يحدث شيئٌ من تلك النتائج بالمستوى الذي يؤدّي إلى إسقاط نظام الحكم.
– حدث سخطٌ محدودٌ في وسط الأمّة، إلّا أنّه لم يتحوّل إلى غليانٍ شعبيٍّ أو انتفاضةٍ شعبيّة…
وكان للإعلام الأمويّ المضادّ لثورة الإمام الحسين دوره الفاعل في امتصاص الغضب الجماهيريّ وتشويه سمعة الثورة…
– كما أنّه لم تحدث انتفاضاتٌ وثوراتٌ في مستوى تهديد النظام وإسقاطه… ولم يحدث أيّ تمرّدٍ في وحدات الجيش.
ثانيًا: إذا اعتمدنا هذه الفرضيّة، فإنّنا بذلك نعتبر حسابات وتقديرات الإمام الحسين (ع) خاطئة، ولا يمكن أن نتّهم هذه الحسابات والتقديرات كون الإمام معصومًا، وكونه يملك رؤية بصيرة بكلّ النتائج والمحتملات.
ثالثًا: ولو قُدِّر أنّ الشهادة استطاعت أن تُسقط نظام يزيد بن معاوية من خلال انتفاضةٍ شعبيّة أو من خلال ثوراتٍ غاضبة، أو من خلال تمرّدٍ عسكريّ فهل يكون الوضع مهيّئًا للأئمّة من أهل البيت (ع) لكي يتسلّموا السّلطة؟
أ- الأمر ليس كذلك، فإنّ الأئمة من أهل البيت (ع) لا يفكّرون في تسلّم السلطة إلّا إذا توفّرت الشروط لإقامة حكم الله.
– أن تتوفّر القوة العسكريّة القادرة على حماية النظام.
– أن تتوفّر الكوادر المؤهلة لملء حاجات النظام.
– أن تتوفّر القاعدة الشعبيّة المساندة.
– أن تتوفّر الظروف الموضوعيّة لنجاح التحرّك.
ب- وهذا ما أكّدته مواقف الأئمّة (ع) من دعوات الاستنهاض والثورة:
– الدعوات العفويّة السّاذجة (كما تقدّم في موقف الإمام الصّادق من دعوة سدير الصيرفي).
– الدعوات المريبة والمشبوهة (كما تقدّم في موقف الإمام الصّادق (ع) من دعوة أبي مسلم الخراساني ودعوة أبي سلمة الخلال).
وأضيف هنا هذه القصّة:
جاء رجلٌ من أهل خراسان إلى الإمام الصّادق (ع) وعرض عليه أن يتبنّى حركة الثوّار الخراسانيّين….
فأجّل جوابه، ثمّ أمره أن يدخل التنور فرفض..
وجاء أبو بصير فأمره الإمام بذلك فسارع إلى الامتثال..
فالتفت الإمام إلى الخراساني وسأله: كم له من أمثال أبي بصير…
وكان هذا هو الرّد العمليّ من الإمام (ع)..
جاء في كتاب (دور الأئمّة في الحياة الإسلاميّة) للشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه: «إنّ الأئمّة (ع) لم يكونوا يرون الظهور بالسيف والانتصار المسلّح آنيًا كافيًا لإقامة دعائم الحكم الصالح على يد الإمام، إنّ إقامة هذا الحكم وترسيخه لا يتوقّف في نظرهم على مجرّد تهيئة حملة عسكريّة، بل يتوقّف قبل ذلك على إعداد جيشٍ عقائديٍّ يؤمن بالإمام وعصمته إيمانًا مطلقًا ويعي أهدافه الكبيرة، ويدعم تخطيطه في مجال الحكم، ويحرس ما يحقّقه للأمّة من مكاسب».
وقفة مع شعار المجلس العلمائي لهذا العام:
الشعار الذي طرحه المجلس العلمائيّ لهذا العام هو «معًا في مواجهة الغزو اللا أخلاقيّ»، إنّ طرح هذا الشعار ليس للترّف الثقافيّ، وليس للاستهلاك السّياسيّ، وليس من أجل المزايدات…
الغزو اللا أخلاقي مشروع يهدّد هويتنا الإيمانيّة، ويهدّد قيمنا الدينيّة، ويهدّد أخلاقنا ونظافتنا وكلّ إنسانيّتنا…
ولم يعد هذا المشروع مجرّد انحرافات أفراد، ولم يعد مجرّد فسادٍ هنا أو هناك، شابٌ يمارس الفسق، فتاةٌ تمارس الفجور، شخصٌ يمارس النزق، إنسانٌ يمارس الطيش، المشروع أخطر وأخطر..
والمشروع أكبر من ذلك بكثير…
إنّه عمل مؤسّسي مدعومٌ من قِبَل قوى كبرى في العالم وتتبنّى تنفيذه حكوماتٌ وأنظمة سياسيّة في بلدان المسلمين…
لنأخذ مثال «الدّعارة»…
الدّعارة في مجتمعات المسلمين تُمارَس بإشراف الأنظمة الحاكمة في الفنادق وفي صالات اللهو وفي أماكن مخصّصة…
وأسواق الدّعارة رائجة، وتجارة الجنس مفضوحة، والتباهي في جلب المومِسات والعاهرات وبائعات الهوى أمرٌ واضحٌ ومكشوف…
والتسابق قائمٌ على قدمٍ وساق للحصول على موقعٍ متقدّمٍ في قائمة الدول التي تُمارس الدّعارة…
ولا ندري صحّة ما نُشر أنّ البحرين تحتلّ درجةً متقدّمةً في هذه القائمة…
نتمنّى أن لا يكون ما نُشر صحيحًا، فإنّه يُسيئ إلى سمعة هذا البلد العريق بدينه وقِيَمه…
إلّا إنّنا لم نسمع ردًّا رسميًّا على ما نُشر…
الأمر الذي لا يُشَكّ فيه أنّ للدّعارة حضورًا واضحًا في هذا البلد…
وهذا ما يتحدّث عنه الداني والقاصي…
فلا ندري إلى متى ستبقى هذه اللوثة تُلاحق سمعة بلدنا الغالي…
السلطة تتحمّل كلّ المسؤوليّة في حماية سمعة هذا البلد، والدفاع عن شرف هذا البلد..
إنّ مجرّد عمليّاتٍ صغيرةٍ تتحرّك هنا أو هناك في ملاحقة بعض أوكار الدّعارة كما يُعلن عن ذلك بين الحين والآخر أمرٌ لا يُمثّل موقفًا جادًّا من قِبَل السّلطة…
المؤسّسة التشريعيّة مطلوبٌ منها أن تُسِنّ قوانين في مواجهة الدّعارة والعهر والفساد والعبث بالقِيَم والأخلاق.. وهذا ما لم يصدر حتى الآن.
والمؤسّسة التنفيذيّة «السّلطة الحاكمة» مطلوبٌ منها أن تُلاحق بقوّةٍ كلّ أشكال الدّعارة والعهر والفساد والعبث بالقِيَم والأخلاق… وهذا ما لم يصدر حتى الآن.
والمؤسّسة القضائيّة مطلوبٌ منها أن تُمارس ردعًا لهذا النزق والطيش، وهذا التحدّي الصارخ للدين والقِيَم والأخلاق وذلك من خلال أحكامٍ وعقوباتٍ رادعة… وهذا ما لم يصدر حتى الآن.
وحينما نتحدّث عن مسؤوليّة الدولة بكلّ مؤسّساتها في مواجهة هذا الخطر المدمّر، لا يعني أنّ النّاس لا يتحمّلون أيّ مسؤوليّة، إنّها مسؤوليّة الجميع.
العلماء والخطباء مسؤولون بدرجةٍ كبيرةٍ أن يتصدّوا لهذا الغزو اللا أخلاقيّ المُرعب والمُدمّر، من خلال خطب المساجد والحسينيّات والمناسبات، ومن خلال كلّ الوسائل المشروعة القادرة على التصدّي والمواجهة…
إنّ مسؤوليّة علماء الدّين وخطباء المنابر هو حماية الدّين والقِيَم والأخلاق، وذلك:
– بممارسة التحصين الإيمانيّ والروحيّ والأخلاقيّ للمجتمع من خلال الخطب والمحاضرات والدروس والكتابات والمؤتمرات، وإنشاء المؤسّسات…
– وبممارسة التصدّي لكلّ الانحرافات والمفاسد وأشكال الغزو اللا أخلاقي التي أصبحت تُهدّد أوضاع مجتمعاتنا الإسلاميّة.
ويتحمّل المسؤوليّة كلّ الدّعاة والمبلِّغين والمثقَّفين والأساتذة والمدرِّسين والمربِّين ممّن آمنوا بالدّين وقِيَم الدّين، وآمنوا بالإسلام ومبادئ الإسلام، وآمنوا بالقرآن وأهداف القرآن.
ويتحمّل المسؤوليّة كلّ الآباء والأمّهات في حماية الأبناء والبنات من هذا الغزو الفاسق والمدّ الطائش، والطوفان المدمِّر…
ويتحمّل المسؤوليّة كلّ إنسانٍ قادرٍ أن يقول الكلمة وأنّ يتصدّى، وأن يواجهه الانحراف والفساد والعبث بالقِيَم والأخلاق…
هذا ما أكّده شعار المجلس العلمائيّ «معًا في مواجهة الغزو اللا أخلاقيّ» انطلاقًا من المسؤوليّة الشرعيّة، حسبما جاء في نصوص القرآن والسنّة في توجيهاتها، حينما تحدّثت عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
• «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» [التوبه: 71]
• «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ» [المائدة: 78 – 79]
• جاء في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «كيف بكم إذا فسق شبابكم وفسدت نساؤكم وتركتم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؟
قالوا: أيكون ذلك يا رسول الله صلى الله عليه وآله؟
قال صلى الله عليه وآله: نعم وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟
قالوا: أيكون ذلك؟
قال صلّى الله عليه وآله: نعم وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا».
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين..