حديث الجمعة 214: هل حققّت الثورة الحسينيّة هدفها؟ –
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الطيّبين الطاهرين…
هل حققّت الثورة الحسينيّة هدفها؟
سؤالٌ كبيرٌ وخطير، ويترشّح عن هذا السؤال سؤالٌ آخر:
• ما هدف الثورة الحسينيّة؟
في الإجابة عن هذين السؤالين طُرحت عدّة آراء:
الرأي الأول:
كان الإمام الحسين عليه السلام يهدف من خلال ثورته:
أ- إسقاط نظام الحكم القائم الذي يمثّله يزيد بن معاوية، كونه نظامًا ظالمًا جائرًا منحرفًا عن نهج الإسلام.
ب- واستبداله بنظامٍ عادلٍ يطبّق حكم الله، بقيادة الإمام الحسين عليه السلام.
إلاّ أنّ الأمور لم تتحرّك في الاتّجاه الذي خطّط له الإمام الحسين (ع) فحدث ما حدث في كربلاء..
لنا حول هذا الرأي عدّة ملاحظات:
الملاحظة الأولى:
لا شكّ أنّ قيادة الأمّة سياسيًّا حقٌّ مشروع للأئمّة (ع) وِفْق النصوص الإسلاميّة الثابتة والتي أكّدت إمامة أهل البيت (ع) فكريًّا وروحيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا…
ومتى توفّرت الظروف الملائمة لتسلم الحكم وقيادة الأمة سياسيًا فلا يمكن أن يتخلّى الأئمة (ع) عن ممارسة هذه المسؤولية…
الملاحظة الثانية:
إنّ تحرّك الأئمة (ع) من أجل تسلّم الحكم في حاجةٍ إلى توفّر مجموعة شروط، من أهمّها:
الشرط الأول:
توفّر القوّة الضاربة (القوة العسكريّة) القادرة على إسقاط النظام الفاسد القائم، وعلى حماية النظام الجديد الصالح…
الشرط الثاني:
توفّر الكوادر المؤهّلة كمًّا ونوعًا من أجل ملء كلّ الفراغات في بنية النظام السّياسي ومؤسّسات السلطة والدولة…
الشرط الثالث:
القاعدة الإيمانيّة الجماهيريّة القادرة على حماية النظام الإسلاميّ، وصون أهدافه، وتجسيد طروحاته.
الشرط الرابع:
الظروف الموضوعيّة الملائمة لنجاح التحرّك السّياسيّ من أجل إقامة الحكم الإسلاميّ..
الملاحظة الثالثة:
لم تكن هذه الشروط متوفّرة في عصر الإمام الحسين (ع) وهو عليه السلام إلى جانب رؤيته المعصومة، يملك قراءة سياسيّة بصيرة لكلّ الأوضاع والظروف المتحرّكة في عصره..
فليس صحيحًا أن نفترض أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يهدف من خلال تحرّكه وثورته إسقاط نظام الحكم، وتسلّم السلطة في ظلّ غياب الشروط والمناخات التي توفّر له النجاح في هذا التحرّك.
أمّا دعوى أنّ الأمور لم تتحرّك في الاتجاه الذي خطّط له الإمام الحسين (ع) فحدث ما حدث في كربلاء، فدعوى لا يُمكن قبولها، حتى أنّ الآلاف الرسائل التي وردت، وإن اعتمدها الإمام الحسين (ع) وثائق للاحتجاج والإدانة، إلاّ أنّها ما كانت تشكّل رقمًا مهمًّا في إنتاج الحركة الحسينيّة، فالإمام الحسين (ع) على بصيرةٍ تامّة بكلّ الواقع السّياسيّ في ظروفه الموضوعيّة، ومتغيّراته، وحساباته، ولم تكن الأمور والأحداث قد فاجأت الإمام الحسين (ع).
فلا يمكن أن يُجازف الإمام الحسين (ع) بثورةٍ هدفها النصر العسكريّ وإسقاط نظام الحكم وتسلّم السلطة وهو يعلم مسبقًا أنّ هذا الهدف لن يتحقّق.
ووِفْق هذا الهدف يجب أن نحكم على الثورة بالفشل وفي هذا اتّهام لرؤية الإمام الحسين (ع) وتقديراته للظّروف والأوضاع المتحرّكة في زمانه.
الملاحظة الرابعة:
هل يمكن أن تنطلق ثورة لإسقاط نظام حكمٍ قائمٍ ومسيطرٍ ومهيمن بعددٍ لا يتجاوز السبعين أو المائة أو المائة والخمسين… وبأعدادٍ من النساء والأطفال…
الملاحظة الخامسة:
الإخبارات الغيبيّة التي يمتلكها الإمام الحسين (ع) والتي تسلّمها عن طريق جدّه الأعظم صلّى الله عليه وآله تؤكّد أنّ مصيره «الشهادة».
ثمّ هل يمكن أن نفهم ثورةً انطلقت من أجل تسلّم السلطة يكون بيانها الأول «خُطّ الموتُ على وِلْد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخِير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النّواويس وكربلاء…»
وفي كتابه إلى بني هاشم قال الإمام الحسين (ع):
«بسم الله الرّحمن الرّحيم، من الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلى بني هاشم أمّا بعد: فإنّه من لحق بي منكم استَشْهَد، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح والسّلام».
هل يمكن لقائد ثورةٍ تطمح إلى أن تحقّق نصرًا عسكريًّا وأن تتسلّم سلطةً يتحدّث مع أنصاره وأتباعه وجيشه بأنّ النهاية لهذا التحرّك الشهادة والموت والقتل…
نخلُص إلى القول:
بأنّ الإمام الحسين (ع) ما كان يهدف في ثورته إلى نصرٍ عسكريّ في معركةٍ غير متكافئة عددًا وعدّة، وما كان يهدف إلى تسلّم سلطة في ظلّ غياب كلّ الشّروط التي تحقّق ذلك.
ولعلّ هذا ما يفسِّر امتناع الأئمّة (ع) من التحرّك في اتجاه هذا الهدف، بسبب عدم توفّر الشروط…
كان الأئمّة (ع) يرفضون حالات الاستنهاض السّياسيّ العسكريّ ذات الطابع العفوي الساذج أو المشبوه أحيانًا..
نذكر هناك بعض الشواهد:
الشاهد الأول:
كتب أبو مسلم الخراساني إلى الإمام الصادق (ع) كتابًا جاء فيه: «إنّي أظهرت الكلمة ودعوت النّاس عن موالاة بني أميّة إلى موالاة أهل البيت، فإن رغبت فلا مزيد عليك».
فأجابه الإمام الصادق (ع) بكتابٍ جاء فيه: «ما أنت من رجالي ولا الزّمان زماني».
الشاهد الثاني:
بعث أبو سلمة الخلال رسولاً إلى الإمام الصّادق (ع) ومعه كتاب يذكر فيه استعداده للدّعوة والتخلّي عن بني العبّاس…
فكان جواب الإمام الصادق (ع): «ما أنا وأبو سلمة، وأبو سلمة شيعةٌ لغيري».
قال رسول أبي سلمة: إنّي رسولٌ فتقرأ الكتاب وتجيبه..
فدعا أبو عبدالله (ع) بسراجٍ، ثمّ أخذ كتاب أبي سلمة فوضعه على السراج حتّى أحترق..
وقال للرسول: «عرّف صاحبك بما رأيت».
الشاهد الثالث:
في حوارٍ دار بين الإمام الصّادق (ع) وأحد أصحابه وهو سدير الصيرفي:
– قال سدير للإمام الصّادق (ع): والله ما يسعك القعود..
– قال الإمام الصّادق (ع): ولِمَ يا سدير؟
– قال سدير: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك..
– قال الإمام (ع): وكم عسى أن يكونوا؟
– قال سدير: مائة ألف..
– قال الإمام (ع): مائة ألف؟!
– قال سدير: نعم ومائتي ألف…
– قال الإمام (ع): مائتي ألف؟!
– قال سدير: نعم ونصف الدنيا..
– قال سدير: فسكت الإمام (ع) عنّي…
– قال – وذهبنا معًا إلى ينبع، فقال لي الإمام وهو ينظر إلى قطيعٍ من الجداء: «والله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود»
– قال سدير: فعددتها فإذا هي سبعة عشر..
هذه الشواهد تضعنا أمام نقاطٍ مهمّة:
النقطة الأولى:
إنّ القيادة الشرعيّة هي صاحبة القرار في تحديد الموقف للأمّة (الجهاد، التصدّي المسلّح، التحرّك السلمي، الصمت…)
قد يقال:
إنّ الشواهد المطروحة تتحدّث عن قيادةٍ معصومةٍ فمن الطبيعي أن تكون صاحبة القرار..
هذا الكلام صحيح، إلاّ أنّ القيادة المعصومة قد حدّدت للأمّة – في عصر الغيبة – قيادة نائبة هي «قيادة الفقهاء العدول المؤهّلين».
النقطة الثانية:
إنّ حركة الحوار الذي دار بين الإمام الصّادق (ع) وأحد أصحابه وهو سدير الصيرفي (أحد أصحابه الثّقاة) يكشف عن مستوى الشفافيّة والانفتاح عند الإمام الصّادق حيث استمع بكلّ هدوءٍ إلى رؤية سدير، وإن كانت هذه خاطئة في نظر الإمام (ع).
وإذا كان هذا موقف القيادة المعصومة في الاستماع إلى وجهات النظر الأخرى في مسألة بالغة الخطورة، فمن الطبيعيّ أن تكون القيادات غير المعصومة في أمسّ الحاجة إلى المشاورات والحوارات مع أصحاب الكفاءات والقدرات والخبرات وخاصّة فيما يتّصل بالشأن السّياسيّ..
ويبقى القرار للقيادة الشرعية التي تملك:
(1) الرؤية الفقهيّة المتخصّصة..
(2) الرؤية الموضوعيّة القادرة على قراءة الواقع السّياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ…
(3) التقوى والورع والاستقامة..
(4) الكفاءة القياديّة..
النقطة الثالثة:
إنّ خطابات الاستنهاض الثوريّة يمكن أن تصنّف إلى:
1- خطاباتٍ واعية بصيرة صادقة.
2- خطابات عفويّة ساذجة..
3- خطابات مريبة ومشبوهة..