كلمة العلاّمة السيّد عبد الله الغريفي في افتتاح الجلسة الختامية لمؤتمر عاشوراء الرابع
كلمة العلاّمة السيّد عبد الله الغريفي
في افتتاح الجلسة الختامية لمؤتمر عاشوراء الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلوات على سيّد الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الهداة الميامين، وبعد..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أيّها الأخوة الأطايب، أرحّب بكم أجمل ترحيب وأنتم تتابعون معنا هذا الملتقى الإيمانيّ في ليلته الثالثة وفي جلسته الختاميّة، فلكم منّا خالص الشكر والتقدير، ولكم من الله العليّ القدير عظيم الأجر، وجزيل العطاء وهو الربُّ الكريم المنّان. نسأله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه ومقبولًا لديه ومشمولًا بألطافه.
أستميح المشاركين عذرًا وأنا أزاحم الوقت المخصّص لأوراقهم والتي بذلوا في إعدادها جهدًا علميًّا مشكورًا، إلّا أنّها بعض أسطرٍ نفتتح بها هذا اللقاء، ولا تتّسع كلمة افتتاحٍ إلّا إلى وقفةٍ عاجلةٍ تُثمِّن هذا الجهد الطيّب، وهذا الحضور الوفيّ لمؤتمر عاشوراء، وتحاول أن تلامس عنوان المؤتمر ملامسةً خفيفة، وقد أغنى المشاركون والمداخلون العنوان بحثًا ومعالجةً وتفصيلًا.
في غاية الأهميّة والضرورة أن يتشكّل ملتقىً يعالج الشأن العاشورائيّ، كون هذا الشأن قد تأصّل في الوجدان الشيعيّ، وفي العقل الشيعيّ، وفي التاريخ الشيعيّ، وفي الحاضر الشيعيّ، وفي المستقبل الشيعيّ.
إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ عاشوراء ملكٌ خاصٌ للشيعة، رغم أنّها صبغت كلّ وجودهم منذ ظهيرة العاشر من المحرّم سنة إحدى وستين للهجرة وحتى التاريخ المعاصر.
وبمقدار نجاح أو فشل الأداء العاشورائيّ يتحدّد النجاح والفشل على عدّة مستوياتٍ تشارك في صوغ وإنتاج الواقع الشيعيّ خطابًا وحركةً وأهدافًا وطموحات.
وكم هي الإساءة كبيرةٌ وخطيرةٌ إلى هذا الواقع حينما يُعرض موسم عاشوراء وخاصةً عبر الوسائل المفتوحة أمام العالم عرضًا يدفع إلى الازدراء والتوهين والاحتقار.
وممّا يُؤسف له أنّ مجموعةً من الممارسات تراكمت من خلال مزاجٍ شعبيّ، وجد فرصته حينما غاب الترشيد الهادف، وحينما غابت الكلمة الجريئة في مواجهة إملاءات الشارع ومزاجاته، الأمر الذي حوّل هذه الإملاءات والمزاجات إلى «حالاتٍ مقدّسة» يحرم المساس بها أو التساؤل عن مشروعيّتها.
إنّ صمتًا طويلًا وتحت «ذرائع» متعدّدة قد فرض واقعًا مثقلًا باختراقاتٍ أنتجتها ذهنيّات عاميّة، وربما بدوافع مخلصة لقضيّة عاشوراء، وبرغبة للتعبير عن مشاعر الحبّ والولاء إلّا أنّ هذه المشاعر والتي قد تكون أدوات التعبير عنها خاطئةً وغير مشروعة لا يصحّ أبدًا أن تتحوّل إلى «شعائر» هذا العنوان الذي يحمل دلالته الكبيرة جدًا في المنظور الدينيّ، وله خصوصيّاته الشرعيّة والتي جعلت من «الشعائر» معالم طريقٍ ثابتةٍ لا تتغيّر في خطّ الله تعالى.
وفي زحمة هذا الصمت كانت هناك وقفاتٌ جريئةٌ وصريحةٌ لفقهاء قالوا كلمتهم في ترشيد الواقع العاشورائيّ، وتحمّلوا الكثير من العناء في مواجهة انفعالات العوام ومزاجاتهم، وأكرّر أنّ هذه الانفعالات والمزاجات ربّما تنطلق من إخلاصٍ لقضيّة عاشوراء، إلّا أنّها في حاجةٍ إلى ضبطٍ وترشيد.
قد يُقال: إنّ التصدّي لممارساتٍ قد تجذّرت في الواقع العاشورائيّ يُنتج – يعني هذا التصدّي – أحد أمرين:
الأمر الأول: أن يضع الممارسات العاشورائيّة جملةً وتفصيلًا في معرض الشكّ والريبة ممّا يقلّل من حماس الجماهير وتفاعلها في التعاطي مع المراسم العاشورائيّة.
الأمر الثاني: أن يُكرِّس الممارسات الخاطئة من خلال ردّات فعل المتحمّسين لها، والمدافعين عنها، والمؤمنين بمشروعيّتها.
ونلاحظ على هذا الكلام:
أوّلًا: المطلوب هو إنتاج حماسٍ عاشورائيّ يعتمد أصالة الرؤية، وشرعيّة الموقف، وفي الكثير من ممارسات عاشوراء ما يملك هذه الأصالة، وهذه الشرعيّة، فلا خوفَ على المسار العاشورائيّ من عمليّة النقد والمحاسبة الهادفة إلى تنقية الممارسات العاشورائيّة من الزوائد والشوائب وهي التي تُعرِّض الحماس الأصيل إلى التداعي والانهيار، فلا داعي للخوف على المراسيم العاشورائيّة وقد حافظت على وجودها عبر تاريخٍ طويلٍ من المواجهات والمصادمات والتحدّيات والتي كلّفت أتباع هذا الخط أثمانًا باهضة من أرواح ودماء ومشانق وزنزانات.
ثانيًا: إنّ غياب النقد والمحاسبة هو الذي كرّس الممارسات الخاطئة، وجذّرها في الواقع العاشورائيّ – كما قلنا – ومهما يكون الإصرار على بقاء تلك الممارسات قويًّا ومتشدّدًا فإنّ وجود رؤية أخرى رافضة تتحرّك وتُحاور وتنتقد يُؤسِّس لحراكٍ يُصحّح ويُغيّر، متى ما اعتمد نهجًا علميَّا، وخطابًا حكيمًا، ولغةً نظيفة.
أيّها الأحبّة: إنّ مهمّة هذا الملتقى صعبة جدًا، فنتمنّى أن تكون المعالجات المطروحة، والقرارات الصادرة في مستوى هذه المهمّة الصعبة.
وإنّ عنوان هذا المؤتمر من أعقد العناوين وأشدِّها حساسية، فالموكب الحسينيّ يُشكِّل أحد أبرز المراسم العاشورائيّة، فنجاحاته أو إخفاقاته تنعكس على مجمل الموسم العاشورائيّ.
وهنا سؤالٌ يجب أن يُطرح:
كيف نقيِّم [أو نقوِّم] نجاحات الموكب الحسينيّ أو إخفاقاته؟
– كثافة المشاركين والمشاهدين؟
– فوران العواطف والمشاعر؟
– سخونة الردّات والشعارات؟
كلّ هذا له دلالاته الكبيرة، إلّا أنّه ليس معيارًا للتقويم.
هناك معياران أساسان لنجاح الموكب الحسينيّ:
المعيار الأوّل: مستوى التعبير عن أهداف عاشوراء.
المعيار الثاني: مستوى التجسيد لأهداف عاشوراء.
ولكي نمارس تطبيقًا لهذين المعيارين، نضع أمامنا مكوّنات الموكب الحسينيّ:
المكوّن الأوّل: خطاب الموكب الحسينيّ (الردّات/ القصائد/ الشعارات/ اللافتات):
فنجاح الخطاب أن يكون في مستوى أهداف عاشوراء، وعيًا، صدقًا، وأصالةً، وقدرةً على التجدّد والمعاصرة.
وهنا نؤكّد على ضرورة أن يبقى خطاب الموكب في ردّاته وقصائده، وشعاراته، ولافتاته يحمل عنوان (الحسين) وإن قارب قضايا العصر وأحداثه وحاجاته.
المكوّن الثاني: شكل الموكب الحسينيّ (شكل الأداء/ شكل الممارسات):
وهنا لا نشترط شكلًا محدّدًا للأداء وللممارسات، فالشكل يتجدّد ويتطوّر حسب الزّمان والمكان. نعم يجب أن يكون الشكل معبِّرًا عن أهداف عاشوراء، وملتزمًا بضوابط الشرع، وفي ضوء هذا وُجد في مراسيم الموكب الحسينيّ: القديم والجديد، الأصيل والدخيل، الواعي والساذج …
المكوّن الثالث: جمهور الموكب الحسينيّ (الجمهور المشارك):
ونجاح الموكب يفرض أن يكون جمهوره في مستوى أهداف عاشوراء وعيًا، وانصهارًا، وتطبيقًا، ورساليّة…
المكونّ الرابع: أجواء الموكب (ما يتحرّك أثناء الموكب من أوضاع وسلوكيّات):
فهذه الأجواء يجب أن تُحافظ على قدسيّة الموكب الحسينيّ ورسالته وأهدافه، فالاختلاط المحرّم، وظهور شبّانٍ وشاباتٍ بأشكالٍ تتنافى مع الدين والقيم، وصدور ممارساتٍ شاذّة، وحدوث خلافاتٍ وصراعاتٍ وتجاذبات، كلّ ذلك يخلق أجواء لا تنسجم مع أهداف عاشوراء.
وهنا نؤكّد على أهميّة وضرورة وجود جهاز رقابةٍ لحماية الأجواء العاشورائيّة من كلّ الاختراقات المنافيّة، وهذا ما تُمارسه في العاصمة هيئة تنظيم الموكب الحسينيّ والتي تشكّلت منذ زمنٍ طويل، ومارست دورًا فاعلًا في الحفاظ على الأجواء العاشورائيّة، وتصدّت لكلِّ الممارسات الضارّة بقداسة الموكب الحسينيّ. وهذه الهيئة لا زالت في حاجةٍ إلى رفدٍ ودعمٍ ومساندةٍ من قِبل العلماء، والقائمين على شؤون المواكب، ومن كلّ القادرين على الإسناد والدعم، وهي كذلك في حاجةٍ إلى كوادر عاملة تنضمّ إلى هذا التشكّل المبارك والذي يُجسّد أهمّ أهداف عاشوراء، ويحمل بصدقٍ، وإخلاصٍ رسالة الحسين، وجهاد الحسين.
وفي الختام نُنبّه إلى مسألتين مهمّتين:
المسألة الأولى: دور العلماء في نجاح الموكب الحسينيّ:
ويتجسّد هذا الدور من خلال التوجيه الفكريّ والثقافيّ والروحيّ والأخلاقيّ والسلوكيّ والرساليّ لكلِّ مكوّنات الموكب الحسينيّ، ويتجسّد كذلك من خلال الحضور الفاعل في مواكب العزاء، وفي مجمل قضايا عاشوراء.
إن تصدّي المجلس الإسلامي العلمائيّ لإقامة هذا المؤتمر، والإصرار على استمراره يُعبِّر عن حضورٍ علمائيٍّ متميّز في قضايا عاشوراء.
كما أنّ التفاعل الجماهيريّ مع هذا المؤتمر ومع جميع فعّاليات المجلس العلمائيّ ليحمل دلالةً صريحةً على ولاء الجماهير والتفاهها حول هذا المجلس ورموزه، فلن تسمح الجماهير لأحدٍ أن ينال من هذا الوجود المبارك الذي تأسّس انطلاقًا من وظيفةٍ شرعيّةٍ مُلزِمةٍ لا يجوز التفريط فيها، ولا يجوز أن تكون مرهونةً لقرارات سياسيّة، هذه الوظيفة هي الدعوة إلى الله، وتبليغ أحكامه، والحفاظ على قيم الدين، والدفاع عن مبادئه والأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر.
إنّ متغيّرات العصر وتطوّراته وحاجاته وضروراته وتحدّياته تفرض أن يتشكّل «عمل علمائيّ جمعي» لأداء الوظيفة الشرعيّة المُلزِمة.. فلا يمكن لأيّ رغبةٍ سياسيّةٍ أن تُعطّل هذه الوظيفة.
المسألة الثانية: دور القائمين على مواكب العزاء:
فدورهم كبيرٌ في إنجاح المواكب وفي إخفاقها، فمتى ما توفّر هؤلاء القائمون على وعيٍ بأهداف عاشوراء، وعلى انصهارٍ صادقٍ مع رسالة عاشوراء، وعلى التزامٍ وتجسيدٍ لهذه الرسالة والأهداف، وعلى مؤهّلاتِ إشرافٍ وإدارةٍ، فإنّ هذا يُساهم بدرجةٍ كبيرةٍ في الدّفع بحركة المواكب في اتّجاه النجاح، ومتى فقد هؤلاء القائمون تلك الشروط والمؤهّلات كان الدفع في اتجاه الفشل والإخفاق…
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.