في ذكرى وفاة الإمام الصادق(ع): كيف واجه الإمام الصادق (ع)التيارات المنجرفة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على سيدنا ونبينا وحبيبنا وقائدنا محمد وآله الهداة الميامين المعصومين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرت بنا في هذا الأسبوع ذكرى وفاة الإمام الصادق (عليه السلام ) ولنا مع هذه المناسبة وقفة تأمل نحاول من خلالها أن نستوحي شيئاً من حياة هذا الإنسان العظيم ومن عطاءاته الكبيرة..
وما أحوجنا في هذه المرحلة من تاريخ مسيرتنا ونحن نواجه تحديات الثقافة، وتحديات الأخلاق، وتحديات السياسة، ونحن نواجه محاولات التغريب والعلمنة والإجهاض والاحتواء والمصادرة، ونحن نواجه سياسات التزييف والتحريف والمسخ والتشويه، ما أحوجنا في هذه المرحلة أن نسترجع ذاكرتنا مع رجالنا العظام الذين صنعوا “أصالتنا الفكرية والروحية” وصنعوا “مجدنا العلمي والحضاري” وصنعوا “انتصارنا الإيماني والعقيدي”.
من الحماقةِ والسفهِ لأمةٍ تملك “محمداً صلى الله عليه وآله” وتملك “علياً والحسين والباقر والصادق” وتملك “القائم من آل محمد صلى الله عليه وآله”.
من الحماقةِ والسفه لهذه الأمة أن تستعير نماذجها من الغرب والشرق، وأن تستوحي قيمها ومناهجها من ثقافاتٍ مستوردةٍ دخيلة، وإنه لمن الحماقةِ والسفه لأمةٍ تملك “خديجة والزهراء وزينب” أن تستجدي “قدواتٍ زائفةٍ” صاغتها تفاهات هذا العصر الموبوء.
• إلى متى نبقى نلهث ونلهث وراء السراب الكاذب، ونحن نملك أغنى الينابيع؟
• إلى متى نبقى نركض ونركض وراء العناوين الخادعة، ونحن نملك أغنى “الحقائق والأفكار”؟
• إلى متى نبقى نصفق ونصفق لكل المساومين والمتاجرين والمدجلين ونحن نملك أصدق النماذج وأنظف العاملين؟
هناك من يريد لنا أن نبقى بلا هوية، بلا أصالة، بلا عنوان، بلا موقف..
إلا هوية الاستلاب، وإلا أصالة التغريب، وإلا عنوان الإفلاس، وإلا موقف الهزيمة والاستجداء .
أيها الأحبة في الله..
لقد آن لنا أن نفتح عيوننا جيداً، وأن نصحوَ من رقدتنا الطويلة، وأن نتنبه إلى “مخططات الاحتواء” المتحركة حولنا، وأن نملك البصيرة والرؤية والوعي ونحن نتعاطى مع كل “المشروعات الثقافية والاجتماعية والسياسية”
وما أكثر هذه المشروعات في الساحة المعاصرة، وما أكثر الغبش والتعتيم والتضليل في هذه المشروعات،وما أكثر المخدوعين بها..
من هنا نحن في حاجة الى “بصيرة إيمانية” و”رؤية واعية” حتى لا يتيه بنا المسار وتشطّ بنا الخطى، ونكون من الأخسرين “أعمالاً الذين ضلَّ سعيُهُم في الحياةِ الدنيا وهُمْ يَحْسَبوُنَ أنهَّمُ يُحسِنُونَ صُنْعاً” الكهف 103-104
وحتى لا نكون من المخدوعين بثقافات الشيطان، ونظريات الشيطان مهما تبرقعت به من الأقنعةِ الكاذبة، والواجهات الزائفة، وسوف يتبرأ منا الشيطان غداً حينما نوقف جميعاً بين يدي الله الواحد القهار “وقال الشيطانُ لمّا قُضِيَ الأَمرُ إنَّ الله وعدكم وَعْدَ الحقِ وَوَعتدتُكُمْ فأخْلَفْْتُكُم وما كان لي عليكُمْ من سُلْطانٍ إلاَّ أنْ دَعَوْتُكم فاستجبتم لي، فلا تَلوُمُوني ولوُمُوا أنفسَكُم، ما أنا بمُصْرِخِكُمْ وما أنتم بمُصْرِخِيَّ، إنيَّ كفرتُ بما أشركتمونِ من قَبلُ، إنَّ الظالمين لهم عذابٌ أليم” ابراهيم 22
هكذا يتبرأ الشيطان من مسؤولية الغواية، ويحمّل الإنسان نتائج الضلال فعلينا – أيها الأحبة – أن نحذر ونحذر حتى لا نقع في حبائل الشيطان، وحبائل الشيطان كثيرة ومتنوعة، فقد تكون هذه الحبائل عناوين ثقافية، وعناوين اجتماعية، وعناوين اقتصادية، وعناوين سياسية، وربّما كانت عناوين دينية،الشيطان قادر أن يتلبس بكل العناوين…
مسئوليتنا في هذا العصر أن نقف الف مرة ومرة ونحن نواجه العناوين الكثيرة في الساحة الثقافية، والساحة الاجتماعية، والساحة السياسية، وفي الساحة الدينية، ربما تروّج لهذه العناوين وسائلُ إعلامٍ وأدواتُ ثقافةٍ، ومناهجُ تربيةٍ، وبرامجُ اقتصادٍ، ومؤسساتُ مجتمع..
فمن الضروري جداً أن يكون للإنسان المؤمن الملتزم موقف واضح وصريح من كل “الصياغات” الثقافية والاجتماعية والسياسية المطروحة في الساحة والتي قد تشكِّل “اختراقات” خطيرة تهدّد البنية الإيمانية للأمة…
وفي هذا السياق يمكن أن نستفيد أحد الدروس الكبيرة من وحي “ذكرى الإمام الصادق عليه السلام”.
أحد الأدوار الكبير التي مارسها الإمام الصادق عليه السلام، ومارسها الأئمة من أهل البيت صلوات الله عليهم هو “التصدّي للتيارات الفكرية الطارئة التي تشكِّل خطرا على الإسلام”.
ويمكن أن نستعين بأمثلة لهذه التيارات التي تشكل خطرا على العقيدة وعلى الشريعة …
1. تيارات الإلحاد والزندقة…
دخل أبو شاكر الديصاني – وهو أحد الزنادقة – على الإمام الصادق (ع) وقال: يا جعفر بن محمد دلني على معبودي….
فقال له الإمام الصادق (ع): أجلس، فإذا غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها فقال له الإمام الصادق (ع): ناولني يا غلام البيضة، فناوله إياها، فقال الإمام الصادق (ع): “يا ديصاني هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد دقيق، تحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة، وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها، لا يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها، ولا يدخل إليها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها، لا يدرى للذكر خلقت أو للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس أترى لها مدبرا”.
فأطرق الديصاني ملياً ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه وأنا تائب مما كنت فيه (الطبرسي: الاحتجاج 2: 71).
2. التصدي لظاهرة الغلو…
جاء في أحاديث الأئمة عليهم السلام:
“الغلاة كفار، والمفوضة مشركون، من جالسهم أو خالطهم أو آكلهم أو شاربهم بشطر كلمة خرج من ولاية الله عز وجل، وولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وولايتنا أهل البيت”.
وانطلاقاً من هذا الموقف الرافض لظاهرة الغلو فقد عبر فقهاء الشيعة عن حالة البراءة والتكفير للغلاة…
قال الشيخ المفيد – من كبار فقهاء الشيعة -:
“والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام إلى الألوهية والنبوة ووضعوهم من الفضل في الدين والدنيا ما تجاوزوا فيه الحد، وخرجوا عن القصد، وهم ضلاّل كفار حكم فيهم أمير المؤمنين عليه السلام بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمة عليهم السلام عليهم بالاكفار والخروج عن الإسلام” (المفيد : تصحيح الاعتقاد ص 238)
ورغم هذا الموقف الواضح عند فقهاء الشيعة من الغلو والغلاة، فلا زال بعض المهوشين والمتعصبين ضد الشيعة، من يتهم الشيعة بالغلو والتطرف ومن دون تمييز بين (الشيعة الإمامية) وبعض الفرق المنسوبة إلى الشيعة، والشيعة يتبرأون منها.
3. التصدي لتيار النصب والعداء لأهل البيت (ع):
في مقابل تيار الغلو برز تيار (النصب والعداء والبغض لأهل البيت) وكلا التيارين يشكلان حالة الانحراف عن العقيدة الأصيلة…
وكما تصدى الأئمة (ع) لتيار الغلو فقد تصدوا أيضا لتيار النصب والبغض، ومارس الأئمة (ع) عليهم السلام دورهم في نشر أحاديث الرسول التي تؤكد على حب أهل البيت، وتحذر من بغضهم ونصب العداوة لهم.
ومن هذه الأحاديث:
– عن النبي صلى الله عليه وآله قال:
” من مات على حب آل محمد مات شهيدا
ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له
ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا…
ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان
ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير
ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها….
ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة
ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة
ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة
ألا ومن مات بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله
ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا
ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة”.
ذكر هذا الحديث عدد من علماء السنة في كتبهم:
الزمخشري في الكشاف 3 : 403
الشبلنجي في نور الأبصار 114
الخوارزمي في المناقب 73
الرازي في التفسير الكبير 27 : 165
4. التصدي لتيار الوضّاعين:
الذين دسوا الكثير من الأحاديث ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وآله وإلى الأئمة من أهل البيت عليهم السلام…
وكان لهذا الوضع والتزوير مجموعة دوافع
– دوافع سياسية
وقد اعتمد معاوية “كادرا” من الوضّاع من أجل تحقيق أغراضه السياسية…
وفي هذا السياق تأتي الأحاديث الموضوعة في مدح معاوية.
روى ابن حجر في تطهير الجنان واللسان (ص 17)
عن النبي صلى الله عليه [وآله] أنه قال:”صاحب سري معاوية بن ابي سفيان”
وجاء في مسند أحمد بن حنبل (4 : 127) أن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم دعا لمعاوية فقال:
“اللهم علّم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب”
– وهناك دوافع مذهبية
– وهناك دوافع شخصية (الرغبة في الحصول على الأموال / والرغبة في التزلف إلى البلاطات الحاكمة).
دخل أبو البختري وهب بن وهب قاضي بغداد على هارون الرشيد وهارون يطير في الحمام فقال: هل تحفظ في هذا شيئا؟ فقال: نعم حدثني هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله كان يطير الحمام…
– وهناك دوافع دينية (الوضع للترغيب والترهيب).
روي أن رجلاً من الزهاد وضع أحاديث في فضل القرآن وسوره فقيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: رأيت الناس قد زهدوا في القرآن فأحببت أن أرغّبهم فيه، فقيل له: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)، فقال: ما كذبت عليه وإنما كذبت له…
5. التصدي للمصادر التشريعية الدخيلة:
ومن أمثلة ذلك: محاربة ظاهرة القياس في الدين التي تبناها أبو حنيفة…
قال الإمام الصادق (ع) لأبي حنيفة:
يا أبا حنيفة بلغني أنك تقيس!
فقال: نعم
قال عليه السلام: “لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال (خلقتني من نار وخلقته من طين).
وقال الإمام الصادق (ع) في حوار مع أبي حنيفة:
“أنظر في قياسك إن كنت مقيسا،أيما أعظم عند الله القتل أو الزنا؟
فقال أبو حنيفة: بل القتل
قال عليه السلام: فكيف رضي في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟
ثم قال له: الصلاة أفضل أم الصيام؟
قال أبو حنيفة: بل الصلاة أفضل
قال عليه السلام: فيجب على قياسك قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام وقد أوجب الله تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة.
ثم قال له: البول أقذر أم المني؟
قال أبو حنيفة: البول أقذر
قال عليه السلام: يجب على قياسك الغسل من البول دون المني وقد أوجب الله الغسل من المني دون البول….”
من خلال هذه الاستشهادات يجب أن نتعلم أحد الدروس الكبيرة من حياة الإمام الصادق وحياة الأئمة عليهم السلام، هذا الدرس هو “ضرورة التصدي لكل الظواهر التي تشكل خطرا على العقيدة، وعلى الدين، وقيم الدين”.
وما أكثر هذه الظواهر في هذا العصر على كل المستويات الفكرية والروحية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية…
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الهدى وأن يجنبنا الزيغ والضلال…
هذه المحاضرة تم إلقائها في 6/6/2003