حديث الجمعة193: التهيئة لمرحلة الإمام المهديّ – ومن النماذج التي أعدّها الأئمّة لتلك المرحلة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصّلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة الميامين..
التهيئة لمرحلة الإمام المهديّ:
في سياق التهيئة لهذه المرحلة مارس الأئمّة القريبون منها (الجواد/ الهادي/ العسكري) مجموعة خطواتٍ مفصليّةٍ ومهمةٍ وضروريّةٍ… من هذه الخطوات:
(1) الروايات المكثفة التي تتحدّث عن «ظاهرة الغيبة والاستتار»..
وقد أشرنا إلى ذلك في حديثنا السابق وهذه الخطوة ضروريّة جدًا لتهيئة الذهنيّة لهذه الظاهرة الجديدة غير المألوفة في حياة الأئمّة عليهم السَّلام.
(2) تكثيف ظاهرة «الوكلاء» للأئمّة.
أخذ الأئمّة من المرحلة المتأخرة يكثّفون من ظاهرة «الوكلاء» والذين انتشروا في كلّ المناطق والبلدان التي يتواجد فيها الشيعة المنتمون إلى مدرسة الأئمّة من أهل البيت وهذا التكثيف لظاهرة الوكلاء يرجع إلى سببين:
السبب الأول: الاتساع الكبير للقاعدة الشيعيّة (أتباع الأئمّة).. ورغم الحصار السّياسيّ والمذهبيّ الذي كانت تمارسه أنظمة الحكم في العهدين الأمويّ والعباسيّ ضدّ الأئمّة وضدّ أتباعهم وشيعتهم فقد ازداد أتباع أهل البيت، ولذلك يؤكّد الدارسون لتاريخ الأئمّة أنّ عهد الأئمّة من أبناء الرّضا عليه السّلام (الجواد والهادي والعسكري) قد اتّسم باتساع رقعة انتشار التشيّع، وهذا فرض أن يكون للأئمّة وكلاء في كلّ البلدان التي تواجد فيها أتباعهم وشيعتهم، لأنّ التواصل مع الإمام مباشرة أصبح صعبًا وعسيرًا.
السبب الثاني: التهيئة لنظام النيابة والوكالة في عصر الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عليه السلام، حيث سيكون هذا النظام هو «البديل» لوجود الإمام وحتى لا يتفاجأ الشيعة بهذه الطريقة مارس الأئمة المتأخرون القريبون من عصر الإمام المهديّ نظام النيابة بشكلٍ مكثّف لتدريب أتباعهم وشيعتهم على هذا الأسلوب، وليألفوا وجود الواسطة بينهم وبين الإمام…
(3) إعداد كوادر قياديّة مؤهّلة لتملأ الفراغ نتيجة غياب الإمام المهديّ…
وقد مارس الإمامان الهادي والعسكري دورًا كبيرًا في إعداد هذه الكوادر حتى لا تبقى السّاحة فارغة حينما يغيب الإمام، مما يدفع ببعض أصحاب الأطماع المنحرفة ليملأوا ذلك الفراغ، هذا ما جعل الأئمّة يخطّطون بدقة لتحصين خطّ القيادة من عبث العابثين في تلك المرحلة الخطيرة جدًا، وعند ذلك المنعطف في تاريخ المسيرة الشيعيّة المنتمية إلى مدرسة الأئمّة من أهل البيت عليهم السّلام…
وقد استطاع الأئمّة عليهم السّلام أن يوفّروا عددًا كافيًا من تلك الكوادر القياديّة المؤهّلة والتي تمتلك مجموعة مؤهلات أساسيّة:
• المؤهّل الإيمانيّ الصلب لأنّ المرحلة في حاجة إلى مستويات صُلبة الإيمان بخطّ الأئمّة الأطهار، لا تسقط أمام التحديات والإغراءات والمساومات.
• المؤهّل العلميّ والثقافيّ الكبير لتكون قادرة على تغطية حاجات المرحلة ومتطلباتها… وإلاّ تاهت المسيرة وانحرفت.
• مؤهّل التقوى والورع في أعلى الدرجات والمستويات، لتوفير القدوات الصالحة في ظلّ غيبة الإمام المعصوم….
هكذا حرص الأئمّة على إنتاج هذه الكوادر القياديّة الصالحة والقادرة على تحمّل المسؤوليّات كما تفرضها حاجات المرحلة..
ومن النماذج التي أعدّها الأئمّة لتلك المرحلة:
1- عثمان بن سعيد العمريّ ويقال له (السمّان) لأنّه كان يتّجر بالسمن تغطية لمهمته الخطيرة جدًا..
كان الشيعة إذا حملوا إلى الإمام العسكري رسائل أو أموالاً بواسطة عثمان بن سعيد العمري يضعها في جِراب السمن وزقاقه، ويوصلها إلى الإمام…..
وقد أعطى الإمامان الجواد والعسكري عثمان بن سعيد العمري ثقة كبيرة جدًا.
يقول أحمد بن إسحاق القمّي «من الفقهاء الأجلاء الثقات المعتمدين»: دخلت على أبي الحسن عليّ بن محمد [الإمام الهادي] صلوات الله عليه في يوم من الأيام فقلت: يا سيدي أنا أغيب وأشهد ولا يتهيّأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كلّ وقت، فقول مَنْ نقبل وأمر مَنْ نمتثل؟
فقال لي صلوات الله عليه: «هذا أبو عمرو [عثمان بن سعيد] الثقة الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاه إليكم فعنّي يؤدّيه…».
يقول أحمد بن إسحاق – نفسه – فلمّا مضى أبو الحسن [الإمام الهادي] عليه السّلام وصلت إلى أبي محمد ابنه الحسن العسكري عليه السّلام ذات يوم فقلت له عليه السّلام مثل قولي لأبيه [الإمام الهادي]
فقال لي: «هذا أبو عمرو [يعني عثمان بن سعيد العمري] الثقة الأمين ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّى إليكم فعنّي يؤديه».
وجاء في كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: أنّ جماعة من شيعة اليمن دخلوا على الإمام الحسن العسكري عليه السّلام يحملون له بعض المال من الحقوق، فاستدعى الإمام عثمان بن سعيد العمري وقال له: «امض يا عثمان فإنّك الوكيل والثقة المأمون على مال الله واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال».
هكذا أعدّ الأئمّة (عثمان بن سعيد العمري) لمهمّةٍ خطيرةٍ جدًا، وهي مهمّة (السفارة) عن الإمام المهدي عليه السّلام، وهكذا تمَّ تعينه (أول سفير) للإمام المهدي حينما بدأت الغيبة الصغرى فلم يشكّ الشيعة في ذلك، وسلّم له كبار الفقهاء والعلماء الأجلاء.
للحديث صلّة إن شاء الله تعالى
موقف العلماء بين مطالبات السلطة ومطالبات الشارع:
السلطة تطالب العلماء المؤثّرين في السَّاحة بأن يستنكروا ما يحدث في الشارع…
والشارع يطالب العلماء بأن يكون لهم موقفهم الصريح والجريء في التصدّي لظلم السلطة وتجاوزاتها…
وماذا يقول العلماء؟
العلماء في مواقفهم لا ينطلقون من ضغطٍ هنا أو ضغطٍ هناك، إنّما ينطلقون من منطلقين أساسين:
المنطلق الأول: التكليف الشرعيّ الذي تحدّده الرؤية الفقهيّة المدروسة بدقّة ووفق كلّ الحسابات الموضوعيّة، في ضوء هذا التكليف يمارس العلماء مسؤوليّاتهم الروحيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، ويحدّدون مواقفهم في الحديث أو الصمت، في المساندة أو المعارضة، في المباركة أو التنديد لا يخشون إلاّ الله تعالى…
المنطلق الثاني: القراءة البصيرة لكلّ المعطيات التي على ضوئها يتحدّد شكل الموقف، وقوّة الموقف، وخيارات الموقف….
وإذا غابت هذه القراءة ارتبك الموقف، واهتزّ الموقف، وتاهت الخيارات…..
لا يعني هذا أنّ موقف العلماء معصوم لا يخطئ، فربّما أخطأت الرؤية الفقهيّة وربّما أخطأت القراءة للمعطيات، فتكون النتيجة خطأ الموقف…. إلاّ أنّ العلماء معذورون حينما يبذلون كلّ ما في وسعهم لاكتشاف التكليف الشرعيّ، ولقراءة المعطيات.
ثمّ لا يعني هذا أن لا يوجد من العلماء من يستسلم لضعفٍ أو مصلحةٍ أو مساومةٍ أو أغراءٍ فيتخلّى عن أداء مسؤوليّاته ووظائفه…..
ثمّ لا يعني هذا أن لا يوجد من العلماء من لا يملك الرؤية الفقهيّة الدقيقة، ولا يملك القراءة الموضوعيّة البصيرة…
نخلص إلى القول بأنّ الواجب على العلماء لكي يحدّدوا موقفهم في قضايا السّاحة أن يستنطقوا تكليفهم الشرعيّ، وقراءتهم البصيرة لكلّ المعطيات والنتائج….
وبعدها لا يهمّ عندهم أن تغضب سلطة أو يغضب شارع…..
لقد قال العلماء كلمتهم الجريئة في كلّ المطالب السياسيّة والدينيّة العادلة واستنكروا بوضوحٍ سياسات السلطة فيما فيه جور وظلم وتعدّي على الحقوق المشروعة… كان للعلماء موقفهم الصريح ضدّ التمييز، والتجنيس، والفساد بكلّ أشكاله، ومصادرة الحريات، والقمع الأمنيّ، وإلغاء الدستور، ومحاولات الهيمنة على المؤسّسات الدينيّة، وعدم توفير العمل للعاطلين وضدّ الكثير الكثير من تجاوزات السلطة…
وكذلك كان للعلماء موقفهم الصريح في خطاب الشارع، فالعلماء رفضوا ولا زالوا يرفضون كلّ الممارسات الضّارة بأمن البلد واستقراره، والضّارة بمصالح المواطنين وكلّ الممارسات التي فيها اعتداء على الأرواح والأموال والأعراض…..
كما دعا العلماء إلى ممارسة كلّ الأساليب السلميّة في المطالبة بالحقوق، وفي التصدّي للظلم والعبث والفساد…….
وإذا كان الشارع مُطالبٌ باعتماد الأساليب السلميّة، فالسلطة بدرجة أكبر وأكبر مُطالبةٌ أن لا تمارس أساليب العنف والقمع والإفراط في استخدام القوة، مهما كانت المبرّرات….
إنّ لغة الحوار هي الأقدر على معالجة الأزمات، وحلحلة الأوضاع، وتجنيب البلد المزيد من التوتّر والتصعيد والاحتقان والفوضى…
إنّ إصرار السلطة على عدم الاستجابة الجادّة والصادقة لنداءات الحوار المخلصة والتي أطلقتها القوى الدينيّة والسّياسيّة سوف يعقّد الأمور في هذا البلد، وبالتالي لن يكون هناك رابح….
من المستفيد من بقاء الأوضاع متأزّمة وبقاء الأمور متشنّجة؟
لا أحد.. فلماذا لا تبادر السلطة بخطوةٍ جريئةٍ لإنقاذ الوضع في الاستجابة للنداءات العاقلة والتي لا تريد إلاّ الخير لهذا البلد، ولهذا الشعب…
هناك من يقول لنا: أن لا جدوى في هذه اللغة مع النظام….
هناك من يقول لنا: إنّ الأمل مفقود…
فلا تضيعوا أوقاتكم في الكلام….
هناك من يقول لنا: جربتم لا تكرّروا المجرّب……
هناك من يقول، ويقول، ويقول..
وحتى لا تتحوّل هذه المقولات إلى واقعٍ يسيطر على كلّ النّاس، لا بدّ من أن تعالج الأمور، وأن تصغي السلطة لصرخات المحرومين، ولنداءات المخلصين، ولمبادرات الخيّرين، وتسمح بمشاركاتٍ حقيقيّة في صنع القرار السّياسيّ، وتبقى السلطة صاحبة المبادرة، فكلّ الملفات العالقة بيدها…..
وخشية أن يسيطر الإحباط على كلّ النفوس ويموت الأمل تمامًا، وعندها الويل كلّ الويل لهذا الوطن ولهذا الشعب، فالنفوس اليائسة تستسلم لأيّ خيار وإن حطّم الأخضر واليابس..
الفرصة لا زالت موجودة ما دام هناك عقل، وما دام هناك حكمة، وما دام هناك حبّ لهذا الوطن، وإخلاص لهذه الأرض..
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين…