حديث الجمعة 191: كيف نوفّق بين مسؤوليّة تغيير الواقع المنحرف، وضرورة مراعاة الواقع في اختيار الأساليب والمواقف؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصّلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين..
يستمر بنا الحديث في قراءة المرحلة التاريخيّة التي عاصرها الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام..
أثار حديثي السابق بعض التساؤلات:
من هذه التساؤلات: كيف نوفّق بين مسؤوليّة تغيير الواقع المنحرف، وضرورة مراعاة الواقع في اختيار الأساليب والمواقف..؟
التساؤل وجيه جدًا…
أعيد إلى ذاكرتكم ما قلته في حديثي السابق، لقد قلت أن هناك موقفين في التعامل مع الظروف الموضوعيّة المتحركة في السَّاحة.. وأقصد بالظروف الموضوعيّة: الأوضاع الثقافيّة، والأوضاع الاجتماعيّة، والأوضاع السّياسيّة، وكلّ ما له تأثير في صنع الواقع المتحرك حول الإنسان من عوامل داخليّة وخارجيّة……
في التعامل مع هذا الواقع هناك موقفان خاطئان…..
وحينما أطرح هذه القراءة فأنا لا أستهدف أحدًا أبدًا، فمن القبيح جدًا في مثل هذه المنعطفات الصعبة، والأوضاع المتأزّمة أن نعيش استهدافاتٍ ذاتيّة، أو أنانيّات منغلقة، ولا يعني هذا الهروبَ عن المصارحة حينما تفرض المسؤوليّة الشرعيّة المصارحة والمحاسبة والمراجعة…..
وعندما تحدّثت عن تعدّد القناعات الدينيّة والثقافيّة والسّياسيّة، وصنّفت هذا التعدّد إلى تعدّدٍ مقبولٍ وتعدّدٍ مرفوض….
هل في هذا ما يصادر حقّ الآخرين في الاختيار والانتماء؟
من أجل أن نحصّن حالات التعدّد والتنوّع في اتجاه التوحّد حول الأهداف الكبيرة المشتركة، ومن أجل حماية الواقع من التشظّى والشتات، يجب أن نؤسّس لتنوّعات واعية ومدروسة، وهذا الكلام قبل أن يكون موّجه للآخر ولقناعات الآخر هو موّجهٌ للذات، ولقناعات الذات، فما هي مبررات الانزعاج؟
ليس هناك خياراتٌ معصومة، فمطلوب منّا جميعًا أن نقترب من الخيار الأصلح إن استطعنا أن نتّفق على معايير الخيار الأصلح استنادًا إلى ضوابط الشرع وحسابات الواقع…..
وأنا واثق أنّ الحوارات الجادّة والهادفة والصادقة قادرةٌ على أن تقارب بين القناعات وبين الخيارات..
نعود للإجابة عن التساؤل المطروح في بداية الحديث…
قلت: إنّ هناك صيغتين للتعامل مع الظروف الموضوعيّة المتحرّكة ومع الواقع الضاغط:
الصيغة الأولى:
الاستسلام لهذه الظروف ولهذا الواقع ومن خلال هذا الاستسلام تتشكّل حالات الخنوع والتراجع والانهزام والتخلّي عن المسؤوليّات.
ويحاول هؤلاء المستسلمون أن يبرّروا لموقفهم هذا بمبرّرين:
المبرّر الأول: قسوة الظروف الضاغطة.
المبرّر الثاني: ضعف الإمكانات والقدرات.
فلا خيار إلاّ الصمت والانتظار إلى أن يأذن الله تعالى بالفرج…
لنا حول هذه الصيغة كلامٌ لا يتسع المقام لذكره… فلا تسقط مسؤوليّة الجماعة المؤمنة إلاّ وفق معايير الشرع…
الصيغة الثانية:
إلغاء كلّ الحسابات الموضوعيّة، ممّا ينعكس على طبيعة الأساليب والخيارات المعتمدة….
وهذه صيغة تحتاج إلى وقفةٍ ومراجعةٍ.
وهنا يأتي دور الإشكال المطروح:
إنّنا مطالبون أن نصحّح الواقع الفاسد المتحرّك حولنا: الواقع الثقافيّ، الواقع الأخلاقيّ، الواقع الاجتماعيّ، الواقع السّياسيّ، الواقع الاقتصاديّ….
في الوقت ذاته: مطلوب منَّا نضع حسابًا لهذا الواقع ونحن نحاول أن نتحرك ثقافيًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا….
ألا يشكّل هذا حالة التنافي والتعارض، وربّما يعطي مبرّرًا لانتهاج الصيغة الثانية التي تلغي حسابات الواقع ما دامت هي في صدد التحرك لتغيير هذا الواقع..
فكيف نتحرك لتغيير الواقع السّياسي الخاطئ ونحن مسؤولون أن نحرّك أساليبنا السّياسيّة حسب ما يفرضه هذا الواقع؟
وكيف نتحرّك لتغيير الواقع الثقافيّ الفاسد ونحن مسؤولون أن نحرّك أساليبنا الثقافيّة حسب ما يفرضه هذا الواقع؟
وكذلك الواقع الاجتماعيّ، والواقع الأخلاقيّ، والواقع الاقتصاديّ…
لحلّ هذا الإشكال نقول:
حينما قلنا بضرورة أن نحرّك أساليبنا السّياسيّة أو الثقافيّة أو الاجتماعيّة وفق حسابات الظروف الموضوعيّة المتحرّكة لا يعني هذا أنّ التحرّك يجب أن يكون محكومًا لإملاءات هذه الظروف وهذا الواقع…..
يعني حينما أتحرّك سياسيًّا في ظلّ واقع سياسيّ فاسد، فيجب أن لا تحكم حركتي السّياسيّة إملاءات هذا الواقع السّياسيّ الفاسد، فأظلم كما يظلم هذا الواقع، وأصادر الحريات كما يصادر هذا الواقع، وأمارس الفساد السّياسيّ كما يمارس هذا الواقع، وأتبنى النفاق السياسيّ والكذب السّياسيّ كما يمارس هذا الواقع، وأتخلّى عن كلّ الضوابط والمعايير الدينيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة كما تخلّى هذا الواقع و… و…. إلى آخره..
بل يجب أن تكون لحركتي السّياسيّة أهدافها ومعاييرها وقيمها التغييريّة والتصحيحيّة والإصلاحيّة، وإلاّ فلا مبرّر لهذا التحرّك إذا كان يشكّل استجابة لواقعٍ فاسد.
وهكذا الكلام بالنسبة للتحرّك الثقافيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ……
فلا يمكن أن أغيّر واقعًا ثقافيًّا فاسدًا إذا كان تحركي صدىً لهذا الواقع الفاسد..
ولا يمكن أنّ أغيّر واقعًا أخلاقيًّا فاسدًا إذا كان تحركي محكومًا لأخلاق هذا الواقع الفاسد..
أمّا ما نعنيه بضرورة أن نحرّك أساليبنا السّياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وفق حسابات الظروف الموضوعيّة المتحركة فشيء آخر، إنّ مسألة الحساب المطلوب في التعاطي مع الظروف الموضوعيّة هو أن نعتمد «الأساليب الأصلح والأنجح والأقدر على تحقيق الأهداف في ظلّ هكذا ظروف وهكذا أوضاع…
ولعلّ هذا هو المراد من «الحكمة» التي أكدّتها النصوص الإسلاميّة….
• «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ»
• «وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا»
ما معنى الحكمة في هذه النصوص؟
من المعاني التي ذكرها اللغويون لكلمة (الحكمة):
• «وضع الشيء في موضعه».
• «صواب الأمر وسداده».
وهناك معاني أخرى، إلاّ أنّ هذين المعنيين هما الأقرب إلى إيضاح «المدلول القرآنيّ»
فالحكمة قراءة الواقع بدقّة وبوعي وبصيرة واختيار «أساليب العمل» الناجحة والصائبة والسديدة وفق هذه القراءة..
الحكمة تعني:
أن يملك الدّعاة الإسلاميّون: الخبرة والتجربة والمرونة، فمن خلال هذه المكوّنات «الخبرة والتجربة والمرونة» تكون الخطوات في محلّها، وتكون الأساليب سديدة شريطة أن يضاف إلى ذلك «بصيرة فقهيّة ناضجة» و«رؤية إيمانيّة عميقة»..
من هنا يمكن أن نفهم الآية القرآنيّة التي تتحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في سورة الجمعة «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»
ما المقصود بالأميّين؟
هنا رأيان:
الرأي الأول: المراد من الأميّين مطلق العرب لأنّهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون في الغالب.
الرأي الثاني: وقيل المراد منهم أهل مكة نسبة إلى أم القرى.
• « يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ».
يعني آيات القرآن بما تحمله هذه الآيات من مفاهيم الإسلام، وقيمه وأحكامه وتعاليمه، وكلّ ما يتصل بالإنسان والحياة.
• « وَيُزَكِّيهِمْ».
يطهّر نفوسهم ومشاعرهم وعقولهم وسلوكهم من كلّ الشوائب والتلوّثات والانحرافات
• « وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ».
(الكتاب) يمثل النظريّة فيما تحمله من مضامين عقيديّة وفكريّة وروحيّة وأخلاقيّة واجتماعيّة وكلّ المجالات الحياتيّة، لأنّ الإسلام دينٌ شاملٌ كاملٌ مستوعبٌ لحاجات الإنسان في كلّ أبعادها المختلفة.
(وَالْحِكْمَةَ)
يفهم بعض المفسرين كلمة (الْحِكْمَةَ) هنا:
بكيفيّة تحريك المضمون في خطّ التطبيق العمليّ بحيث يتحوّل الإنسان إلى شخصٍ يفكر بواقعيّة وحكمة، فيزن الأمور بموازينها، ويضع الأشياء في مواضعها في ما هو التوازن بين النظرية والواقع(1)
وبتعبير آخر:
إنّ الرّسول صلىّ الله عليه وآله وسلّم كما يطرح المفاهيم والأفكار والرؤى والقيم والأحكام فإنّه صلّى عليه وآله وسلّم يعلّم النّاس «المنهج العمليّ الصائب» لتحريك تلك المفاهيم والأفكار والرؤى والقيم والأحكام…
فما أكثر ما يتوفّر الإنسان على المفاهيم الصحيحة إلاّ أنّه يتخبّط في تحريك تلك المفاهيم ويرتبك في عمليّة التطبيق….
أيّها الأحبّة – ونحن نعيش ذكرى ميلاد النّبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكرى ميلاد مولانا الإمام جعفر بن محمد الصّادق عليه السّلام – نستوحي مسؤوليتنا في ضوء النص القرآنيّ الذي تكلّمنا عنه..
ما هو المطلوب منّا في هذه الذكرى الكبيرة؟
مطلوب منّا (أولاً) أن نملك وعي الدين وعيًّا أصيلاً، في عصر كثرت فيه المفاهيم الدخيلة، والأفكار المنحرفة، فالحاجة كبيرة وكبيرة إلى امتلاك «البصيرة الإيمانيّة» حتى لا تختلط الأمور….
وهنا أؤكّد مرة أخرى على أهميّة «شعار المجلس العلمائي اقرأ إسلامك» بما يعنيه من إنتاج الوعي والبصيرة والفهم الأصيل للإسلام والدين..
ومطلوب منّا (ثانيًا) أن نحوّل الوعي الإيمانيّ إلى حركةٍ في السّلوك والممارسات، أيّ قيمة لمفاهيم وأفكار ورؤى تبقى متجمدّة في داخل الفكر وفي داخل الوعي….
أيّ قيمة لثقافةٍ لا تتحوّل إلى أخلاق عمليّة، وإلى التزاماتٍ نظيفة، وإلى أفعالٍ مستقيمة….
• «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ».
– آمنوا إيمانًا واعيًّا وبصيرًا
– وعملوا بما يفرضه هذا الإيمان من ممارساتٍ صالحةٍ على كلّ المستويات الفرديّة والأسريّة والاجتماعيّة والحياتيّة المختلفة..
– وتواصوا بالحقّ: ينصح بعضهم بعضًا في ضوء مفاهيم الحقّ، وليس وفق الأمزجة والمصالح الذاتيّة.
– وتواصوا بالصبر: في مواجهة التحدّيات التي تحاصرهم عقيديًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا…
وهذا يفرض مزيدًا من التواصل والتلاقي والتوحّد والتقارب على أسسٍ من العقيدة والمبادئ وأحكام الدّين…
ومطلوبٌ منّا (ثالثًا) أن نملك الحكمة في كلّ مواقفنا المتحرّكة، فيما تعنيه الحكمة من قراءةٍ بصيرةٍ لكلّ مكوّنات الواقع، وفيما تعنيه من اختيارٍ مدروسٍ لكلّ الأساليب، على مستوى الخطاب وعلى مستوى الممارسة….
على مستوى الخطاب الدّينيّ ومستوى الممارسة الدينيّة..
على مستوى الخطاب الثقافيّ ومستوى الممارسة الثقافيّة..
على مستوى الخطاب الاجتماعيّ ومستوى الممارسة الاجتماعيّة..
على مستوى الخطاب السّياسيّ ومستوى الممارسة السّياسيّة..
طبعًا الدّين في منظومته الفكريّة يحتضن الثقافة والاجتماع والسّياسة، فيجب أن لا نفهم من هذا التصنيف محاولة إقصاء الدّين عن مواقع الثقافة والاجتماع والسّياسة وإنّما هذه المواقع قد تنفصل عن الدّين..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين