كلمة رثاء في ذكرى عاشوراء الحسين (ع) 1430هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين…
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…
إنّا لله وإنّا إليه راجعون..
من هناك، من عالمٍ الخلودٍ أطلّت الزهراءُ ترقبُ مشهد عاشوراء…. تحرّك المشهدُ المفجع أمام ناظرها….
وفي مناجاةٍ والهةٍ باكيةٍ ثاكلة:
ولدي حسين قتلوك مظلومًا….
ولدي حسين ذبحوك عطشانًا….
ولدي حسين مزّقوا قلبكَ بسهم مثلّث….
ولدي حسين هشّموا صدرك بحوافر الخيول….
ولدي حسين صعد الشمر على صدرِك واحتزّ رأسَك….
ولدي حسين حملوا رأسك فوق الأسنّة والرماح….
ولدي حسين ذبحوا رضيعك من الوريد إلى الوريد….
ولدي حسين قتلوا جميع أهلك وأنصارك….
ولدي حسين حرقوا خيامك….
ولدي حسين لاحقوا نساءَك وأطفالَك بالسياط….
ولدي حسين طافوا بولدك العليل وببنات رسول الله في البلدان أسارى….
ولدي حسين… المشتكى إلى الله والموعد القيامة…
ولدي حسين… سوف يهيئ الله لك شيعة يبكونك جيلًا بعد جيل، ودهرًا بعد دهر..
فإليهم منِّي السّلام والدعوات… والجزاء يوم العرض الأكبر..
وعليكِ السّلام يا ابنة محمد المصطفى..
فهاهم شيعتكم يواسونكِ الحزن والبكاء على ولدك الحسين.. ويعيدون الفاجعة جيلًا بعد جيل، حتى يكحل الله نواظرهم بطلعة القائم من ولدك الثائر لدمِ الحسين..
يا حسين يا حسين يا حسين…
أيَّها الحزنُ الساكنُ في قلب كلِّ شيعي…
أيّها الدمعةُ المقيمةُ في عينِ كلِّ شيعي…
أيّها الجرحُ النازف في جسد كلِّ شيعي…
ها هم شيعتك يبكونك وأنت تقدّم أول قربان من أهل بيتك على أرض الشهادة..
شابّ من شبان كربلاء، ارتسمت فيه الصورة الكاملة لرسول الله صلّى الله عليه وآله..
جاءك مشتاقًا إلى الشهادة..
احتضنتَه، ضممتَه إلى صدرك، قبّلته، اعتنقته طويلًا…
أذنت له… لاحقته نظراتُك الممزوجة بالدموع والدعوات، والآهات والحسرات…
مشى عليٌّ الأكبر صوب المعركة، وهو يحمل هيبة محمدٍ صلّى الله عليه وآله، وعنفوان عليٍّ وشموخ الحسين….
صال وجال…
فتساقطت الرؤوس..
وتناثرت الأشلاء…
وسالت الدماء
وذكّر القوم ببدر وحنين…
وفي لحظة مشؤومة….
جاءته طعنةٌ غادرة….
واستقرَّ سهم طائش في حلقه…
وهوى سيفٌ حاقدٌ فلق هامته…
اعتنق الفرس المذعور، حمله إلى معسكر الأعداء فتشابكت السيوف والسهام والرماح على جسد الأكبر، فما أبقت موضعًا إلَّا مزّقته، فتسربل الجسد الطاهر بالجراحات النازفة، وهوى إلى الأرض يغوصُ في بحر من دماء..
وكانت كلماته الأخيرة: «أبتاه عليك مني السّلام، هذا جدّي رسول الله (ص) قد سقاني بكأسه الأوفى شربةً لا أظمأ بعدها أبدًا»
وشهق شهقة، وفارقت روحه الدنيا..
يا حسين يا حسين يا حسين…
أيّها الحزنُ الساكنُ في قلب كلِّ شيعي…
أيّها الدمعةُ المقيمةُ في عينِ كلِّ شيعي…
أيّها الجرحُ النازفُ في جسد كلِّ شيعي…
وقربان آخر من قرابين الشهادة…
القاسم بن الحسن…
غلام في عمر الزهور، تبتسم أمامه كلّ أحلام الطفولة البريئة، تموج في داخله آمال الحياة، ولكنّ الأقدار شاءت أن تموت في هذا العمر نسمات الربيع، ليبدأ عمر آخر يحمل عبقًا أبديًا فيه روح وريحان إنّه عبق الجنان..
وشاءت الأقدار أن تموت فيه أحلام الطفولة وآمال الحياة، لتصحوَ في داخله أحلام الشهادة وتبتسم له آمال الشهداء..
– عمّاه أنا مشتاق إلى الموت..
– وكيف تجد الموتَ يا بني؟
– فيك يا عم أحلى من العسل..
وهاجت بالحسين ذكرياتٌ وذكريات، وهو يحدّق في عيني الغلام، ويتملّى من قسماتِه، ويستحضر من خلال صورتِه صورةً لأخيه السبط المجتبى..
دمعت عينُ الحسين وهو يقرأ في القاسم تاريخًا أيقظ فيه شوقًا وحنينًا إلى أخيه الحسن..
أحتضن الحسينُ الغلام، ضمّه إلى صدره، أعتنقه طويلًا….
والقاسم يتوسل ضارعًا بعمه أن يأذن له في القتال، فقد اشتاق إلى الشهادة، واشتاق إلى جده رسول الله صلّى الله عليه وآله..
وزينب الحوراء ترقب هذا المشهد في ذهول، الحسين يتجرّع الآهاتِ والحسرات، تتسارعُ في عينيه الدموعُ والعبرات، وقد هاجت به الهموم والغموم والكربات… أيُسلم غلامًا في عمر الورود والزهور إلى السيوف والرماح والسهام…
ويستمر الغلام في التوسلِ والضراعة…
وبكلماتٍ ممزوجةٍ بدموعٍ وآلامٍ وآهات أذن الحسين للقاسم أن يمضي إلى الموت…
انقضت عمته زينب، أمسكت بالغلام، احتضنته، ضمته، أحاطته بقبلات وصاحت بالنساء الوالهات الثاكلات..
فتصايحن يودّعن الغلام..
مشى القاسم راجلًا إلى ميدان القتال في رجليه نعلان، وعليه قميص وأزار، وبيده سيف….. وهو يحمل في داخلِهِ عنفوان الأبطال، وشمم الرجال الأحرار….
غير آبهٍ بالجيوش المزدحمةِ، والخيول المحمحمة، وصال وجال وقاتل مقاتلة الشجعان…
وشاء القدر أن ينقطع شِسعُ نعله…
انحنى شبل الحسن يصلح نعله وبين جوانحه شموخُ عليٍّ، وكبرياء الحسين، غير مبالٍ بالسيوفِ والرماحِ والسهام..
وهنا يتقدّم إليه لئيم غاشم لا يملك شيئًا من دين أو قيم أو ضمير…
رفع سيفه الحاقد وهوى به على رأس الغلام…. سقط القاسم على الأرض مناديًا: عمّاه أدركني…
أنقضَّ الحسين، جلس عند رأس الغلام، وهو يفحص برجليه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة…
يا حسين يا حسين يا حسين…
أيّها الحزنُ الساكنُ في قلب كلِّ شيعي…
أيّها الدمعةُ المقيمةُ في عينِ كلِّ شيعي…
أيّها الجرحُ النازف في جسد كلِّ شيعي…
وقربان ثالث من قرابين الشهادة…
العباس بن علي..
كم هي اللحظةُ قاسيةٌ وقاسيةٌ على قلبِ الحسين…
حينما استأذنه أخوه العباس للقتال..
صمت الحسينُ، تنهَّد تنهّدًا ثقيلًا، تأوّه تأوّها صعبًا، ازدحمت في عينيه الدموع..
وخرجت كلماته مفجوعةً حزينة: «أخي أبا الفضل اطلب لهؤلاء الأطفال قليلًا من الماء»
امتطى العباس فرسه، أخذ سيفه ورمحه، وحمل القربة معه، ويمّم صوب الفرات…
ولاحقته نظراتُ الحسين، ودعواتُ الحسين، وآهاتُ الحسين، ودموعُ الحسين…
وعلى ضفافِ الفرات، كان الجيش يحاصرُ الماء، هجم العباس وهو يزأر زئير الأسد الغضوب…
وبعد قتالٍ ونزالٍ فرَّ القومُ اللئامُ مذعورين هاربين، وامتلكَ شبلُ علىٍّ المشرعة..
ملأ القربة، وعاد وهمُّه الخيامُ والأطفال العطاشى الظامئون…
قطع القوم عليه الطريق، حالوا بينه وبين الخيام، ازدحمت حوله الخيلُ والرجال، احتوشوه من كلِّ جانب.. شهروا في وجهه السيوفَ والصوارم، أمطروه بالرماح والسهام..
اشتد غضبُ العباسِ، فصال وجال، وجندل الرجال والأبطال، مصممًا أن يصلَ الماءُ للخيام والأطفال….
إلَّا أنَّ السهام الطائشةَ أصابت القربةَ فأريق ماؤها..
وقف شبلُ عليٍّ مهمومًا كئيبًا حائرًا….
فصرخات الصبايا من بنات الرسالة «عمّاه العطش العطش» لا زالت تملأ سمعه ومشاعره…
فماذا يفعل والماء قد أريق..؟
لا خيار إلَّا القتال والثأر من هؤلاء المنافقين الحاقدين….
وصمّم على الموت والشهادة..
وبينما هو يقاتل كمَنَ له غادرٌ فاجر، رفع السيف اللئيم فقطع منه اليمين….
ثم كمن له غادرٌ آخر فقطع منه الشمال، وهكذا بقي العباسُ مقطوعَ اليدين…
وظلَّ يصول ويجول لا يأبه بنزفِ الدماء…
واستمرت السهامُ الحاقدةُ كالمطر..
فجاءه سهمٌ أهوج استقرَّ في عينه اليمنى..
وجمدت الدماءُ على عينه اليسرى…
وجاءه سهم آخر مزّق صدره….
لك اللهُ يا أبا الفضل……
قطعوا منك اليدين…
خسفوا منك الصدرَ والعين…
وفي لحظةٍ من لحظاتِ الدهر الخؤون جاء الغادرُ الفاجرُ وهوى بعموده الحاقد، وفلق هامةَ العباس..
فانقلب عن ظهر فرسه، وسقط إلى الأرض صريعًا، مثقلًا بالجراحاتِ ونزفِ الدماء مناديًا «أخي أبا عبد الله عليك منِّي السَّلام»
يا حسين يا حسين يا حسين
أيّها الحزنُ الساكنُ في قلبِ كلِّ شيعي…
أيّها الدمعةُ المقيمةُ في عينِ كلِّ شيعي…
أيّها الجرحُ النازف في جسد كلِّ شيعي…
وقربان رابعٌ من قرابين الشهادة…
الطفل الرضيع…
ما أقسى تلك القلوب التي تحجّرت، ذبحوا حتى الطفولة البريئة…..
كان للحسين طفلٌ رضيع، ولما اشتدّ الحصار على مخيّم الحسين ومُنع الماء، أوشك هذا الطفل أن يموت من شدة العطش… تلظّى قلبه ظمأ، جفّ لسانه، ارتعشت أعضاؤه….
أسرعت أمه إلى الحسين قائلة: «أطلب لهذا الرضيع قطرة ماء»…
تركت الطفل بين يديه…
نظر إليه الحسين،، نظر إلى عينيه الغائرتين من العطش، نظر إلى وجنتيه الذابلتين…
نظر إلى يديه المرتعشتين…..
امتدت يد الحسين، لتلامس القلب المضطرب من شدة الظمأ….
فما تمالك الحسين إلّا أن احتضن طفله، ضمّه إلى صدره، طبع على وجنتيه قبلاتٍ حارةٍ، ممزوجةٍ بدموعٍ ساخنة، وأسرع به نحو القوم….
– أيَّها القوم ارحموا هذا الطفل الرضيع، أما فيكم قلبٌ ينبض بالرحمة؟
ما ذنب هذا الطفل الصغير؟
انظروا إلى عينيه الغائرتين من الظمأ…
اختلف القوم:
– فقال قائل: اسقوا الطفل ماء، فلا ذنب للصغار…
– وقال آخرون: لا تبقوا لأحد من هذا البيت باقية….
وكاد الجيش ينقسم………
وقطع حرملةُ نزاعَ القوم، فأرسل سهمًا ذبح الطفل الرضيع من الوريد إلى الوريد، وهو في حجر أبيه…
تلقى الحسين الدم بكفه ورمى به نحو السماء…
يا حسين يا حسين يا حسين
أيّها الحزنُ الساكنُ في قلبِ كلِّ شيعي…
أيّها الدمعةُ المقيمةُ في عينِ كلِّ شيعي…
أيّها الجرحُ النازف في جسدِ كلِّ شيعي…
وجاء دور الحسين قربان الشهادة الأكبر…
مضى الأصحاب صرعى فوق ثرى كربلاء..
ومضى الأهل ضحايا وقرابين شهادة..
وبقى الحسين وحيدًا فريدًا
وبقيت خيامٌ ضمت عليلًا أثقلته المحن والآلام..
وضمّت نساءً ثاكلاتٍ والهاتٍ نادبات…
وضمّت صبيةً وصبايا ذاهلاتٍ صارخاتٍ باكياتٍ…
صمّم الحسين على الموت..
وكانت لحظات الوداع الأخير.. وكانت نظرات الوداع.. وكانت كلمات الوداع..
فتنادبن – مخدرات الرسالة وعيالات النبوة- ينادين: الوداع الوداع…
وهناك في جوف خيمة يرقد عليل كربلاء..
تناهت إلى سمعه صرخات الوداع.. خرج من خيمته يتوكأ على عصا، وهو يرسل كلماتِه المفجوعة: أبتاه الوداع الوداع…
وتمازجت الصرخات، وضجت الأصوات، وأشتدّ البكاء والعويل…
وابن الزهراء يجول بطرفه يمينًا وشمالًَا:
من يقدّم لي جوادي؟
الله أكبر، يا لهول الموقف، من ترى يجرأ أن يقدّم للحسين جواد المنية؟
أسرعت بطلة كربلاء، زينب ابنة عليٍّ تقود الجواد: أخي حسين، أرأيت أختًا تقدّم إلى أخيها جواد المنية؟
دمعت عين الحسين… أرسل نظراتِه الأخيرة، وكلماته الأخيرة: عليكن منّي السّلام..
فتصارخن: الوداع الوداع والملتقى عند جدّنا المصطفى، وأبينا المرتضى، وأمنّا الزهراء في آمان الله يا حسين…
تقدّم الحسين إلى ميدان القتال، رابط الجأش، متوكلًا على الله، وقد ازدحمت أمامه جيوش الضلال، مصمّمة على سفك دمه، وهي تعلم أنّه سبط محمدٍ المصطفى صلّى الله عليه وآله، وهي تعلم أنّه ريحانةُ فاطمة ابنة محمد….. إلّا أنّ الشيطان قد استحوذ على قلوبهم…
وفي عزمة من عزمات أبيه أمير المؤمنين شدّ على القوم، وصال وجال، وروّى الأرض من دماء الأشرار..
افترقوا على إمامكم الحسين: فرقةٌ بالسيوف، وفرقةٌ بالرماح، وفرقةٌ بالسهام، وفرقةٌ بالحجارة، والحسين وحيدٌ فريدٌ يكثر من قول «لا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم»..
أثقلته الجراحات، وأرهقته نزف الدماء، وبينما إمامكم يقاتل جاءه من أبي الحتوف سهمٌ غادر، وقع في جبهته المقدسة سالت الدماء على الوجه الشريف…
وما هي إلّا لحظات حتى جاءه حجرٌ أصاب جبهته، فازداد نزف الدماء…
رفع المولى الحسين ثوبه يمسحُ الدمَ عن وجهه وعينيه…..
لك الله يا حسين…
لك الله يا ابن الزهراء…
بينما الحسين يمسح الدم عن وجهه وعينيه وفي لحظة على آل الرسول عظيمة..
«جاء السهمُ المثلثُ واخترق القلبَ المقدّس»
فقال الحسين:
«بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله»
ورفع رأسه إلى السماء وهو يقول:
«إلهي إنّك تعلم إنّهم يقتلون رجلًا، ليس على وجه الأرض ابن نبيٍّ غيره»
ثم أخرج السّهم من قفاه..
فانبعث الدم غزيرًا….
وضع يده فامتلأت دمًا، رمى به نحو السّماء فلم تسقط منه قطرة إلى الأرض..
وضع يده ثانيةً فامتلأت دمًا، صبغ به رأسه ووجهه ولحيته وهو يقول: «هكذا أكون حتى ألقى الله وجدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا مخضب بدمي، وأقول يا جدي قتلني فلان وفلان»
أعياه نزف الدماء، واشتدّ به الحال فجلس على الأرض ينوء برقبته….
انتهى إليه غادرٌ فاجر، شتم الحسين ثمّ ضربه بالسيف على رأسه…
افترش إمامكم التراب، تزاحمت عليه الضربات والطعنات…. فغشي على الإمام الحسين…
وجاء القدر المقدور…
خرجت زينب ابنة علي من الفسطاط إلى جهة الحسين، ومعها النساء والأرامل والأيتام «وإذا بالشمر اللعين يجثم فوق صدر الحسين» اهتز الكون، ماجت الأرض، تغيّرت العوالم، أظلمت الدنيا، هبّت ريح حمراء..
«بينما الشمر قابض على الشيبةِ الطاهرة يحزُّ نحر الحسينِ، حتى فصلَ الرأس المقدّس»
وهل انتهت قصة الجريمة؟
امتدت الأيدي الآثمة الحاقدة لتسلب الجسد الطريح….. سلبوا قميصه، سلبوا عمامته، سلبوا نعليه، سلبوا سيفه، سلبوا قطيفته، سلبوا ثوبه الخلق…..
وجاء بجدل اللعين فرأى الخاتم في إصبع الحسين… فقطع الإصبع وأخذ الخاتم..
استمرت رحلة الحزن والدموع…
وما كادت شمس العاشر تستتر عن الأنظار ليرسل الليل سدوله، ويبدأ القمر يلامس بضوءه المفجوع أشلاء الضحايا المتناثرة على ثرى كربلاء المصبوغ بدم الشهداء..
وبين حنايا الليل المحزون حاولت زينبُ وبناتُ الرسالة أن يذرفن بعض قطراتٍ من دموع…
إلاّ أنّ القوم اللئام ما تركوا الليل الكئيب أن يحتضن دموع الثكالى، وأنّات اليتامى هجموا على خيام النبوة…
أضرموا النار في أخبية الرسالة..
ونادى السجاد العليل: عليكن بالفرار يا بنات رسول الله…
فررن النساء والأطفال…..
وامتدت الأيدي الحاقدة، تنهب، وتسلب، وتضرب……
وزينب ابنة عليّ ترقب المشهد في ذهول وحيرة… فما عساها تصنع؟
ولا زالت صور الفاجعة حاضرة أمام ناظرها..
أخوها الحسين جسد مبضعٌ بالسيوف..
صدره هشمته الخيول…
قلبه مزقه سهمٌ مثلث…
رضيعه مذبوحٌ من الوريد إلى الوريد…
أخوه العباس عند النهر مقطوع اليدين….
شبله الأكبر مزقت جسده السيوف…
ابن أخيه القاسم مثخن بالجراحات والطعنات..
أصحابه عانقوا الموت..
ومشهدٌ آخر يتحرك أمامها:
أيتامٌ تتلوى على رؤوسهم السياط…
خيامٌ تلتهمها النيران…
عليلٌ مثقل بالآلام…
نساءٌ صارخات باكيات نادبات…
في زحمة هذه الصور المؤلمة….
وفي زحمة هذه المشاهد الفاجعة…
وفي زحمة هذه الخواطر الحزينة…
شدّها الشوق إلى جسد أخيها الحسين..
فانحدرت –في الليل – تتخطى أشلاء القتلى، حتى وقفت عند الجسد المقدس، وقد تسربل بالدماء…
وازدحمت عليه الرماح والأسنة والحجارة والسهام………
ألقت على الجسد الطاهر نظرات مفجوعة…
وأرسلت عبرات ساخنة..
وأطلقت آهات كئيبة….
ومدّت يدها إلى الجسد المقدّس…
وشدت طرفها على السماء: «اللهّم تقبّل منا هذا القربان»